فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار

قوله : زين للناس إلخ : كلام مستأنف لبيان حقارة ما تستلذه الأنفس من هذه الدار ، والمزين قيل : هو الله سبحانه ، وبه قال عمر كما حكاه عنه البخاري وغيره ، ويؤيد قوله تعالى : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم [ الكهف : 7 ] .

وقيل : المزين هو الشيطان ، وبه قال الحسن ، حكاه عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عنه .

وقرأ الضحاك زين على البناء للفاعل .

وقرأه الجمهور على البناء للمفعول .

والمراد بالناس : الجنس .

والشهوات جمع شهوة ، وهي نزوع النفس إلى ما تريده .

والمراد هنا المشتهيات عبر عنها بالشهوات مبالغة في كونها مرغوبا فيها أو تحقيرا لها لكونها مسترذلة عند العقلاء من صفات الطبائع البهيمية ، ووجه تزيين الله سبحانه لها ابتلاء عباده كما صرح به في الآية الأخرى .

وقوله : من النساء والبنين في محل الحال ; أي : زين للناس حب الشهوات حال كونها من النساء والبنين إلخ .

وبدأ بالنساء لكثرة النفوس إليهن لأنهن حبائل الشيطان ، وخص البنين دون البنات لعدم الاطراد في محبتهن .

والقناطير جمع قنطار وهو اسم للكثير من المال .

قال الزجاج : القنطار مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه : تقول العرب قنطرت الشيء : إذا أحكمته ، ومنه سميت القنطرة لإحكامها .

وقد اختلف في تقديره على أقوال للسلف ستأتي إن شاء الله .

واختلفوا في معنى المقنطرة ، فقال ابن جرير الطبري : معناها المضعفة ، وقال القناطير ثلاثة ، والمقنطرة تسعة .

وقال الفراء : القناطير جمع قنطار ، والمقنطرة جمع الجمع ، فتكون تسع قناطير وقيل : المقنطرة المضروبة ، وقيل : المكملة كما يقال : بدرة مبدرة ، وألوف مؤلفة ، وبه قال مكي وحكاه الهروي .

وقال ابن كيسان : لا تكون المقنطرة أقل من سبع قناطير .

وقوله : من الذهب والفضة ، بيان للقناطير ، أو حال ، والخيل المسومة قيل : هي المرعية في المروج والمسارح ، يقال : سامت الدابة والشاة : إذا سرحت ، وقيل : هي المعدة للجهاد ، وقيل : هي الحسان ، وقيل : المعلمة ، من السومة وهي العلامة ; أي : التي يجعل عليها علامة لتتميز عن غيرها .

وقال ابن فارس في المجمل المسومة : المرسلة وعليها ركبانها .

وقال ابن كيسان : البلق .

والأنعام هي الإبل والبقر والغنم ، فإذا قلت نعم فهي الإبل خاصة قاله الفراء وابن كيسان ، ومنه قول حسان :


وكانت لا يزال بها أنيس خلال مروجها نعم وشاء

والحرث : اسم لكل ما يحرث ، وهو مصدر سمي به المحروث ، يقول : حرث الرجل حرثا ، إذا أثار الأرض فيقع على الأرض والزرع .

قال ابن الأعرابي : الحرث : التفتيش .

قوله : ذلك متاع الحياة الدنيا أي ذلك المذكور ما يتمتع به ثم يذهب ولا يبقى ، وفيه تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة .

والمآب : المرجع آب يئوب إيابا : إذا رجع ، ومنه قول [ ص: 208 ] امرئ القيس :


لقد طوفت في الآفاق حتى     رضيت من الغنيمة بالإياب

. قوله : قل أؤنبئكم بخير من ذلكم ، أي : هل أخبركم بما هو خير لكم من تلك المستلذات ، وإبهام الخير للتفخيم ، ثم بينه بقوله : للذين اتقوا عند ربهم جنات وعند في محل نصب على الحال من جنات وهي مبتدأ ، وخبرها للذين اتقوا ويجوز أن تتعلق اللام بخير .

وجنات خبر مبتدأ مقدر ; أي : هو جنات ، وخص المتقين ; لأنهم المنتفعون بذلك .

