فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا

قوله : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ) قد تقدم تفسير هذه الآية وتكريرها بلفظها للتأكيد ، وقيل : كررت هنا لأجل قصة بني أبيرق ، وقيل : إنها نزلت هنا لسبب غير قصة بني أبيرق ، وهو ما رواه الثعلبي ، والقرطبي في تفسيرهما على الضحاك : أن شيخا من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله إني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا إلا أني لم أشرك بالله شيئا مذ عرفته وآمنت به ولم أتخذ من دونه وليا ولم أوقع المعاصي جرأة على الله ولا مكابرة له ، وإني لنادم وتائب ومستغفر فما حالي عند الله ؟ فأنزل الله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية ومن يشرك بالله فقد ضل عن الحق ضلالا بعيدا ؛ لأن الشرك أعظم أنواع الضلال وأبعدها من الصواب .

إن يدعون من دونه إلا إناثا أي : ما يدعون من دون الله إلا أصناما لها أسماء مؤنثة كاللات والعزى ومناة ، وقيل : المراد بالإناث الموات التي لا روح لها كالخشبة والحجر ، وقيل : المراد بالإناث الملائكة لقولهم : الملائكة بنات الله . وقرئ ( وثنا ) بضم الواو والثاء جمع وثن ، روى هذه القراءة ابن الأنباري ، عن عائشة .

وقرأ ابن عباس ( إلا أثنا ) جمع وثن أيضا ، وأصله وثن فأبدلت الواو همزة ، وقرأ الحسن ( إلا أنثا ) بضم الهمزة والنون بعدها مثلثة ، جمع أنيث كغدير وغدر ، وحكى الطبري أنه جمع إناث كثمار وثمر .

وحكى هذه القراءة أبو عمرو الداني عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : وقرأ بها ابن عباس ، والحسن ، وأبو حيوة . وعلى جميع هذه القراءات فهذا الكلام خارج مخرج التوبيخ للمشركين والإزراء عليهم والتضعيف لعقولهم ، لكونهم عبدوا من دون الله نوعا ضعيفا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا أي : وما يدعون من دون الله إلا شيطانا مريدا وهو إبليس لعنه الله ؛ لأنهم إذا أطاعوه فيما سول لهم فقد عبدوه ، وقد تقدم اشتقاق لفظ الشيطان ، والمريد : المتمرد العاتي ، من مرد : إذا عتا .

قال الأزهري : المريد الخارج عن الطاعة ، وقد مرد الرجل مرودا : إذا عتا وخرج عن الطاعة ، فهو مارد ومريد ومتمرد ، وقال ابن عرفة : هو الذي ظهر شره ، يقال شجرة مرداء : إذا تساقط ورقها وظهرت عيدانها ، ومنه قيل للرجل : أمرد ؛ أي : ظاهر مكان الشعر من عارضيه ، قوله : ( لعنه الله ) أصل اللعن الطرد والإبعاد ، وقد تقدم ، وهو في العرف إبعاد مقترن بسخط ، قوله : وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا معطوف على قوله : ( لعنه الله ) والجملتان صفة لشيطان ؛ أي : شيطانا مريدا جامعا بين لعنة الله له وبين هذا القول الشنيع ، والنصيب المفروض : هو المقطوع المقدر ؛ أي : لأجعلن قطعة مقدرة من عباد الله تحت غوايتي ، وفي جانب إضلالي حتى أخرجهم من عبادة الله إلى الكفر به ، قوله : ( ولأضلنهم ) اللام جواب قسم محذوف ، والإضلال : الصرف عن طريق الهداية إلى طريق الغواية ، وهكذا اللام في قوله : ( ولأمنينهم ولآمرنهم ) والمراد بالأماني التي يمنيهم بها الشيطان : هي الأماني الباطلة الناشئة عن تسويله ووسوسته ، وقوله : ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام أي : ولآمرنهم بتبتيك آذان الأنعام ؛ أي : تقطيعها فليبتكنها بموجب أمري ، والبتك : القطع ، ومنه سيف باتك ، يقال : بتكه وبتكه مخففا ومشددا ، ومنه قول زهير :


طارت وفي كفه من ريشها بتك



أي : قطع ، وقد فعل الكفار ذلك امتثالا لأمر الشيطان واتباعا لرسمه ، فشقوا آذان البحائر والسوائب كما ذلك معروف ، قوله : ولآمرنهم فليغيرن خلق الله أي : ولآمرنهم بتغيير خلق الله فليغيرنه بموجب أمري لهم ، واختلف العلماء في هذا التغيير ما هو ؟ فقالت طائفة : هو الخصاء وفقء الأعين وقطع الآذان ، وقال آخرون : إن المراد بهذا التغيير هو أن الله سبحانه خلق الشمس والقمر والأحجار والنار ونحوها من المخلوقات لما خلقها له ، فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة ، وبه قال الزجاج ، وقيل : المراد بهذا التغيير تغيير الفطرة التي فطر الله الناس [ ص: 331 ] عليها ، ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه الأمور حملا شموليا أو بدليا .

