فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون

قوله : قل ياأهل الكتاب خطاب لليهود والنصارى ، والاستفهام في قوله : لم تكفرون للإنكار والتوبيخ .

وقوله : والله شهيد على ما تعملون جملة حالية مؤكدة للتوبيخ والإنكار ، وهكذا المجيء بصيغة المبالغة في شهيد يفيد مزيد التشديد والتهويل . والاستفهام في قوله : لم تصدون يفيد ما أفاده الاستفهام الأول .

وقرأ الحسن ( تصدون ) من أصد ، وهما لغتان : مثل صد اللحم وأصد : إذا تغير وأنتن ، وسبيل الله دينه الذي ارتضاه لعباده ، وهو دين الإسلام ، والعوج : الميل والزيغ ، يقال : عوج بالكسر إذا كان في الدين والقول والعمل ، وبالفتح في الأجسام كالجدار ونحوه ، روي ذلك عن أبي عبيدة وغيره ، ومحل قوله : تبغونها عوجا النصب على الحال . والمعنى : تطلبون لها اعوجاجا وميلا عن القصد والاستقامة بإبهامكم على الناس بأنها كذلك تثقيفا لتحريفكم وتقويما لدعاويكم الباطلة .

وقوله : وأنتم شهداء جملة حالية ; أي : كيف [ ص: 235 ] تطلبون ذلك بملة الإسلام والحال أنكم تشهدون أنها دين الله الذي لا يقبل غيره ، وأن فيه نعت محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقيل : المراد وأنتم شهداء أي : عقلاء ، وقيل : المعنى وأنتم شهداء بين أهل دينكم مقبولون عندهم ، فكيف تأتون بالباطل الذي يخالف ما أنتم عليه بين أهل دينكم ؟ ثم توعدهم سبحانه بقوله : وما الله بغافل عما تعملون . ثم خاطب سبحانه المؤمنين محذرا لهم عن طاعة اليهود والنصارى مبينا لهم أن تلك الطاعة تفضي إلى أن يردوهم بعد إيمانهم كافرين ، وسيأتي بيان سبب نزول الآية .

والاستفهام في قوله : وكيف تكفرون للإنكار ; أي : من أين يأتيكم ذلك ولديكم ما يمنع منه ويقطع أثره ، وهو تلاوة آيات الله عليكم وكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أظهركم ؟ ومحل قوله : وأنتم وما بعده النصب على الحال .

ثم أرشدهم إلى الاعتصام بالله ليحصل لهم بذلك الهداية إلى الصراط المستقيم الذي هو الإسلام ، وفي وصف الصراط بالاستقامة رد على ما ادعوه من العوج . قال الزجاج : يجوز أن يكون هذا الخطاب لأصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان فيهم وهم يشاهدونه ، ويجوز أن يكون هذا الخطاب لجميع الأمة ؛ لأن آثاره وعلامته والقرآن الذي أوتيه فينا ، فكأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فينا وإن لم نشاهده انتهى .

ومعنى الاعتصام بالله التمسك بدينه وطاعته ، وقيل : بالقرآن ، يقال : اعتصم به واستعصم وتمسك واستمسك : إذا امتنع به من غيره ، وعصمه الطعام : منع الجوع منه . قوله : اتقوا الله حق تقاته أي : التقوى التي تحق له ، وهي أن لا يترك العبد شيئا مما يلزمه فعله ولا يفعله شيئا مما يلزمه تركه ويبذل في ذلك جهده ومستطاعه .

قال القرطبي : ذكر المفسرون أنها لما نزلت هذه الآية قالوا : يا رسول الله من يقوى على هذا ؟ وشق عليهم ذلك ، فأنزل الله فاتقوا الله ما استطعتم [ التغابن : 16 ] فنسخت هذه الآية . روي ذلك عن قتادة والربيع وابن زيد .

قال مقاتل : وليس في آل عمران من المنسوخ شيء إلا هذا . وقيل : إن قوله : اتقوا الله حق تقاته مبين بقوله : فاتقوا الله ما استطعتم والمعنى : اتقوا الله حق تقاته ما استطعتم .

قال : وهذا أصوب ; لأن النسخ إنما يكون عند عدم الجمع والجمع ممكن فهو أولى . قوله : ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون أي : لا تكونن على حال سوى حال الإسلام فالاستثناء مفرغ ، ومحل الجملة : أعني قوله : وأنتم مسلمون النصب على الحال ، وقد تقدم في البقرة تفسير مثل هذه الآية .

