1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة المائدة
  4. تفسير قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم
صفحة جزء
( يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) هذا النداء توطئة لبيان ما يجب على المحرم المعتدي في الصيد من الجزاء والكفارة في الدنيا ، سبق في أول السورة تحريم الصيد على من كان محرما بحج أو عمرة ومن كان في أرض الحرم ، وقد أعاده هنا ليرتب عليه جزاءه ، وتقدم هناك أن الحرم بضمتين جمع حرام وهو المحرم بحج أو عمرة وإن كان في الحل .

( ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم ) أي ومن قتل شيئا من الصيد وهو محرم قاصد لقتله فجزاؤه أو فعليه جزاء من الأنعام مماثل لما قتله في هيئته وصورته إن وجد ، وإلا ففي قيمته ، وقيل : في قيمته مطلقا وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك ، قرأ عاصم وحمزة والكسائي " فجزاء " بالرفع والتنوين و " مثل " الرفع والإضافة لما بعده ، وهو ظاهر ، وقرأ الباقون بإضافة جزاء إلى مثل وهو مخرج على أن مثل الشيء عينه ، على حد " ليس كمثله شيء " أو هو من قبيل خاتم فضة أي من فضة ، وأن المعنى فعليه جزاء الذي قتله ، أي جزاء عنه ، وقال الزمخشري : أصله " فجزاء مثل ما قتل " بنصب مثل بمعنى فعليه أن يجزي مثل ما قتل من النعم ثم أضيف كما نقول : عجبت من ضرب زيدا ، ثم من ضرب زيد اه .

قتل المحرم بحج أو عمرة الصيد حرام بالإجماع لنص الآية ، ولكن أكل المحرم ما صاده من ليس بمحرم مختلف فيه ، فقيل : يحرم مطلقا عملا بظاهر الآية الآتية ، وحديث الصعب بن جثامة عن أحمد ومسلم وغيرهما ، وقيل : يجوز مطلقا ، لما ورد من أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة أكلوا مما أهدي إليهم من لحم الحمار الوحشي وهو التحقيق الذي يجمع به بين الروايات كما يدل عليه حديث أبي قتادة في الصحيحين وغيرهما ، وهو الذي صاد الحمار الوحشي وأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الحديبية .

وقد اختلفوا في الصيد الذي نهت الآية عن قتله ، فقال الشافعي : هو كل حيوان وحشي يؤكل لحمه ، فلا جزاء في قتل الأهلي وما لا يؤكل لحمه من السباع والحشرات وهي كبيرة في مذهبه ، ومنها الفواسق الخمس التي ورد الإذن في حديث عائشة في الصحيحين وغيرهما بقتلها في الحل والحرم وهي الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور . [ ص: 87 ] وأخرجاه أيضا عن طريق مالك وأيوب عن نافع عن ابن عمر ، قال أيوب : قلت لنافع فالحية : قال : الحية لا شك فيها ولا يختلف في قتلها ، وألحق مالك وأحمد وغيرهما بالكلب العقور الذئب والسبع والنمر والفهد لأنها أشد ضررا منه ، وقال زيد بن أسلم وسفيان بن عيينة : الكلب العقور يشمل هذا السباع العادية كلها ، وذهب أبو حنيفة إلى وجوب الجزاء في قتل كل حيوان إلا الفواسق الخمس ، وجعل الذئب منها لأنه كلب بري ، والمراد بالغراب الأبقع الضار لا الأسحم الذي يؤكل فإنه صيد ، الحاصل أن الحيوانات الضارة التي تقل اتقاء ضررها ، لا جزاء على المحرم إذا قتلها ، طلب ذلك بعضهم ، قال الحافظ ابن كثير وقال مالك رحمه الله : لا يقتل الغراب إلا إذا صال عليه وآذاه ، وقال مجاهد بن جبر وطائفة : لا يقتله بل يرميه ، وروي مثله عن علي كرم الله وجهه ، وقد روى هشيم : حدثنا يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عما يقتل المحرم ؟ فقال " الحية والعقرب والفويسقة ( أي الفأرة ) ويرمي الغراب ولا يقتله والكلب العقور والحدأة " رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل والترمذي عن أحمد بن منيع كلاهما عن هشيم ، ثم ذكر أن الترمذي حسنه .

