1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة المائدة
  4. تفسير قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون
صفحة جزء
[ ص: 77 ] ( أسباب ترجيح شرب الخمر الضار على حفظ الصحة والعقل والدين ) .

ثبت بالاختبار والإحصاء الذي عني به الإفرنج أن أكثر من يبتلون بشرب الخمر لا يقدمون على شربها إلا بإغراء القرناء والمعاشرين والأصحاب ، وأنهم يحتسونها في أول العهد إلا كرها ، لبشاعة طعمها ولاعتقاد الكثيرين منهم أنهم يقدمون على عمل منكر أو ضار ولكن غريزة التقليد في الإنسان وضعف إرادة أكثر الناس عن مخالفة العشراء والخلان ، هما اللذان يمهدان السبيل لطاعة الشيطان .

أما الشبهة التي يرجح به العالمون بضرر الخمر داعيتي التقليد ومواتاة العشراء أولا وطاعة غول الخمر آخرا على داعية المحافظة على صحة الجسم والعقل ، فهي ظنه أن الضرر المتيقن إنما يكون بالإسراف في الشرب ، والانهماك في السكر ، وأن شرب القليل من الخمر إما أن ينفع وإما ألا يضر ، فلا ينبغي أن يترك فيه من لذة النشوة والذهول عن المكدرات ومن مجاملة الإخوان ، لتوهم ضرر نجا منه فلان وفلان ، ولو سأل هؤلاء المخدوعون من سبقهم إلى هذه المحنة وأسرفوا في السكر حتى أفسد عليهم صحتهم وعفتهم وبيتهم وثروتهم : هل كنتم يوما بدأتم بشرب الإثم تنوون الإسراف فيه وإدمانه ؟ لأجابهم جميع من سألوهم أو أكثرهم لا لا ، وإنما كنا ننوي أن نشرب القليل ، وما كنا لنعلم أن القليل يقسرنا على الكبير ، ويرمينا بعد ذلك بالداء الوبيل حتى لا نجد إلى الخروج من سبيل; ومن هنا تعلم أن ما ذكرناه من قبل في تعلل شرب بعض المتعلمين الأطباء للخمر من أن العلم لا يستلزم العمل مبني على التسامح والأخذ بالظاهر فالعلم يستلزم العمل ما لم يعارضه ما هو أرجح منه .

وأما المؤمنون بتحريم الخمر فلهم شبهات متعددة لا شبهة واحدة فمنهم من تعلق بقول من ذهب إلى أن الخمر المتخذة من عصير العنب هي المحرمة لذاتها وأن ما عداها من المسكرات لا يحرم منه إلا القدر المسكر بالفعل ، أو الحسوة الأخيرة التي تعقبها نشوة المسكر ، وأولوا ما ورد في الأحاديث الصحيحة من النص على تحريم كل مسكر بأن لفظ المسكر وصف لموصوف محذوف ، وأن المراد أن المقدار المسكر من الشراب بالفعل هو الحرام وقد بينا رد هذا فيما سبق ، وأن لفظ مسكر في تلك الأحاديث اسم جنس يعم كل شراب من شأنه الإسكار ، ولذلك ورد في الصحيح مقرونا بكل كقوله صلى الله عليه وسلم : " كل مسكر خمر وكل مسكر حرام " كما تقدم لا يمكن أن يكون المعنى كل مقدار مسكر بالفعل يسمى خمرا ، كما هو بديهي عند كل من له شمة من هذه اللغة ، وكما يعرف بالعقل ، لما ترتب عليه من التناقض أيضا ، فإن المقدار المسكر لزيد ربما لا يكون مسكرا لعمرو ، ولا يزال بعض الناس يبحث عن بعض الأخبار والآثار حتى الضعيفة والموضوعة ليستدل بها على أن شرب القليل من المسكر غير محرم ، وإن كانت وقائع أحوال لا يحتج بها على فرض صحتها ويجعل ذلك مخرجا على نص القرآن والأحاديث المتفق عليها وعمل أهل الدين من السلف [ ص: 78 ] والخلف ، قد تقدم تفنيد المزاعم ودحض الشبهات التي يتوكأ عليها هؤلاء الناس وأمثالهم كالذين زعموا أن تحريم كل مسكر قد نسخ ، نعم روى الطحاوي من طريق الحجاج بن أرطاة أن ابن مسعود قال في حديث : " كل مسكر حرام " هي الشربة التي تسكر ، وحجاج هذا ضعيف ومدلس وما زعمه مردود لغة فلا يقوله مثل ابن مسعود .