وقد تقدم تفسير قوله : تجري من تحتها الأنهار وما بعده .

قوله : الذين يقولون بدل من قوله : للذين اتقوا أو خبر مبتدأ محذوف ; أي : هم الذين ، أو منصوب على المدح ، والصابرين وما بعده نعت للموصول على تقدير كونه بدلا ، أو منصوبا على المدح ، وعلى تقدير كونه خبرا يكون الصابرين وما بعده منصوبة على المدح وقد تقدم تفسير الصبر والصدق والقنوت .

قوله : والمستغفرين بالأسحار هم السائلون للمغفرة بالأسحار ، وقيل المصلون .

والأسحار جمع سحر بفتح الحاء وسكونها . قال الزجاج : هو من حين يدبر الليل إلى أن يطلع الفجر ، وخص الأسحار ; لأنها من أوقات الإجابة .

وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب ، لما نزلت زين للناس حب الشهوات قال : الآن يا رب حين زينتها لنا ، فنزلت قل أؤنبئكم .

وأخرجه ابن المنذر عنه بلفظ خير انتهى إلى قوله : قل أؤنبئكم بخير فبكى وقال : بعد ماذا ، بعد ماذا بعد ما زينتها .

وأخرج أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : القنطار اثنا عشر ألف أوقية .

رواه أحمد من حديث عبد الصمد بن عبد الوارث عن حماد عن عاصم عن أبي صالح عنه . ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد الصمد به . وقد رواه ابن جرير موقوفا على أبي هريرة . قال ابن كثير : وهذا أصح .

وأخرج الحاكم وصححه عن أنس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن القناطير المقنطرة فقال : القنطار ألف أوقية . ورواه ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه مرفوعا بلفظ ألف دينار . وأخرج ابن جرير عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية .

وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي من قول معاذ بن جبل ، وأخرجه ابن جرير من قول ابن عمر ، وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير والبيهقي من قول أبي هريرة ، وأخرجه ابن جرير والبيهقي من قول ابن عباس .

وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي عن أبي سعيد الخدري قال : القنطار ملء مسك جلد الثور ذهبا .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر أنه قال : القنطار سبعون ألفا ، وأخرجه عبد بن حميد عن مجاهد . وأخرج أيضا عن سعيد بن المسيب قال : القنطار ثمانون ألفا . وأخرج أيضا عن أبي صالح قال : القنطار مائة رطل .

وأخرجه أيضا عن قتادة . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر قال : القنطار خمسة عشر ألف مثقال ، والمثقال أربعة وعشرون قيراطا . وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : هو المال الكثير من الذهب والفضة . وأخرجه أيضا عن الربيع . وأخرج عن السدي أن المقنطرة المضروبة . وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس والخيل المسومة قال : الراعية . وأخرج ابن المنذر عنه من طريق مجاهد . وأخرج ابن جرير عنه قال : هي الراعية والمطهمة الحسان .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال : هي المطهمة الحسان .

وأخرجا عن عكرمة قال : تسويمها حسنها .

وأخرج ابن أبي حاتم قال : الخيل المسومة الغرة والتحجيل .

وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله الصابرين قال : قوم صبروا على طاعة الله وصبروا عن محارمه ، والصادقون قوم صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وألسنتهم وصدقوا في السر والعلانية ، والقانتون هم المطيعون والمستغفرون بالأسحار أهل الصلاة . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه . وأخرج ابن أبي شيبة قال : هم الذين يشهدون صلاة الصبح . وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن أنس قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نستغفر بالأسحار سبعين مرة .

وأخرج ابن جرير وأحمد في الزهد عن سعيد الجريري قال : بلغنا أن داود عليه السلام سأل جبريل فقال : يا جبريل أي الليل أفضل ؟ قال : يا داود ما أدري إلا أن العرش يهتز في السحر . وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ينزل الله تبارك وتعالى في كل ليلة إلى سماء الدنيا حتى يبقى ثلث الليل الآخر ، فيقول : هل من سائل فأعطيه ، هل من داع فأستجيب له هل من مستغفر فأغفر له ؟ .

التالي السابق


الخدمات العلمية