واختلفوا في اشتراط التعمد لوجوب الجزاء ، فذهب أكثرهم إلى أنه لا يشترط التعمد وقالوا : إن الكتاب دل على جزاء المتعمد وسكت عن جزاء المخطئ ولكن السنة مضت بأن عليه الجزاء أيضا ، قاله الزهري :

والجمهور على أن المتعمد والقاصد لقتله مع ذكره لإحرامه وعلمه بحرمة قتل ما يقتله ، ومنهم من يشترط نسيان الإحرام ، ولم نر للجمهور حديثا مرفوعا يدل على تغريم المخطئ ، ولا رواية صحيحة صريحة في كون ذلك كان من عمل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ، إلا ما رواه الحاكم عن عمر أنه كتب بذلك ، وروى الشافعي وابن المنذر عن عمرو بن دينار قال : رأيت الناس أجمعين يغرمون في الخطأ ، وما قاله الزهري أصرح منه ، ولكن لا يعد مثل هذه دليلا شرعيا ، ولذلك احتج الشافعي بالقياس على قتل الخطأ لا بالروايات ، ويشبه أن يكون قول عمرو بن دينار حكاية للإجماع ولكن لا يصح ، فالخلاف في المسألة مروي عن ابن عباس وطاوس وسعيد بن جبير كلهم صرحوا باشتراط العمد وعبارة طاوس : لا يحكم على من أصاب صيدا خطأ ، إنما يحكم على من أصابه عمدا ، والله ما قال الله إلا " ومن قتله منكم متعمدا " وروي عن ابن عباس ومجاهد وابن سيرين اشتراط العمد للقتل مع نسيان الإحرام ، والروايات في الخلاف مفصلة في الدر المنثور وغيره ، واشتراط العمد مذهب داود الظاهري ، وقد شرح الرازي استدلاله بالآية شرحا يؤذن باختياره له .

[ ص: 88 ] وروي عن سعيد بن جبير ما يصح أن يكون بيانا لسبب الخلاف لولا إجمال فيه ، وذلك قوله : إنما كانت الكفارة فيمن قتل الصيد متعمدا ولكن غلظ عليهم في الخطأ كي يتقوا ، وانتهى ولم يبين من أين جاء التغليظ ، فإن صحت الرواية عن عمر أنه كتب أن يحكم عليه في الخطأ والعند جاز أن يكون هذا اجتهادا منه في أحوال خاصة لسده ذريعة صيد العمد في حال الإحرام ، كما فعل في إمضاء الطلاق الثلاث باللفظ الواحد لمنع الناس منه ثم يتبعه الجمهور في هذا وذاك لأن الإمام الأعظم تجب طاعته في المسائل الاجتهادية ومراعاة المصلحة التي أرادها وعدم تعديها ، ومن لم يتبعه في ذلك ولا سيما بعد انقضاء خلافته يقول : إن اجتهاده ليس شرعا ولا دليلا من أدلة الشرع ، فكيف يؤخذ على علاته فيما كان كمسألتنا من المسائل المنصوصة في القرآن أو التي مضت فيها السنة قبله وفي صدر خلافته كمسألة الطلاق الثلاث ؟ هذا مع علمنا بأنه كان يخطئ فيرجع فيعترف بخطئه ويرجع عنه .

فإن قيل : إن العلماء المجتهدين قد اتبعوه في ذلك لإقرار الصحابة إياه عليه وعدم معارضتهم له كعادتهم فيما يرونه خطأ قلنا : إنه لم يثبت أنه عرض مسألة تغريم من قتل الصيد خطأ عن الصحابة وأقروه عليها ، وإنما قال الحكم : " إنه كتب ، ولم يقل لمن كتب " والظاهر إن صح أنه لبعض عماله ، ويحتمل أن يكون في واقعة حال اقتضت ذلك ونص كتابه لم يذكر في الرواية ، والحكم الذي روى هذا الأثر هو ابن عتيبة الكندي الكوفي كما يظهر من إطلاق اسمه وهو على توثيق الجماعة له من المدلسين كما قال ابن حبان في الثقات وقال فيه ابن مهدي : الحكم بن عتيبة ثقة ثبت ولكن يختلف معنى حديثه ، ولم نقف على رجال السند إليه عند الذين رووا الأثر عنه وهم ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور لنعرف درجة روايتهم ، وجملة القول أن هذا الأثر ليس بحجة ، وسيأتي ما صح من حكم عمر .

بعد كتابة ما تقدم راجعت تفسير شيخ المفسرين ابن جرير الطبري ، فإذا به قد أورد في روايته قول من قالوا : إن المراد من التعمد في الآية هو العمد لقتل الصيد مع نسيان قاتله لإحرامه حال قتله إياه ، وقول من قالوا : إنه العمد لقتله مع ذكر قاتله لإحرامه ولكنه ذكر في هذه الروايات قول من قالوا بالجزاء في العمد بالكتاب وفي الخطأ بالسنة أو لسد الذريعة وحفظ حرمات الله أي بالقياس ثم قال :

" والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال إن الله تعالى حرم قتل صيد البر على كل محرم في حال إحرامه ما دام حراما بقوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) ثم بين حكم من قتل ما قتل من ذلك في حال إحرامه متعمدا لقتله ولم [ ص: 89 ] يخصص المتعمد قتله في حال نسيانه إحرامه ، ولا المخطئ في قتله في حال ذكره إحرامه بل عم في إيجاب الجزاء على كل قاتل صيد في حال إحرامه متعمدا ، وغير جائز إحالة ظاهر التنزيل إلى باطن من التأويل لا دلالة عليه من نص كتاب ولا خبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إجماع عن الأمة ولا دلالة من بعض هذه الوجوه ، فإذا كان كذلك فسواء كان قاتل الصيد من المحرمين عامدا قتله ذاكرا لإحرامه ، أم عامدا قتله ناسيا لإحرامه ، أو قاصدا غيره فقتله ذاكرا لإحرامه ، فإن على جميعهم من الجزاء ما قال ربنا تعالى وهو : ( مثل ما قتل من النعم ) إلخ .

أقول : هذا هو الاستدلال الصحيح المبين ، لكن لا يظهر دخول القسم الأخير من التفصيل فيه ، وهو قوله : " أو قاصدا غيره فقتله ذاكرا لإحرامه " ; لأن هذا من قتل الخطأ لا العمد إلا أن يريد صورة معينة وهي أن يقصد قتل صيد غيره وهو ذاكر لإحرامه ، إذ يصدق عليه حينئذ أنه قصد قتل الصيد بإطلاق ، وأنه منتهك لحرمة الإحرام ، ولعل هذا هو المراد ، ويقرب منه ما إذا قصد رميه لجرحه لا لقتله ، وأما إذا رمى غرضا لا حيوانا أو حيوانا يباح قتله كالكلب العقور فأصاب سهمه أو رصاصه صيدا لم يكن يراه مثلا فلا جزاء فيه في هذا بمقتضى الدليل الذي قرره ، وسيأتي أن عمر قال في مثله إنه أشرك فيه العمد بالخطأ .

ثم قال ابن جرير : وأما ما يلزم بالخطأ قاتله فقد بينا القول فيه في كتابنا ( كتاب لطيف القول في أحكام الشرائع ) بما أغنى عن ذكره في هذا الموضع ، وليس هذا الموضع موضع ذكره لأن قصدنا في هذا الكتاب الإبانة عن تأويل التنزيل ، وليس في التنزيل للخطأ ذكر فنذكر أحكامه . اه .

واختلفوا في المثل المراد من الآية ، فذهب الجمهور إلى اعتبار مثل المقتول في خلقه كصورته وفعله وذهب إبراهيم النخعي إلى اعتبار القيمة وتبعه أبو حنيفة وأبو يوسف ، والأول مؤيد بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحكم علماء الصحابة ، روى أحمد ، وأصحاب السنن الأربعة ، وابن حبان ، والحاكم عن جابر قال " جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضبع يصيبه المحرم كبشا وجعله من الصيد " ; أي لأنه يؤكل لحمه كما ثبت في غير هذا الحديث أيضا ، وقد روي مرفوعا وموقوفا ، وذكر الترمذي أنه سأل البخاري عن هذا الحديث فصححه ، ورواه الدارقطني عن الأجلح بن عبد الله عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " في الضبع إذا أصابه المحرم كبش ، وفي الظبي شاة ، وفي الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة ، قال : الجفرة التي قد ارتعت ، والأجلح هذا قال أبو حاتم : لا يحتج بحديثه ، ووثقه يحيى بن معين ، وقال ابن عدي : صدوق ، قال الحافظ [ ص: 90 ] في تقريب التهذيب : صدوق شيعي من السابعة ، فاعتمد توثيقه ، وقال الشوكاني في نيل الأوطار : وحديث جابر أخرجه البيهقي وأبو يعلى وقالا : عن عمر رفعه ، وأما الدارقطني فرواه عن طريق إبراهيم الصائغ عن عطاء عن جابر يرفعه وكذلك الحكم ورواه الشافعي عن مالك عن أبي الزبير موقوفا على جابر وصحح وقفه الدارقطني من هذا الوجه .

وقال السيوطي في الدر المنثور : وأخرج ابن أبي شيبة والحاكم وصححه عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الضبع صيد فإذا أصابه المحرم ففيه جزاء كبش مسن وتؤكل " .

أقول : والحديث يدل على اعتبار السن في المماثلة فالعنز بالتحريك أنثى المعز كالنعجة من الضأن ، والعناق بالفتح الأنثى من ولد المعز قبل استكمالها السنة والجفرة بفتح الجيم الأنثى من ولد الضأن التي بلغت أربعة أشهر .

التالي السابق


الخدمات العلمية