فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون [ ص: 28 ] هذا كلام مستأنف استئنافا بيانيا ، كأنه قيل : كيف حال هؤلاء الجامعين بين التقوى والإيمان بالغيب والإتيان بالفرائض والإيمان بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى من قبله من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقيل : أولئك على هدى ويمكن أن يكون هذا خبرا عن الذين يؤمنون بالغيب إلخ فيكون متصلا بما قبله .

قال في الكشاف : ومعنى الاستعلاء في قوله : على هدى مثل لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه وتمسكهم به ، شبهت حالهم حال من اعتلى الشيء وركبه ، ونحوه : هو على الحق وعلى الباطل .

وقد صرحوا بذلك في قوله : جعل الغواية مركبا وامتطى الجهل واقتعد عازب الهوى انتهى .

وقد أطال المحققون الكلام على هذا بما لا يتسع له المقام ، واشتهر الخلاف في ذلك بين المحقق السعد والمحقق الشريف .

واختلف من بعدهم في ترجيح الراجح من القولين ، وقد جمعت في ذلك رسالة سميتها [ الطود المنيف في ترجيح ما قاله السعد على ما قاله الشريف ] فليرجع إليها من أراد أن يتضح له المقام ويجمع بين أطراف الكلام على التمام .

وقال ابن جرير : إن معنى أولئك على هدى من ربهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديد الله إياهم وتوفيقه لهم ، والمفلحون أي المنجحون المدكرون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله .

هذا معنى كلامه .

والفلاح أصله في اللغة : الشق والقطع ، قاله أبو عبيد : ويقال الذي شقت شفته أفلح ، ومنه سمي الأكار فلاحا لأنه شق الأرض بالحرث ، فكأن المفلح قد قطع المصاعب حتى نال مطلوبه .

قال القرطبي : وقد يستعمل في الفوز والبقاء وهو أصله أيضا في اللغة ، فمعنى أولئك هم المفلحون الفائزون بالجنة والباقون .

وقال في الكشاف : المفلح الفائز بالبغية ، كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه انتهى .

وقد استعمل الفلاح في السحور ، ومنه الحديث الذي أخرجه أبو داود " حتى كاد يفوتنا الفلاح مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " .

قلت : وما الفلاح ؟ قال : السحور .

فكأن معنى الحديث : أن السحور به بقاء الصوم فلهذا سمي فلاحا .

وفي تكرير اسم الإشارة دلالة على أن كلا من الهدى والفلاح مستقل بتميزهم به عن غيرهم ، بحيث لو انفرد أحدهما لكفى تميزا على حياله .

وفائدة ضمير الفصل الدلالة على اختصاص المسند إليه بالمسند دون غيره .

وقد روى السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود ، وعن أناس من الصحابة أن الذين يؤمنون بالغيب : هم المؤمنون من العرب - الذين يؤمنون بما أنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما أنزل إلى من قبله : هم ، والمؤمنون من أهل الكتاب . ثم جمع الفريقين فقال : أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون وقد قدمنا الإشارة إلى هذا وإلى ما هو أرجح منه كما هو منقول عن مجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة .

وأخرج ابن أبي حاتم من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : قيل : يا رسول الله إنا نقرأ من القرآن فنرجو ونقرأ فنكاد أن نيأس أو كما قال : فقال : ألا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين إلى قوله : المفلحون [ البقرة : 1 - 5 ] هؤلاء أهل الجنة ، قالوا : إنا نرجو أن نكون هؤلاء ، ثم قال : إن الذين كفروا سواء عليهم [ البقرة : 6 ] إلى قوله : عظيم ، هؤلاء أهل النار ، قالوا : ألسنا هم يا رسول الله ؟ قال : أجل .

وقد ورد في فضل هذه الآيات الشريفة أحاديث : منها ما أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند والحاكم والبيهقي عن أبي بن كعب قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فجاء أعرابي فقال : يا نبي الله إن لي أخا وبه وجع فقال : وما وجعه ؟ قال : به لمم ، قال : فائتني به ، فوضعه بين يديه ، فعوذه النبي بفاتحة الكتاب وأربع آيات من أول سورة البقرة ، وهاتين الآيتين وإلهكم إله واحد [ البقرة : 163 ] وآية الكرسي وثلاث آيات من آخر سورة البقرة ، وآية من آل عمران شهد الله أنه لا إله إلا هو [ آل عمران : 18 ] ، وآية من الأعراف إن ربكم الله [ الأعراف : 54 ] ، وآخر سورة المؤمنين فتعالى الله الملك الحق [ المؤمنون : 114 ] ، وآية من سورة الجن وأنه تعالى جد ربنا [ الجن : 3 ] ، وعشر آيات من أول الصافات ، وثلاث آيات من آخر سورة الحشر ، وقل هو الله أحد والمعوذتين ، فقام الرجل كأنه لم يشتك قط .

وأخرج نحوه ابن السني في عمل اليوم والليلة من طريق عبد الرحمن بن أبي يعلى عن رجل عن أبي مثله .

وأخرج الدارمي وابن الضريس عن ابن مسعود قال : من قرأ أربع آيات من أول سورة البقرة وآية الكرسي وآيتين بعد آية الكرسي وثلاثا من آخر سورة البقرة لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ، ولا شيء يكرهه في أهله ولا ماله ، ولا تقرأ على مجنون إلا أفاق .

وأخرج الدارمي وابن المنذر والطبراني عنه قال : " من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة حتى يصبح : أربع من أولها ، وآية الكرسي ، وآيتان بعدها ، وثلاث خواتمها أولها لله ما في السماوات [ البقرة : 284 ] " .

وأخرج سعيد بن منصور والدارمي والبيهقي عن المغيرة بن سبيع ، وكان من أصحاب عبد الله بن مسعود بنحوه .

وأخرج الطبراني والبيهقي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا مات أحدكم فلا تحبسوه ، وأسرعوا به إلى قبره ، وليقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وعند رجليه بخاتمة سورة البقرة وقد ورد في ذلك غير هذا .

التالي السابق


الخدمات العلمية