قوله : واعتصموا بحبل الله جميعا الحبل لفظ مشترك ، وأصله في اللغة السبب الذي يتوصل به إلى البغية ، وهو إما تمثيل أو استعارة . أمرهم سبحانه بأن يجتمعوا على التمسك بدين الإسلام أو بالقرآن ، ونهاهم عن التفرق الناشئ عن الاختلاف في الدين ، ثم أمرهم بأن يذكروا نعمة الله عليهم وبين لهم من هذه النعمة ما يناسب المقام ، وهو أنهم كانوا أعداء مختلفين بقتل بعضهم بعضا وينهب بعضهم بعضا ، فأصبحوا بسبب هذه النعمة إخوانا وكانوا على شفا حفرة من النار بما كانوا عليه من الكفر فأنقذهم الله من هذه الحفرة بالإسلام .

ومعنى قوله : أصبحتم صرتم ، وليس المراد به معناه الأصلي : وهو الدخول في وقت الصباح ، وشفا كل شيء حرفه وكذلك شفيره ، وأشفى على الشيء : أشرف عليه ، وهو تمثيل للحالة التي كانوا عليها في الجاهلية . وقوله : كذلك إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعده ; أي : مثل ذلك البيان البليغ يبين الله لكم .

وقوله : لعلكم تهتدون إرشاد لهم إلى الثبات على الهدى والازدياد منه . وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن زيد بن أسلم قال : مر شاس بن قيس - وكان شيخا قد عسى في الجاهلية ، عظيم الكفر ، شديد الطعن على المسلمين ، شديد الحسد لهم - على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه ، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام ، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية فقال : قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد ، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار ، فأمر فتى شابا معه من يهود فقال : اعمد إليهم فاجلس معهم ، ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان قبله ، وأنشدهم بعض ما كانوا يتقاولون فيه من الأشعار ، وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج ، وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج ففعل ، فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج فتقاولا ، ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم والله رددناها الآن جذعة ، وغضب الفريقان جميعا وقالوا : قد فعلنا ، السلاح السلاح موعدكم الظاهرة ، والظاهرة الحرة ، فخرجوا إليها وانضمت الأوس بعضها إلى بعض والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال : يا معشر المسلمين ، الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟ بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف به بينكم ، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا ، فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم لهم ، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا ، وعانق الرجال بعضهم بعضا ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس ، وأنزل الله في شأن شاس بن قيس وما صنع قل ياأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون إلى قوله : وما الله بغافل عما تعملون وأنزل في أوس بن قيظي وجبار بن صخر ومن كان معهما من [ ص: 236 ] قومهما الذين صنعوا ما صنعوا ياأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب إلى قوله : وأولئك لهم عذاب عظيم وقد رويت هذه القصة مختصرة ومطولة من طرق .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله : لم تصدون عن سبيل الله قال : كانوا إذا سألهم أحد : تجدون محمدا ؟ قالوا : لا . قال : فصدوا الناس عنه وبغوا محمدا عوجا هلاكا . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة : لم تصدون عن الإسلام وعن نبي الله من آمن بالله وأنتم شهداء فيما تقرءون من كتاب الله أن محمدا رسول الله ، وأن الإسلام دين الله الذي لا يقبل غيره ولا يجزي إلا به ، يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل .

‌ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله : ومن يعتصم بالله قال : يؤمن به . وأخرجوا عن أبي العالية قال : الاعتصام الثقة بالله . وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله : اتقوا الله حق تقاته قال : أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر . وقد رواه الحاكم وصححه وابن مردويه من وجه آخر عنه مرفوعا بدون قوله : ويشكر فلا يكفر .

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : حق تقاته أن يطاع فلا يعصى فلن تستطيعوا ، فأنزل الله بعد ذلك فاتقوا الله ما استطعتم [ التغابن : 16 ] . وأخرج عبد بن حميد عنه نحوه .

وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه . وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود نحوه . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : حق تقاته قال : لم تنسخ ولكن حق تقاته أن يجاهدوا في الله حق جهاده ولا يأخذهم في الله لومة لائم ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم . وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والطبراني ، قال السيوطي بسند صحيح عن ابن مسعود في قوله : واعتصموا بحبل الله قال : حبل الله القرآن .

وقد وردت أحاديث أن كتاب الله هو حبل الله الممدود . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : واعتصموا بحبل الله بالإخلاص لله وحده .

وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : بطاعته . وأخرج أيضا عن قتادة قال : بعهده وأمره .

وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : بالإسلام . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله : إذ كنتم أعداء قال : ما كان بين الأوس والخزرج في شأن عائشة . وأخرج ابن إسحاق قال : كانت الحرب بين الأوس والخزرج عشرين ومائة سنة ، حتى قام الإسلام فأطفأ الله ذلك وألف بينهم . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله : وكنتم على شفا حفرة من النار يقول : كنتم على طرف النار ، من مات منكم وقع في النار ، فبعث الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم واستنقذكم به من تلك الحفرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية