صفحة جزء
[ ص: 133 ] ( ملخص ما حققه ابن القيم في الرأي والقياس ) .

عقد في أول كتابه ( إعلام الموقعين عن رب العالمين ) فصلا في تحريم الإفتاء في دين الله بالرأي المخالف للنصوص ، صدره بآيات أولها قوله تعالى : ( فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) ( 28 : 50 ) قال : فقسم الأمر إلى أمرين لا ثالث لهما إما الاستجابة لله والرسول وما جاء به ، وإما اتباع الهوى ، فكل ما لم يأت به الرسول فهو من الهوى ، وقفى على الآيات بطائفة من الأحاديث أولها حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا واللفظ للبخاري : " إن الله لا ينزع العلم بعد إذ أعطاكموه انتزاعا ، ولكن ينزعه مع قبض العلماء بعلمهم ، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون " وحديث عوف بن مالك الأشجعي : " تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة ، أعظمها فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم يحرمون به ما أحل الله ويحلون ما حرم الله " رواه الحافظ ابن عبد البر وغيره .

ثم أورد فصلا بل فصلين فيما روي عن علماء الصحابة كالخلفاء الأربعة والعبادلة وغيرهم في ذم الرأي ومنها قول عمر : " إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن ، أعيتهم الأحاديث أن يعوها ، وتفلتت منهم أن يحفظوها . فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا " وللأثر ألفاظ أخرى ، قال المصنف : وأسانيد هذه الآثار عن عمر في غاية الصحة .

ثم عقد فصلا آخر ذكر فيه ما احتج به أهل الرأي من إفتاء بعض هؤلاء الصحابة ومن بعدهم من التابعين وقضائهم بالرأي ، كقول عمر لكاتبه : " قل : هذا ما رأى عمربن الخطاب " وقول عثمان في الأمر بإفراد العمرة عن الحج : " إنما هو رأي رأيته " وقول علي في أمهات الأولاد : " اتفق رأيي ورأي عمر على ألا يبعن " وما نقل عن أبي بكر وعمر من القول والعمل على القضاء بكتاب الله إن وجد فيه الحكم وإلا فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن لم يوجد فيهما ما يقضى به ، جمعوا له الناس أو رؤساء الناس ، وفي رواية : علماء الناس وكلاهما صواب فقد كان الرؤساء علماء واستشاروهم ، وكان يكون القضاء بما يجتمع رأيهم عليه . وكان القراء أصحاب مشورة عمر ، وكان وقافا عند كتاب الله تعالى .

ومنه ما في كتاب عمر إلى شريح : " إذا وجدت شيئا في كتاب الله فاقض به ولا تلتفت إلى غيره ، وإن أتاك شيء ليس في كتاب الله فاقض بما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يسن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما أجمع عليه الناس ، وإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم فيه أحد قبلك فإن شئت أن تجتهد رأيك فتقدم ، وإن شئت أن تتأخر فتأخر ، وما أرى التأخر إلا خيرا لك " وفي رواية لابن جرير الاقتصار على أمره بأن يجتهد رأيه عند عدم [ ص: 134 ] النص . وعن ابن مسعود كلام بمعنى هذا ، إلا أنه قال في الحالة الثالثة لمن عرض عليه القضاء : " فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم فليقض بما قضى به الصالحون " وقال في الحالة الرابعة : " فليجتهد رأيه ولا يقل إني أرى وإني أخاف ، فإن الحلال بين والحرام بين ، وبين ذلك مشتبهات فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك " اهـ .

ومراد ابن مسعود بالصالحين هو عين مراد عمر بما أجمع عليه الناس في كتابه إلى شريح ، كالذين كان يستشيرهم رضي الله عنه .

أقول : هذا زبدة ما ورد في هذا الفصل وغيره بمعناه . وكله يتعلق بأمر القضاء إلا رأي عثمان في إفراد العمرة عن الحج ، فإنه في مسألة دينية ، وهو شاذ ولا حجة في مثل هذا بقول صحابي ، وهو لم يأمر أحدا بالعمل به ، بل تركه إلى الناس وهم مخيرون فيه شرعا . وأما القضاء بما ذكر من المراتب الأربع فهو ليس برأي صحابي واحد ، وإنما تلك سنتهم التي جروا عليها ، واهتدى بهم فيها سائر المسلمين فكانت إجماعا صحيحا . ولكن المتأخرين تركوا جمع العلماء لاستشارتهم فيما لا نص فيه ، اكتفاء بتقليد مذاهبهم . ولا حجة في هذه الطريقة ولا في أقوالهم فيها على جواز استخراج أحكام لم يرد فيها قرآن ولا سنة في العبادات والحلال والحرام ، كما فعل المؤلفون في الفقه ، وإنما الاجتهاد والرأي في الأقضية التي تحدث للناس في معاملاتهم وما في معناها من أمور السياسة ، وهي التي فوض الله أمرها إلى أولي الأمر بشرطه .

التالي السابق


الخدمات العلمية