فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون " إذا " في موضع نصب على الظرف والعامل فيه " قالوا " المذكور بعده .

وفيه معنى الشرط .

والفساد ضد الصلاح ، وحقيقته العدول عن الاستقامة إلى ضدها .

فسد الشيء يفسد فسادا وفسودا فهو فاسد وفسيد .

والمراد في الآية : لا تفسدوا في الأرض بالنفاق وموالاة الكفرة وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن ، فإنكم إذا فعلتم ذلك فسد ما في الأرض بهلاك الأبدان وخراب الديار وبطلان الذرائع ، كما هو مشاهد عند ثوران الفتن والتنازع .

و " إنما " من أدوات القصر كما هو مبين في علم المعاني .

والصلاح ضد الفساد .

لما نهاهم الله عن الفساد الذي هو دأبهم أجابوا بهذه الدعوى العريضة ، ونقلوا أنفسهم من الاتصاف بما هي عليه حقيقة وهو الفساد ، إلى الاتصاف بما هو ضد لذلك وهو الصلاح ، ولم يقفوا عند هذا الكذب البحت والزور المحض حتى جعلوا صفة الصلاح مختصة بهم خالصة لهم ، فرد الله عليهم ذلك أبلغ رد لما يفيده حرف التنبيه من تحقق ما بعده ، ولما في ( إن ) من التأكيد ، وما في تعريف الخبر مع توسيط ضمير الفصل من الحصر المبالغ فيه بالجمع بين أمرين من الأمور المفيدة له ، وردهم إلى صفة الفساد التي هي متصفون بها في الحقيقة ردا مؤكدا مبالغا فيه بزيادة على ما تضمنته دعواهم الكاذبة من مجرد الحصر المستفاد من إنما .

وأما نفي الشعور عنهم فيحتمل أنهم لما كانوا يظهرون الصلاح مع علمهم أنهم على الفساد الخالص ، ظنوا أن ذلك ينفق على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وينكتم عنه بطلان ما أضمروه ، ولم يشعروا بأنه عالم به ، وأن الخبر يأتيه بذلك من السماء ، فكان نفي الشعور عنهم من هذه الحيثية لا من جهة أنهم لا يشعرون بأنهم على الفساد .

ويحتمل أن فسادهم كان عندهم صلاحا لما استقر في عقولهم من محبة الكفر وعداوة الإسلام .

وقد أخرج ابن جرير عن ابن مسعود أنه قال : الفساد هنا هو الكفر والعمل بالمعصية .

وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : إنما نحن مصلحون أي إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب .

وأخرج ابن جرير عن مجاهد في تفسير هذه الآية قال : إذا ركبوا معصية فقيل لهم : لا تفعلوا كذا قالوا : إنما نحن على الهدى .

وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن سلمان أنه قرأ هذه الآية فقال : لم تجئ أهل هذه الآية بعد .

قال ابن جرير : يحتمل أن سلمان أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فسادا من الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد انتهى .

ويحتمل أن سلمان يرى أن هذه الآية ليست في المنافقين ، بل يحملها على مثل أهل الفتن التي يدين أهلها بوضع السيف في المسلمين ، كالخوارج وسائر من يعتقد في فساده أنه صلاح لما يطرأ عليه من الشبه الباطلة .

التالي السابق


الخدمات العلمية