1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة المائدة
  4. تفسير قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون
صفحة جزء
( شبهة لعشاق الخمر ودحضها ) .

قال الإمام الرازي : زعم بعض الجهال أنه تعالى لما بين في الخمر أنها محرمة عندما تكون موقعة في العداوة والبغضاء ، وصادة عن ذكر الله وعن الصلاة بين في هذه الآية أنه لا جناح على من طعمها إذا لم يحصل معه شيء من تلك المفاسد بل حصل معه أنواع المصالح من الطاعة والتقوى والإحسان إلى الخلق قالوا ولا يمكن حمله على أحوال من شرب الخمر قبل نزول آية التحريم ، لأنه لو كان المراد ذلك لقال : " ما كان جناح على الذين عملوا " كما ذكر مثل ذلك في آية تحويل القبلة : ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) ( 2 : 143 ) لكنه لم يقل ذلك بل قال : ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح ) إلى قوله : ( إذا ما اتقوا وآمنوا ) ولا شك أن ( إذا ) للمستقبل لا الماضي واعلم أن هذا القول مردود بإجماع كل الأئمة .

وقولهم : عن كلمة " إذا " للمستقبل لا للماضي ، فجوابه ما روى أبو بكر الأصم أنه لما نزل تحريم الخمر قال أبو بكر : " يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القمار ؟ وكيف بالغائبين عنا في البلدان لا يشعرون أن الله حرم الخمر وهم يطعمونها " ؟ فأنزل الله هذه الآيات ( الصواب الآية ) وعلى هذا التقدير فالحل قد ثبت في الزمان المستقبل عن وقت نزول هذه الآية ، لكن في حق الغائبين الذين لم يبلغهم هذا النص : انتهى كلام الرازي بحروفه .

وأقول إن جوابه ضعيف فيما أقره وفيما رده إلا نقل الإجماع ، وقد كان رحمه الله على سعة اطلاعه في العلوم العقلية والنقلية غير دقيق في البلاغة وأساليب اللغة حتى إن عبارته نفسها ضعيفة ، فالصواب أن يقال في الرد على احتجاج أصحاب هذا التحريف :

( أولا ) إن قوله تعالى : ( ليس على الذين آمنوا ) إلخ ، ليس خبرا عمن نزلت الآية بسبب السؤال عنهم ، وإنما هي قاعدة عامة إنشائية المعنى ، يعلم منها حكم من مات قبل القطع بتحريم الخمر ، وحكم من نزلت الآية في عهدهم وتليت عليهم ، وحكم غيرهم من عصرهم إلى آخر الزمان ، وهذا أبلغ وأهم فائدة من بيان حكم المسئول عنهم خاصة .

( ثانيا ) إن قول المشتبهين : لو كان المراد من الآية بيان حكم الذين ماتوا لقال : " ما كان جناح على الذين طعموا " باطل ، وقوله تعالى : ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) الذي احتجوا به لا يدل على ما زعموا ، فإن مثل هذا التركيب يدل على نفي الشأن لا على نفي [ ص: 64 ] حديث مضى ، فمعناه : ما كان من شأنه تعالى ولا من مقتضى سنته وحكمته أن يضيع إيمانكم ، وقد بينا هذا من قبل غير مرة ونقلناه عن الكشاف فهو يعم الماضي والمستقبل ومثاله : ( ما كان لنا أن نشرك بالله ) ( 12 : 38 ) ويشبه العبارة التي قالوها قوله تعالى : ( ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له ) ( 33 : 38 ) ولم يقل أحد إنها لنفي الحرج في الزمن الماضي بل تعم نفيه في الحال والاستقبال ، وهو موضع الفائدة له صلى الله عليه وسلم منها .

( ثالثا ) لو كان معنى الآية ما ذكروه لأخذ به من شق عليهم تحريم الخمر من الصحابة ومن كان يميل إليهم بعدهم .

نعم إنه لولا ما ورد من سبب نزول الآية لكان المتبادر من معناها أنه ليس على المؤمنين الصالحين تضييق وإعنات فيما أكلوا ( وإن شئت قلت أو شربوا ) من اللذائذ كما توهم الذين كانوا حرموا على أنفسهم طيبات ما أحل الله لهم مبالغة في النسك إذا كانوا معتصمين بعرى التقوى في جميع الأوقات والأحوال ، راسخين في الإيمان متحلين بصالح الأعمال محسنين فيها ، لأن الله تعالى لم يحرم عليهم شيئا من الطيبات ، وإنما حرم عليهم الخبائث; كالميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله والخمر والميسر ، وأكل أموال الناس بالباطل إنما الجناح الحرج في الطعام والشراب على الكافرين الفاسقين الذين يسرفون فيهما ، ويجعلونها أكبر همهم من حياتهم الدنيا ، ولا يجتنبون الخبيث منهما ، فالعبرة في الدين بالإيمان والتقوى والعمل الصالح والإحسان فذلك هو النسك كله ، لا بالطعام والشراب وتعذيب النفوس وإرهاقها ، ولعل شيخنا لو فسر الآية لجزم بأن هذا هو المعنى المراد ، وأن ما ورد في سبب نزولها إذا صح يؤخذ الجواب عنه من فحوى الآية وهو أنه لا جناح على من كانوا يشربون الخمر قبل تحريمها لأن العمدة في الدين هو التقوى لا أمر الطعام والشراب الذي لا يحرم منه شيء إلا لضرره .

