صفحة جزء
إذا تمهد هذا فإننا ننقل للقراء بعده ملخص ما أورده الإمام البخاري في صحيحه في مسألة النهي عن السؤال ، ثم أورده الحافظ ابن حجر في شرحه له من الأحاديث وأقوال أشهر العلماء فيها . ثم ما قاله الإمام ابن حزم في القياس ، ثم خلاصة ما حرره العلامة ابن القيم من كلام شيخه ابن تيمية وما فتح الله عليه في مسألة القياس والرأي . ثم ما اعتمده العلامة الشوكاني فيها . ثم نأتي بخلاصة الخلاصة التي عقدنا لها هذا الفصل .

( أحاديث البخاري في كراهة السؤال ) .

عقد البخاري في صحيحه بابا في كتاب الاعتصام عنوانه : باب ما يكره من كثرة السؤال ومن تكلف ما لا يعنيه ، وقوله تعالى : ( لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) أورد فيه تسعة أحاديث :

( أولها ) : حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعا : " إن أعظم الناس جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته " ورواه مسلم بلفظ : " إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما " إلخ .

( الثاني ) : حديث زيد بن ثابت : " أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ حجرة في المسجد من حصير فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ليالي حتى اجتمع إليه ناس ففقدوا صوته ليلة فظنوا أنه قد نام ، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم فقال : ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم حتى خشيت أن يكتب عليكم ولو كتب عليكم ما قمتم به . فصلوا أيها الناس في بيوتكم ، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة " .

( الثالث ) : حديث أبي موسى الأشعري الذي تقدم ذكره في سبب نزول النهي عن السؤال وهو في معنى حديث أنس في ذلك ، ( ص 110 ط الهيئة ) .

( الرابع ) : حديث المغيرة بن شعبة الذي كتب به إلى معاوية لما سأله أن يكتب إليه ما [ ص: 124 ] سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ومنه . وكتب إليه : " أنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال " .

( الخامس ) : قول عمر : " نهينا عن التكلف " فهو في حكم المرفوع ، وسببه كما أخرجه رواة التفسير المأثور : أنه سئل عن الأب في قوله تعالى : ( وفاكهة وأبا ) ( 80 : 31 ) فقال ، وفي رواية لابن جرير أنه قال بعده : " ما بين لكم فعليكم به وما لا فدعوه " وروي أيضا أن ابن عباس فسر الأب عند عمر بما تأكل الأنعام أي من النبات فلم ينكر عليه ، قيل : إن كلمة الأب غير عربية ؛ فلذلك لم يعرفها عمر ولا أبو بكر ، كما روي بسندين منقطعين والأولى أن يقال : إنها غير قرشية أو غير حجازية . ولذلك عرفها ابن عباس لسعة اطلاعه على لغة العرب وكثير من الصحابة .

( السادس والسابع ) : حديث أنس المتقدم في سبب نزول ( لا تسألوا عن أشياء ) الآية . ( ص 107 ) .

( الثامن ) : حديث أنس مرفوعا : " لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقال : هذا الله خالق كل شيء ، فمن خلق الله ؟ " ورواه هو ومسلم في باب وسوسة الشيطان وغيره عن غير واحد من الصحابة .

وقد قفى البخاري على هذا الباب باب الاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم ، فباب ما يكره من التعمق والتنازع ، فباب إثم من آوى محدثا ، أي مبتدعا ، فباب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس .

خلاصة الأحاديث وأقوال العلماء في المسألة .

أورد الحافظ ابن حجر في أول شرح الباب الذي سردنا أحاديث ما ورد في معناها ما نصه :

" ويدخل في معنى حديث سعد ما أخرجه البزار وقال : سنده صالح وصححه الحاكم من حديث أبي الدرداء رفعه : " ما أحل الله في كتابه فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن ينسى شيئا " ثم تلا هذه الآية : ( وما كان ربك نسيا ) ( 19 : 64 ) .

" وأخرج الدارقطني من حديث أبي ثعلبة رفعه : " إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان لا تبحثوا عنها " ، [ ص: 125 ] وله شاهد من حديث سلمان أخرجه الترمذي وآخر من حديث ابن عباس أخرجه أبو داود .

" وقد أخرج مسلم وأصله في البخاري كما تقدم في كتاب العلم من طريق ثابت عن أنس قال : " كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ، وكان يعجبنا أن يجيء الرجل الغافل من أهل البادية فيسأل ونحن نسمع " فذكر الحديث ومضى في قصة اللعان من حديث ابن عمر : فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها .

