صفحة جزء
[ ص: 401 ] ( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ) أكد تعالى بالقسم أيضا كفر الذين قالوا إن الله الذي هو خالق السماوات والأرض وما بينهما ، ثالث أقانيم ثلاثة ; وهي : الآب ، والابن ، وروح القدس . قال ابن جرير : وهذا قول كان عليه جماهير النصارى قبل افتراق اليعقوبية والملكانية والنسطورية ، كانوا فيما بلغنا يقولون : الإله القديم جوهر واحد يعم ثلاثة أقانيم ; أبا والدا غير مولود ، وابنا مولودا غير والد ، وزوجا متتبعة بينهما اهـ . فكان هو وكثير من المفسرين والمؤرخين المتقدمين يرون - بحسب معرفتهم بحال نصارى زمنهم ، وما يروون عمن قبلهم - أن الذين يقولون من النصارى أن إلههم ثالث ثلاثة هم غير الفرقة التي تقول منهم : إن الله هو المسيح ابن مريم ، وأن ثم فرقة ثالثة تقول : إن المسيح هو ابن الله ، وليس هو الله ، ولا ثالث ثلاثة ، وأما النصارى المتأخرون فالذي نعرفه منهم وعنهم أنهم يقولون بالثلاثة الأقانيم ، وبأن كل واحد منها عين الآخر ، فالآب عين الابن ، وعين روح القدس ، ولما كان المسيح هو الابن كان عين الآب وروح القدس أيضا ، ومن العجيب أن بعض متأخري المفسرين ينقلون أقوال من قبلهم في أمثال هذه المسائل ، ويقرونها ولا يبحثون عن حال أهل زمانهم ، ولا يشرحون حقيقة عقيدتهم ، وقد سبق لنا بيان عقيدة التثليث ، وكون النصارى أخذوها عن قدماء الوثنيين ، فارجع إلى تفسير ( ولا تقولوا ثلاثة ) ( 4 : 171 ) في أواخر سورة النساء ، راجع ( ص71 وما بعدها ج 6 ط الهيئة ) وبينا قبيلها عقيدة الصلب والفداء ، راجع ( ص20 وما بعدها ج 6 ط الهيئة ) ثم بينا عقيدة التثليث في تفسير الآية 17 من هذه السورة ( ص253 وما بعدها ج 6 ط الهيئة ) .

قال تعالى ردا عليهم : ( وما من إله إلا إله واحد ) أي قالوا هذا بلا روية ولا بصيرة ، والحال أنه ليس في الوجود ثلاثة آلهة ، ولا اثنان ، ولا أكثر من ذلك ، لا يوجد إله ما إلا إله متصف بالوحدانية ، وهو " الله " الذي لا تركيب في ذاته ، ولا تعدد . وهذه العبارة أشد تأكيدا لنفي تعدد الإله من عبارة لا إله إلا إله واحد ; لأن ( من ) بعد ( ما ) تفيد استغراق النفي وشموله لكل نوع من أنواع المتعدد وكل فرد من أفراده ، فليس ثم تعداد ذوات وأعيان ، ولا تعدد أجناس أو أنواع ، ولا تعدد جزئيات أو أجزاء ، والنصارى قد اقتبسوا عقيدة التثليث عمن قبلهم ، ولم يفهموها ، وعقلاؤهم يتمنون لو يقدرون على التفصي منها ، ولكنهم إذا أنكروها ، بعد هذه الشهرة تبطل ثقة العامة بالنصرانية كلها . كما قال أحد عقلاء القسوس لبعض أهل العلم العصري من الشبان السوريين .