وإذا لم يراع سبب النزول في تفسير الآية فلا يمكن أن يقال : إن معناه " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات إثم فيما يشربون من الخمر " بعد القطع بتحريمها وتأكيده بما في سياق آيات التحريم من المؤكدات ، لأن كلمة ( طعموا ) لا مدلول له في اللغة إلا أكل الطعام في الماضي أو تذوق كل ما له طعم من طعام وشراب يقدم للفم في الزمن الماضي أيضا ، ولو صح أن يكون معنى الآية ما ذكروه لكان نسخا لتحريم شرب الخمر متصلا بالتحريم المؤكد ، أو تخصيصا له بغير أهل التقوى الكاملة من المؤمنين الصالحين ، وليس لهذا نظير في الإسلام ، ولا في غيره من الشرائع والأديان ، ولا يتفق مع بلاغة القرآن .

فإن قيل : إن الأفعال الماضية إذا وردت في سياق الأحكام التشريعية والقواعد العلمية تفيد التكرار الذي يعم المستقبل ، بمعنى أن هذا الفعل كلما وقع كان حكمه كذا فلم [ ص: 65 ] لا يجوز على هذا أن يكون معنى الآية رفع الحرج والمؤاخذة عن المؤمن إذا شرب قليلا من الخمر بالشروط الشديدة المبينة فيها ، ويدخل في عموم التقوى منها ألا يسكر ولا يكون بحيث توقع الخمر بينه وبين أحد من الناس بغضا ولا عداوة ، ولا بحيث تصده عن ذكر الله وعن الصلاة ؟

قلت : إن الطعم في اللغة لا يدل على الشرب القليل ولا الكثير بل على ذوق المشروب بمقدم الفم ، أو إدراك طعمه من ذوقه بهذه الصفة ، كما حرره الجوهري وتبعه ابن الأثير في النهاية ، وقد مر بيان ذلك ، وأنت ترى الفرق الجلي بين الشرب الكثير والشرب القليل وبين طعام الماء بتذوقه في قصة طالوت : ( قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم ) ( 2 : 249 ) فقد جعل هذا الابتلاء على ثلاثة مراتب : الأولى البراءة ممن شرب حتى روي والثانية الاتحاد التام بمن لم يذق طعمه البتة ، والثالثة بين بين ، وهي لمن أخذ غرفة بيده فكسر بها سور الظمأ ولم يكرع فيروه ، هذا ما جرينا عليه في تفسير الآية ( ص : 386 وما بعدها ج 2ط الهيئة ) وهو ما تغطيه اللغة وجرى عليه جهابذتها في تفسير اللفظ كالزمخشري وتبعه البيضاوي وأبو السعود والرازي والآلوسي وغيرهم ، وقالوا إن قوله : ( إلا من اغترف غرفة ) استثناه من قوله : ( فمن شرب منه ) إلا أن بعضهم خلط ، وأدخل في تفسير الآية ما لا يدل عليه لفظها ، تبعا للروايات أو لاصطلاحات الفقهاء فيما يحنث به من حلف أنه لا يشرب من هذا النهر مثلا ، وإذا كان هذا هو معنى طعموا فلا فائدة من إباحة تذوق طعم الخمر بمقدم الفم لأحد ، فيكون لغوا ينزه كتاب الله عنه .

ولو كان المراد من الآية ما ذكروه لكان نصها : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح في شرب القليل من الخمر أو ما لا يسكر ولا يضر من الخمر إذ ما اتقوا إلخ ، ولكن أجدر الناس بفهم ذلك منهم من أنزلت عليه صلى الله عليه وسلم ومن خوطبوا بها أولا من فصحاء العرب ، ولم يؤثر عن أحد منهم ذلك بل صح عنهم ضده .

روى أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مسكر حرام ، وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام " الفرق بفتح الراء وسكونها مكيال يسع ستة عشر رطلا ، وقيل : إن ساكن الراء مكيال آخر يسع 120 رطلا ، ورواة هذا الحديث كلهم محتج بهم في الصحيحين إلا أبو عثمان عمر أو عمرو بن سالم قاضي مرو التابعي ، فهو مقبول كما قال الحافظ في تقريب التهذيب ، ونقل في أصله توثيقه عن أبي داود وابن حبان . [ ص: 66 ] وروى أحمد وابن ماجه والدارقطني وصححه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما أسكر كثيره فقليله حرام " وروى مثله أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث جابر ، قال الحافظ ابن حجر : رواته ثقات ، في إسناده داود بن بكر بن أبي الفرات قال في التقريب : صدوق ، ولكن قال أبو حاتم الرازي : لا بأس به ليس بالمتين ، وسئل عنه ابن معين فقال : ثقة .

وروى النسائي والدارقطني عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره " وفي رواية أخرى ، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قليل ما أسكر كثيره " وأكثر رجال هذا الحديث قد احتج بهم البخاري ومسلم في الصحيحين ، وفيهم الضحاك بن عثمان احتج به مسلم في صحيحه ، فلم يبق إلا شيخ النسائي محمد بن عبد الله بن عمار نزيل الموصل ، قال الحافظ في تقريب التهذيب : ثقة حافظ فهذا حديث صحيح لا مطعون فيه ، ولا عبرة بما يوهمه كلام مثل العيني في هذا المقام ، فتحريم قليل كل مسكر وكثيره صح في عدة أحاديث وثبت بالإجماع .

قال الحافظ النسائي بعد رواية حديث سعد وما في معناه : وفي هذا دليل على تحريم المسكر قليله وكثيره ، وليس كما يقول المخادعون لأنفسهم بتحليلهم آخر الشربة وتحليلهم ما تقدمها الذي يشرب في الفرق قبلها ، ولا خلاف بين أهل العلم أن السكر بكليته لا يحدث عن الشربة الآخرة دون الأولى والثانية بعدها وبالله التوفيق اه . أي أن السكر يكون من مجموع ما يشرب لا من الشربة التي تعقبها النشوة .

التالي السابق


الخدمات العلمية