وقد رخص طائفة من العلماء في خصاء البهائم إذا قصد بذلك زيادة الانتفاع به لسمن أو غيره ، وكره ذلك آخرون ، وأما خصاء بني آدم فحرام ، وقد كره قوم شراء الخصي ، قال القرطبي : ولم يختلفوا أن خصاء بني آدم لا يحل ولا يجوز وأنه مثلة وتغيير لخلق الله وكذلك قطع سائر أعضائهم في غير حد ولا قود ، قاله أبو عمر بن عبد البر

ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله باتباعه وامتثال ما يأمر به من دون اتباع لما أمر الله به ولا امتثال له فقد خسر خسرانا مبينا أي : واضحا ظاهرا ، يعدهم المواعيد الباطلة ويمنيهم الأماني العاطلة وما يعدهم الشيطان إلا غرورا أي : وما يعدهم الشيطان بما يوقعه في خواطرهم من الوساوس الفارغة إلا غرورا يغرهم به ويظهر لهم فيه النفع وهو ضرر محض ، وانتصاب ( غرورا ) على أنه نعت لمصدر محذوف ؛ أي : وعدا غرورا أو على أنه مفعول ثان أو مصدر على غير لفظه .

قال ابن عرفة : الغرور ما رأيت له ظاهرا تحبه وله باطن مكروه ، وهذه الجملة اعتراضية ، قوله : ( أولئك ) إشارة إلى أولياء الشيطان ، وهذا مبتدأ وخبره الجملة ؛ وهي قوله : ( مأواهم جهنم ) قوله : ( محيصا ) أي : معدلا ، من حاص يحيص ، وقيل : ملجأ ومخلصا ، والمحيص اسم مكان ، وقيل : مصدر .

قوله : ( والذين آمنوا ) إلخ ، جعل هذا الوعد للذين آمنوا مقترنا بالوعيد المتقدم للكافرين ، قوله : وعد الله حقا قال في الكشاف : مصدران ؛ الأول مؤكد لنفسه ، والثاني مؤكد لغيره ، ووجهه أن الأول مؤكد لمضمون الجملة الاسمية ومضمونها ( وعد ) ، والثاني مؤكد لغيره ؛ أي : حق ذلك حقا .

قوله : ومن أصدق من الله قيلا هذه الجملة مؤكدة لما قبلها ، والقيل مصدر قال كالقول ؛ أي : لا أجد أصدق قولا من الله عز وجل ، وقيل : إن قيلا اسم لا مصدر ، وإنه منتصب على التمييز ، وقد أخرج الترمذي من حديث علي أنه قال : ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء قال الترمذي : حسن غريب .

وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن أبي مالك في قوله : إن يدعون من دونه إلا إناثا قال : اللات والعزة ومناة كلها مؤنثة . وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والضياء في المختارة ، عن أبي بن كعب في الآية قال : مع كل صنم جنية .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس إن يدعون من دونه إلا إناثا قال : موتى . وأخرج مثله عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن . وأخرج مثله أيضا عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن الحسن قال : كان لكل حي من أحياء العرب صنم يعبدونها يسمونها أنثى بني فلان ، فأنزل الله إن يدعون من دونه إلا إناثا .

وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن الضحاك قال المشركون : إن الملائكة بنات الله ، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ، قال : اتخذوهن أربابا وصوروهن صور الجواري فحلوا وقلدوا ، وقالوا : هؤلاء يشبهن بنات الله الذي نعبده : يعنون الملائكة . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مقاتل بن حيان في قوله : وقال لأتخذن من عبادك إلخ ، قال : هذا إبليس يقول : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة .

وأخرج ابن المنذر ، عن الربيع مثله . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة في قوله : فليبتكن آذان الأنعام قال : التبتيك في البحيرة والسائبة يبتكون آذانها لطواغيتهم . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن أنس أنه كره الإخصاء وقال : فيه نزلت ولآمرنهم فليغيرن خلق الله وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس مثله .

وأخرج ابن أبي شيبة ، والبيهقي عن ابن عمر قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن خصاء البهائم والخيل وأخرج ابن المنذر ، والبيهقي ، عن ابن عباس قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صبر الروح وإخصاء البهائم وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله : ولآمرنهم فليغيرن خلق الله قال : دين الله . وأخرج ابن جرير ، عن الضحاك مثله . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، عن سعيد بن جبير مثله أيضا . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن قال : الوشم .

التالي السابق


الخدمات العلمية