ومن الغريب أنهم يعترفون بأن هذه العقيدة لا تعقل ، ولكن بعضهم يحاول تأنيس النفوس بها ، بضرب أمثلة لا تصدق عليها ; ككون الشمس مركبة من الجرم المشتعل والنور والحرارة ، قال الشيخ ناصيف اليازجي : [ ص: 402 ] نحن النصارى آل عيسى المنتمي حسب التأنس للبتولة ( ؟ ) مريم فهو الإله ابن الإله وروحه فثلاثة في واحد لم تقسم للآب لاهوت ابنه وكذا ابنه وكذا هما والروح تحت تقنم كالشمس يظهر جرمها بشعاعها وبحرها والكل شمس فاعلم فهو يقول : إن ربهم جوهر له أعراض كسائر الجواهر والأجسام ، ولكن العرض ليس عين الذات ، فحرارة الشمس ليست شمسا ، ولا هي عين الجرم ، ولا عين الضوء ، فإذا لا يصح أن يكون الابن وروح القدس عين الآب ! وقد أورد صاحب إظهار الحق الحكاية الآتية في بيان تخبطهم في هذه المسألة ، قال :

" نقل أنه تنصر ثلاثة أشخاص ، وعلمهم بعض القسيسين العقائد الضرورية ، سيما عقيدة التثليث . وكانوا في خدمته ، فجاء محب من أحباء هذا القسيس ، وسأله عمن تنصر ، فقال : ثلاثة أشخاص تنصروا ، فسأله هذا المحب : هل تعلموا شيئا من العقائد الضرورية ؟ فقال : نعم ، وطلب واحدا منهم ليري محبه ، فسأله عن عقيدة التثليث فقال : إنك علمتني أن الآلهة ثلاثة ; أحدهم الذي هو في السماء ، والثاني الذي تولد من بطن مريم العذراء ، والثالث الذي نزل في صورة الحمامة على الإله الثاني بعد ما صار ابن ثلاثين سنة . فغضب القسيس وطرده ، وقال هذا مجهول ، ثم طلب الآخر منهم وسأله ، فقال : إنك علمتني أن الآلهة كانوا ثلاثة ، وصلب واحد منهم ; فالباقي إلهان ، فغضب عليه القسيس أيضا وطرده ، ثم طلب الثالث ، وكان ذكيا بالنسبة إلى الأولين ، وحريصا في حفظ العقائد ، فسأله ، فقال : يا مولاي حفظت ما علمتني حفظا جيدا ، وفهمت فهما كاملا بفضل السيد المسيح أن الواحد ثلاثة ، والثلاثة واحد ، وصلب واحد منهم ومات ; فمات الكل لأجل الاتحاد ، ولا إله الآن ، وإلا يلزم نفي الاتحاد .

أقول : لا تقصير للمسئولين ، فإن هذه العقيدة يخبط فيها الجهلاء هكذا ، ويتحير علماؤهم ، ويعترفون بأنا نعتقد ولا نفهم ، ويعجزون عن تصويرها وبيانها اهـ .

( وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم ) أي وإن لم ينتهوا عن قولهم بالتثليث ويتركوه ، ويعتصموا بعروة التوحيد الوثقى ويعتقدوه ، فوالله ليصيبنهم بكفرهم عذاب شديد الألم في الآخرة ، فوضع ( الذين كفروا ) موضع الضمير ; ليثبت أن ذلك القول كفر بالله ، وأن الكفر سبب العذاب الذي توعدهم به ، ويبين أن هذا العذاب لا يمس إلا الذين كفروا منهم خاصة بالتثليث أو غيره ، دون من تاب وأناب إلى الله تعالى ; إذ ليس عذاب الآخرة كعذاب الأمم في الدنيا ، يشترك فيه المذنبون وغيرهم ، وقيل : إن " من " بيانية .

[ ص: 403 ] ( أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ) الاستفهام هنا للتعجب من شأن هؤلاء الناس في تثليثهم ، وإصرارهم عليه ، بعد ما جاءتهم البينات المبطلة له ، والنذر بالعذاب المرتب عليه . والهمزة داخلة على فعل محذوف ، عطف عليه فعل التوبة المنفي ، والتقدير : أيسمعون ما ذكر من التفنيد والوعيد ، فلا يحملهم على التوبة والرجوع إلى التوحيد ، واستغفار الله تعالى مما فرط منهم ، والحال أن الله تعالى عظيم المغفرة واسع الرحمة يقبل التوبة من عباده ، ويغفر لهم ما سلف ، إذا هم آمنوا وأحسنوا فيما بقي ؟ إن هذا لشيء عجاب ، أو : أيصرون على ما ذكر ، بعد إقامة الحجة ، ودحض الشبهة ، فلا يتوبون ؟ إلخ .

التالي السابق


الخدمات العلمية