فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
الإشارة بقوله ذلك إلى الكتاب المذكور بعده .

قال ابن جرير : قال ابن عباس : ذلك الكتاب هذا الكتاب وبه قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي ومقاتل وزيد بن أسلم وابن جريج ، وحكاه البخاري عن أبي عبيدة .

والعرب قد تستعمل الإشارة إلى البعيد الغائب مكان الإشارة إلى القريب الحاضر كما قال خفاف :

أقول له والرمح يأطر متنه تأمل خفافا أنني أنا ذلكا

أي أنا هذا ، ومنه قوله تعالى : ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم [ السجدة : 6 ] و وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم [ الأنعام : 83 ] تلك آيات الله نتلوها عليك [ البقرة : 252 ] ذلكم حكم الله يحكم بينكم [ الممتحنة : 10 ] وقيل إن الإشارة إلى غائب ، واختلف في ذلك الغائب ، فقيل : هو الكتاب الذي كتب على الخلائق بالسعادة والشقاوة والأجل والرزق .

لا ريب فيه أي لا مبدل له ، وقيل : ذلك الكتاب الذي كتبه الله على نفسه في الأزل أن رحمته سبقت غضبه ، كما في صحيحمسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه فهو موضوع عنده : إن رحمتي تغلب غضبي .

وفي رواية سبقت .

وقيل : الإشارة إلى ما قد نزل بمكة ، وقيل : إلى ما في التوراة والإنجيل ، وقيل : إشارة إلى قوله قبله الم ، ورجحه الزمخشري ، وقد وقع الاختلاف في ذلك إلى تمام عشرة أقوال حسبما حكاه القرطبي وأرجحها ما صدرناه ، واسم الإشارة مبتدأ ، و الكتاب صفته ، والخبر لا ريب فيه ومن جوز الابتداء بـ الم جعل ذلك مبتدأ ثانيا ، وخبره الكتاب أو هو صفته ، والخبر لا ريب فيه والجملة خبر المبتدأ .

ويجوز أنت يكون المبتدأ مقدرا وخبره الم وما بعده .

والريب مصدر ، وهو قلق النفس واضطرابها ، وقيل إن الريب الشك .

قال ابن أبي حاتم : لا أعلم في هذا خلافا .

وقد يستعمل الريب في التهمة والحاجة ، حكى ذلك القرطبي .

ومعنى هذا النفي العام أن الكتاب ليس بمظنة للريب لوضوح دلالته وضوحا يقوم مقام البرهان المقتضي لكونه لا ينبغي الارتياب فيه بوجه من الوجوه ، والوقف على فيه هو المشهور .

وقد روي عن نافع وعاصم الوقف على لا ريب .

قال في الكشاف : ولا بد للواقف من أن ينوي خبرا ونظيره قوله تعالى : قالوا لا ضير [ الشعراء : 50 ] وقول العرب : لا بأس ، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز ، والتقدير : لا ريب فيه هدى .

والهدى مصدر .

قال الزمخشري : وهو الدلالة الموصلة إلى البغية بدليل وقوع الضلال في مقابلته انتهى .

ومحله الرفع على الابتداء وخبره الظرف المذكور قبله على ما سبق .

قال القرطبي : الهدى هديان : هدى دلالة وهو الذي يقدر عليه الرسل وأتباعهم ، قال الله تعالى : ولكل قوم هاد [ الرعد : 7 ] وقال : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [ الشورى : 52 ] فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه ، وتفرد سبحانه بالهدى الذي معناه التأييد والتوفيق ، فقال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم : إنك لا تهدي من أحببت [ القصص : 56 ] فالهدى على هذا يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب ، ومنه قوله تعالى : أولئك على هدى من ربهم وقوله : ولكن الله يهدي من يشاء انتهى .

والمتقين من ثبتت لهم التقوى .

قال ابن فارس : وأصلها في اللغة قلة الكلام .

وقال في الكشاف : المتقي في اللغة : اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى ، والوقاية : الصيانة ، ومنه : فرس واق ، وهذه الدابة تقي من وجارها : إذا أصابها ضلع من غلظ الأرض ورقة الحافر ، فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء يؤلمه .

وهو في الشريعة : الذي يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك انتهى .

وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه عن ابن مسعود أن الكتاب القرآن ، لا ريب فيه لا شك فيه .

وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : لا ريب فيه قال : لا شك فيه .

وأخرج أحمد في الزهد وابن أبي حاتم عن أبي الدرداء قال : الريب الشك .

وأخرج عبد بن حميد عن قتادة مثله ، وكذا ابن جرير عن مجاهد .

وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله : هدى للمتقين قال : نور للمتقين وهم المؤمنون .

وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : هدى للمتقين أي الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى ويرجون رحمته في التصديق مما جاء منه .

وأخرج ابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل أنه قيل له : من المتقون ؟ فقال : قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله العبادة .

وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة أن رجلا قال له : ما التقوى ؟ قال : هل وجدت طريقا ذا شوك ؟ قال : نعم ، قال : فكيف صنعت ؟ قال : إذا رأيت الشوك عدلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه ، قال : ذاك التقوى .

وأخرج أحمد في الزهد عن أبي الدرداء قال : تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة حين يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حجابا بينه وبين الحرام .

وقد روي نحو ما قاله أبو الدرداء عن جماعة من التابعين .

وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن عطية السعدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به البأس فالمصير إلى ما أفاده هذا الحديث واجب ، ويكون هذا معنى شرعيا للمتقي أخص من المعنى الذي قدمناه عن صاحب الكشاف زاعما أنه المعنى الشرعي .

التالي السابق


الخدمات العلمية