صفحة جزء
( شمول النصوص للأحكام وتفاوت الأفهام فيها ) .

وقد صدر الفصل الأول بمقدمة نفيسة في نوعي الدلالة وتفاوت الأفهام في النصوص فقال :

( الفصل الأول ) في شمول النصوص وإغنائها عن القياس ، وهذا يتوقف على بيان مقدمة ، وهي : أن دلالة النصوص نوعان : حقيقية وإضافية . فالحقيقة تابعة لقصد المتكلم وإرادته ، وهذه الدلالة لا تختلف ، والإضافية تابعة لفهم السامع وإدراكه وجودة فكره وقريحته وصفاء ذهنه ومعرفته الألفاظ ومراتبها ، وهذه الدلالة تختلف اختلافا متباينا بحسب تباني السامعين في ذلك ، وقد كان أبو هريرة وعبد الله بن عمرو أحفظ الصحابة للحديث وأكثرهم رواية له ، وكان الصديق وعمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت أفقه منهما ، بل عبد الله بن عباس أيضا أفقه منهما ومن عبد الله بن عمر . [ ص: 144 ] " وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على عمر فهمه إتيان البيت الحرام عام الحديبية من إطلاق قوله : " إنك ستأتيه وتطوف به " فإنه لا دلالة في هذا اللفظ على تعيين العام الذي يأتونه فيه .

وأنكر على عدي بن حاتم في فهمه من الخيط الأبيض والخيط الأسود نفس العقالين : " وأنكر على من فهم من قوله : " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة خردلة من كبر " شمول لفظه لحسن الثوب وحسن الفعل ، وأخبرهم أنه بطر الحق وغمط الناس .

" وأنكر على من فهم من قوله : " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه " أنه كراهة الموت ، وأخبرهم أن هذا للكافر إذا احتضر وبشر بالعذاب ؛ فإنه حينئذ يكره لقاء الله والله يكره لقاءه ، وأن المؤمن إذا احتضر وبشر بكرامة الله أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه .

" وأنكر على عائشة إذ فهمت من قوله تعالى : ( فسوف يحاسب حسابا يسيرا ) ( 84 : 8 ) معارضته لقوله صلى الله عليه وسلم : " من نوقش الحساب عذب " وبين لها أن الحساب اليسير هو العرض ، أي حساب العرض لا حساب المناقشة .

" وأنكر على من فهم من قوله تعالى : ( من يعمل سوءا يجز به ) ( 4 : 123 ) أن هذا الجزاء إنما هو في الآخرة وأنه لا يسلم أحد من عمل السوء ، وبين أن هذا الجزاء قد يكون في الدنيا بالهم والحزن والمرض والنصب وغير ذلك من مصائبها ، وليس في اللفظ تقييد الجزاء بيوم القيامة .

" وأنكر على من فهم من قوله تعالى : ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) ( 6 : 82 ) أنه ظلم النفس بالمعاصي وبين أنه الشرك ، وذكر قول لقمان لابنه : ( إن الشرك لظلم عظيم ) ( 31 : 13 ) مع أن سياق اللفظ عند إعطائه حقه من التأمل يبين ذلك ، فإن الله سبحانه لم يقل ولم يظلموا أنفسهم بل قال : ( ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ) ولبس الشيء بالشيء : تغطيته به وإحاطته به من جميع جهاته ، ولا يغطي الإيمان ويحيط به ويلبسه إلا الكفر ، ومن هذا قوله تعالى : ( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) ( 2 : 82 ) فإن الخطيئة لا تحيط بالمؤمن أبدا ، فإن [ ص: 145 ] إيمانه يمنعه من إحاطة الخطيئة به ، ومع أن سياق قوله : ( وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ) ( 6 : 81 ) ثم حكم الله أعدل حكم وأصدقه أن من آمن ولم يلبس إيمانه بظلم فهو أحق بالأمن والهدى ، فدل على أن الظلم الشرك .

" وسأله عمر بن الخطاب عن الكلالة وراجعه فيها مرارا فقال : " يكفيك آية الصيف " واعترف عمر بأنه خفي عليه فهمها ، وفهمها الصديق .

" وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية ففهم بعض الصحابة من نهيه أنه لكونها لم تخمس ، وفهم بعضهم أن النهي لكونها كانت حمولة القوم وظهورهم ، وفهم بعضهم أنه لكونها كانت حول القرية .

" وفهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الجنة وكبار الصحابة ما قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي وصرح بعلته من كونها رجسا .

وفهمت المرأة من قوله تعالى : ( وآتيتم إحداهن قنطارا ) ( 4 : 20 ) جواز المغالاة في الصداق فذكرته لعمر فاعترف به .

وفهم ابن عباس من قوله تعالى : ( وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) ( 46 : 15 ) مع قوله تعالى : ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ) ( 2 : 233 ) أن المرأة قد تلد لستة أشهر ، ولم يفهمه عثمان فهم برجم امرأة ولدت حتى ذكره ابن عباس فأقر به .

ولم يفهم عمر من قوله : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " قتال مانعي الزكاة حتى بين له الصديق ( ذلك ) فأقر به : وفهم قدامة بن مظعون من قوله تعالى : ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا ) ( 5 : 93 ) رفع الجناح عن الخمر حتى بين له عمر أنه لا يتناول الخمر ، ولو تأمل سياق الآية لفهم المراد منها ، فإنه إنما رفع الجناح عنهم فيما طعموه متقين له فيه ، وذلك إنما يكون باجتناب ما حرمه من المطاعم ، فالآية لا تتناول المحرم بوجه ما .