وإنما نريد أن نشير إلى تعلات من يقدمون على شرب أي نوع من أنواع الخمر لأجل السكر وهم يعتقدون أن ذلك من كبائر المعاصي ، وفقد فات زمن الذين كانوا يغشون أنفسهم والناس بترك النبيذ الذي هو نقيع الزبيب والتمر ونحوهما زمنا يسكر فيه كثيره ثم قليله ويشربونه على توهم أنه حلال ، فإن سكروا أحالوا على غفلتهم عن الكثرة أو على جور السقاة عليهم وكابروا أنفسهم بأنهم لم يكونوا يقصدون السكر ، كما كان يقع من بعض المترفين في القرون الأولى ، حتى عزي إلى بعض الخلفاء العباسيين ، وبعض رجال العلم والدين .

من اختبر حال المبتدئين بشرب الخمر على اعتقاد ضررها في الدنيا ، والمبتدئين بشربهم على اعتقاد ضررها في الآخرة ، يرى بينهما شبها في أن كلا منهما ينوي في أول الأمر أن يقتصر على القليل الذي لا يترتب عليه فساد يذكر ، فأما الذين يقلدون من قالوا إن القليل من غير خمر العنب ليس كالكثير فيكون اطمئنانهم أشد ، وأما الذين يتبعون النصوص ويوافقون الجمهور في تحريم قليل ما أسكر كثيره فمنهم المتفقهة وغير المتفقهة فالمتفقهة يعللون أنفسهم أولا بمسألة علة التحريم وحكمته ، وقد فندنا شبهتهم هذه فيما سبق ، وغير المتفقهة يعتمدون على عفو الله تعالى قبل التعود والإدمان ، كما يعتمدون عليه هم والمتفقهة بعده عندما يعلمون بالاختبار والعمل أن قليل الخمر يفضي إلى كثيرها ، ويرون أنفسهم قد انغمست في شرورها ومفاسدها .

فالتكأة الأخيرة لمن يشرب الخمر من أهل الدين هي تكأة أكثر المرتكبين لسائر المعاصي وهي الغرور بكرم الله وعفوه ، إما بضميمة الاعتماد على بعض الأعمال الصالحة ولا سيما ما يسمى منها بالمكفرات ، أو على الشفاعات ، وإما بدون ضميمة ، ومن مكفرات الذنوب ما له أصل في السنة ومنها ما لا أصل له ، وما له أصل قيدوه بالصغائر أو بمقارنة التوبة له ، وقد فندنا جهل هؤلاء وغرورهم في مباحث التوبة الكفارة من تفسير سورة النساء ( راجع تفسير ) : ( إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ) ( 4 : 17 ) ( راجع ص268 وما بعدها ج4ط الهيئة ) وتفسير : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ) ( 4 : 31 ) [ ص: 79 ] ( في ص 39 وما بعدها ج5 ط الهيئة ) وهذا الجهل والغرور يرسخ في قلوب هؤلاء ، بما نظمه وينظمه لهم فساق الشعراء ، كقول أبي نواس الشهير بالسكر والفجور :


تكثر ما استطعت من المعاصي فإنك واجد ربا غفورا


تعض ندامة كفيك مما     تركت مخافة النار السرورا

وقوله من قصيدة يذكر بها استعانته بالخمر على الفجور بغلام نصراني هرب منه إلى دير وترهب فيه :


ورجوت عفو الله معتمدا     على خير الأنام محمد المبعوث

.

لو صح ما يهذي به هؤلاء الفجار ، لكان الدين كله لغوا وعبثا لا حاجة إليه وحاشا لله .

التالي السابق


الخدمات العلمية