" ولمسلم عن النواس بن سمعان قال : " أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة بالمدينة ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة ، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم " ومراده أنه قدم وافدا فاستمر بتلك الصورة ليحصل المسائل ؛ خشية أن يخرج من صفة الوفد إلى استمرار الإقامة فيصير مهاجرا ، فيمتنع عليه السؤال . وفيه إشارة إلى أن المخاطب بالنهي عن السؤال غير الأعراب وفودا كانوا أو غيرهم .

" وأخرج أحمد عن أبي أمامة قال : " لما نزلت ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء ) الآية . كنا قد اتقينا أن نسأله صلى الله عليه وسلم فأتينا أعرابيا فرشوناه برداء وقلنا : سل النبي صلى الله عليه وسلم " .

" ولأبي يعلى عن البراء " أن كان لتأتي علي السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء فأتهيب ، وإن كنا لنتمنى الأعراب ؛ أي قدومهم ليسألوا فيسمعوا هم أجوبة سؤالات الأعراب فيستفيدوها " .

" وأما ما ثبت في الأحاديث من أسئلة الصحابة فيحتمل أن يكون قبل نزول الآية ، ويحتمل أن النهي في الآية لا يتناول ما يحتاج إليه مما تقرر حكمه أو ما لهم بمعرفته حاجة راهنة ، كالسؤال عن الذبح بالقصب ، والسؤال عن وجوب طاعة الأمراء إذا أمروا بغير الطاعة ، والسؤال عن أحوال القيامة وما قبلها من الملاحم والفتن ، والأسئلة التي في القرآن ، كسؤالهم عن الكلالة والخمر والميسر والقتال في الشهر الحرام واليتامى والمحيض والنساء والصيد وغير ذلك ، لكن الذين تعلقوا بالآية في كراهية كثرة المسائل عما لم يقع ، أخذوه بطريق الإلحاق من جهة أن كثرة السؤال لما كانت سببا للتكليف بما يشق فحقها أن تجتنب .

" وقد عقد الإمام الدارمي في أوائل مسنده لذلك بابا ، وأورد فيه عن جماعة من الصحابة والتابعين آثارا كثيرة في ذلك ، منها عن ابن عمر : " لا تسألوا عما لم يكن فإني سمعت عمر يلعن [ ص: 126 ] السائل عما لم يكن ، وعن عمر : " أحرج عليكم أن تسألوا عما لم يكن ، فإن لنا فيما كان شغلا " وعن زيد بن ثابت أنه كان سئل عن الشيء يقول : " كان هذا ؟ فإن قيل : لا ، قال : دعوه حتى يكون " وعن أبي بن كعب وعن عمار نحو ذلك .

" وأخرج أبو داود في المراسيل من رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة مرفوعا ، ومن طريق طاوس عن معاذ رفعه : " لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها ، فإنكم إن تفعلوا لم يزل في المسلمين من إذا قال سدد أو وفق ، وإن عجلتم تشتت بكم السبل " وهما مرسلان يقوي بعض بعضا . ومن وجه ثالث عن أشياخ الزبير بن سعيد مرفوعا : " لا يزال في أمتي من إذا سئل سدد وأرشد حتى يتساءلوا عما لم ينزل " الحديث نحوه .

" قال بعض الأئمة : والتحقيق في ذلك أن البحث عما لا يوجد فيه نص على قسمين : ( أحدهما ) : أن يبحث عن دخوله في دلالة النص على اختلاف وجوهها ، فهذا مطلوب لا مكروه ، بل ربما كان فرضا على من تعين عليه من المجتهدين . ( ثانيهما ) : أن يدقق النظر في وجوه الفروق ، فيفرق بين متماثلين بفرق ليس له أثر في الشرع ، مع وجود وصف الجمع ، أو بالعكس ، بأن يجمع بين متفرقين بوصف طردي مثلا ، فهذا الذي ذمه السلف ، وعليه ينطبق حديث ابن مسعود رفعه : " هلك المتنطعون " أخرجه مسلم . فرأوا أن فيه تضييع الزمان بما لا طائل تحته . ومثله الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع ، وهي نادرة الوقوع جدا . فيصرف فيها زمانا كان صرفه في غيرها أولى ، ولا سيما إن لزم من ذلك إغفال التوسع في بيان ما يكثر وقوعه .