وقد فهم من فهم من قوله تعالى : ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) ( 2 : 195 ) انغماس [ ص: 146 ] الرجل في العدو حتى بين له أبو أيوب الأنصاري أن هذا ليس من الإلقاء بيده إلى التهلكة ، بل هو من بيع الرجل نفسه ابتغاء مرضاة الله ، وأن الإلقاء بيده إلى التهلكة هو ترك الجهاد والإقبال على الدنيا وعمارتها .

وقال الصديق رضي الله عنه : " أيها الناس ، إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها : ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) ( 5 : 105 ) وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده " فأخبرهم أنهم يضعونها على غير مواضعها في فهمهم منها خلاف ما أريد بها .

وأشكل على ابن عباس أمر الفرقة الساكتة التي لم ترتكب ما نهيت عنه من اليهود هل عذبوا أو نجوا حتى بين له مولاه عكرمة دخولهم في الناجين دون المعذبين ، وهذا هو الحق لأنه سبحانه قال عن الساكتين : ( وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا ) ( 7 : 164 ) فأخبر أنهم أنكروا فعلهم وغضبوا عليهم ، وإن لم يواجهوهم بالنهي فقد واجههم به من أدى الواجب عنهم ، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية ، فلما قام به أولئك سقط عن الباقين فلم يكونوا ظالمين بسكوتهم . وأيضا فإنه سبحانه إنما عذب الذين نسوا ما ذكروا به وعتوا عما نهوا عنه ، وهذا لا يتناول الساكتين قطعا ، فلما بين عكرمة لابن عباس أنهم لم يدخلوا في الظالمين المعذبين كساه بردة وفرح به .

وقد قال عمر بن الخطاب للصحابة : " ما تقولون في ( إذا جاء نصر الله والفتح ) ( 110 : 1 ) السورة قالوا : أمر الله نبيه إذا فتح عليه أن يستغفره فقال لابن عباس : ما تقول أنت قال : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه إياه ، فقال : ما أعلم منها غير ما تعلم ، وهذا من أدق الفهم وألطفه ولا يدركه كل أحد ، فإنه سبحانه لم يعلق الاستغفار بعلمه ، بل علقه بما يحدثه هو سبحانه من نعمة فتحه على رسوله ودخول الناس في دينه ، وهذا ليس بسبب للاستغفار ، فعلم أن سبب الاستغفار غيره ، وهو حضور الأجل الذي من تمام نعمة الله على عبده توفيقه للتوبة النصوح والاستغفار بين يديه ليلقى ربه طاهرا مطهرا من كل ذنب ، فيقدم عليه مسرورا راضيا مرضيا عنه . ويدل عليه ( أيضا ) ( فسبح بحمد ربك واستغفره ) وهو صلى الله عليه وسلم كان يسبح بحمده دائما فعلم أن المأمور به من ذلك التسبيح بعد الفتح ودخول الناس في الدين أمر أكثر من ذلك المتقدم ، وذلك مقدمة بين يدي انتقاله إلى الرفيق الأعلى ، وأنه قد بقيت عليه من عبودية التسبيح والاستغفار التي [ ص: 147 ] ترقيه إلى ذلك المقام بقية فأمره بتوفيتها . ويدل عليه أيضا أنه سبحانه شرع التوبة والاستغفار في خواتيم الأعمال فشرعها في خاتمة الحج وقيام الليل ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثا ، وشرع للمتوضئ بعد كمال وضوئه أن يقول : " اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين " فعلم أن التوبة مشروعة عقيب الأعمال الصالحة ، فأمر رسوله بالاستغفار عقيب توفيته ما عليه من تبليغ الرسالة والجهاد في سبيله حين دخل الناس في دينه أفواجا ، فكأن التبليغ عبادة قد أكملها وأداها فشرع له الاستغفار عقيبها .

والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص ، وأن منهم من يفهم من الآية حكما أو حكمين ، ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر من ذلك ، ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره ، وأخص من هذا وألطف ضمه إلى نص آخر متعلق به فيفهم من اقترانه به قدرا زائدا على ذلك اللفظ بمفرده . وهذا باب عجيب من فهم القرآن لا يتنبه له إلا النادر من أهل العلم ، فإن الذهن قد لا يشعر بارتباط هذا بهذا وتعلقه به ، وهذا كما فهم ابن عباس من قوله : ( وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) مع قوله : ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ) أن المرأة قد تلد لستة أشهر ، وكما فهم الصديق من آية الفرائض في أول السورة وآخرها أن الكلالة من لا ولد له ولا والد ، وأسقط الإخوة بالجد ، وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم عمر إلى هذا الفهم حيث سأله عن الكلالة وراجعه السؤال فيها مرارا فقال : " يكفيك آية الصيف " وإنما أشكل على عمر قوله : ( قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد ) ( 4 : 176 ) الآية فدله النبي صلى الله عليه وسلم على ما بين له المراد منها ، وهي الآية الأولى التي نزلت في الصيف ، فإنه ورث فيها ولد الأم في الكلالة السدس ، ولا ريب أن الكلالة فيها من لا ولد له ولا والد وإن علا " انتهت المقدمة .

أقول : ثم إنه أورد بعد هذه المقدمة عدة مسائل مما اختلف فيه السلف ومن بعدهم بينتها النصوص ، وهي ست مسائل في أحكام المواريث وقد وضح فيها إغناء النص عن القياس أتم الإيضاح .

التالي السابق


الخدمات العلمية