" وأشد من ذلك في كثرة السؤال البحث عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها . ومنها ما لا يكون له شاهد في عالم الحس كالسؤال عن وقت الساعة ، وعن الروح ، وعن مدة هذه الأمة إلى أمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف ، والكثير منه لم يثبت فيه شيء ، فيجب الإيمان به من غير بحث . وأشد من ذلك ما توقع كثرة البحث عنه في الشك والحيرة ، وسيأتي مثال ذلك في حديث أبي هريرة رفعه : " لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال : هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله ؟ " وهو ثامن أحاديث هذا الباب .

" وقال بعض الشراح : مثال التنطع في السؤال حتى يفضي بالمسئول إلى الجواب بالمنع بعد أن يفتي بالإذن أن يسأل عن السلع التي توجد في الأسواق ، هل يكره شراؤها ممن هي في يده من قبل البحث عن مصيرها إليه أو لا ؟ فيجيبه بالجواز ، فإن عاد فقال : أخشى أن يكون من نهب أو غصب ، ويكون ذلك الوقت قد وقع شيء من ذلك في الجملة ، [ ص: 127 ] فيحتاج أن يجيبه بالمنع ، ويقيد ذلك . إن ثبت شيء من ذلك حرم ، وإن تردد كره أو كان خلاف الأولى ، ولو سكت السائل عن هذا التنطع لم يزد المفتي على جوابه بالجواز .

" وإذا تقرر ذلك فمن يسد باب المسائل حتى يفوته معرفة كثير من الأحكام التي يكثر وقوعها ، فإنه يقل فهمه وعلمه ، ومن توسع في تفريع المسائل وتوليدها ولا سيما فيما يقل وقوعه أو يندر ، ولا سيما إن كان الحامل على ذلك المباهاة والمغالبة فإنه يذم فعله ، وهو عين الذي كرهه السلف .

" ومن أمعن في البحث عن معاني كتاب الله محافظا على ما جاء في تفسيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه الذين شاهدوا التنزيل ، وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه ومفهومه ، وعن معاني السنة وما دلت عليه كذلك ، مقتصرا على ما يصلح للحجة منها ، فإنه الذي يحمد وينتفع به .

" وعلى ذلك يحمل عمل فقهاء الأمصار من التابعين فمن بعدهم حتى حدثت الطائفة الثانية فعارضتها الطائفة الأولى ، فكثر بينهم المراء والجدال وتولدت البغضاء وتسموا خصوما وهم من أهل دين واحد ، والوسط هو المعتدل من كل شيء ، وإلى ذلك يشير قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الماضي " فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم " فإن الاختلاف يجر إلى عدم الانقياد ، وهذا كله من حيث تقسيم المشتغلين بالعلم .

وأما العمل بما ورد في الكتاب والسنة والتشاغل به فقد وقع الكلام في أيهما أولى . والإنصاف أن يقال : كل ما زاد على ما هو في حق المكلف فرض عين ، فالناس فيه على قسمين : من وجد في نفسه قوة على الفهم والتحرير ، فتشاغله بذلك أولى من إعراضه عنه ، وتشاغله بالعبادة لما فيه من النفع المتعدى ، ومن وجد في نفسه قصورا ، فإقباله على العبادة أولى ; لعسر اجتماع الأمرين ، فإن الأول لو ترك العلم ، لأوشك أن يضيع بعض الأحكام بإعراضه . والثاني لو أقبل على العلم وترك العبادة فاته الأمران لعدم حصول الأول له وإعراضه به عن الثاني والله الموفق " انتهى كلام الحافظ .

أقول : لله در الحافظ ، فإنه أتى بخلاصة الآثار وصفوة ما فسرها به أهل التحقيق من العلماء ، ولولا عموم افتتان الجماهير بالكتب الفقهية الملأى بما ذكر من الفروع التي نهى الشرع عن الخوض في مثلها ، وأجمع السلف على ذم الاشتغال بها لاكتفينا بما رواه البخاري وما حرره الحافظ في الشرح ، وقلنا فيه كما قال الإمام الشوكاني : لا هجرة بعد الفتح ، ولكن ما أشرنا إليه من جمود الجماهير على التقليد ، لا يزلزله هذا القول الوجيز المختصر المفيد ، فلا بد إذا من تفصيل القول في مسألة الرأي والقياس ، التي هي منشأ كل هذا البلاء في الناس ، وهاك ما قاله الإمام علي بن حزم في مسائل الأصول من مقدمة المحلى :

التالي السابق


الخدمات العلمية