فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما

الباء في قوله : ( فبظلم ) للسببية ، والتنكير والتنوين للتعظيم ؛ أي : فبسبب ظلم عظيم حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ، لا بسبب شيء آخر كما زعموا أنها كانت محرمة على من قبلهم ، وقال الزجاج : هذا بدل من قوله : ( فبما نقضهم ) [ النساء : 155 ، المائدة : 13 ] والطيبات المذكورة هي ما نصه الله سبحانه وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر الآية .

( وبصدهم ) أنفسهم وغيرهم عن سبيل الله وهو اتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحريفهم وقتلهم الأنبياء وما صدر منهم من الذنوب المعروفة ، وقوله : ( كثيرا ) مفعول للفعل المذكور ؛ أي : بصدهم ناسا كثيرا ، أو صفة مصدر محذوف ؛ أي : صدا كثيرا .

وأخذهم الربا وقد نهوا عنه أي : معاملتهم فيما بينهم بالربا وأكلهم له وهو محرم عليهم وأكلهم أموال الناس بالباطل كالرشوة والسحت الذي كانوا يأخذونه ، قوله : لكن الراسخون في العلم منهم استدراك من قوله : وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما أو من الذين هادوا وذلك أن اليهود أنكروا وقالوا : إن هذه الأشياء كانت حراما في الأصل وأنت تحلها ، فنزل ( لكن الراسخون ) والراسخ : هو المبالغ في علم الكتاب الثابت فيه ، والرسوخ : الثبوت ، وقد تقدم الكلام عليه في آل عمران ، والمراد عبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ونحوهما .

والراسخون مبتدأ ، ويؤمنون خبره ، والمؤمنون معطوف على الراسخون ، والمراد بالمؤمنين إما من آمن من أهل الكتاب أو من المهاجرين والأنصار أو من الجميع ، قوله : ( والمقيمين الصلاة ) قرأ الحسن ، ومالك بن دينار وجماعة ( والمقيمون الصلاة ) على العطف على ما قبله ، وكذا هو في مصحف ابن مسعود ، واختلف في وجه نصبه على قراءة الجمهور على أقوال :

الأول : قول سيبويه أنه نصب على المدح ؛ أي : أعني المقيمين ، قال سيبويه : هذا باب ما ينتصب على التعظيم ، ومن ذلك ( والمقيمين الصلاة ) وأنشد :


وكل قوم أطاعوا أمر سيدهم إلا نميرا أطاعت أمر غاويها     الطاعنين ولما يطعنوا أحدا
والقائلون لمن دار نخليها



وأنشد :


لا يبعدن قومي الذين هم     سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك     والطيبون معاقد الأزر



قال النحاس : وهذا أصح ما قيل في المقيمين ، وقال الكسائي ، والخليل : هو معطوف على قوله : ( بما أنزل إليك ) قال الأخفش : وهذا بعيد ؛ لأن المعنى يكون هكذا : ويؤمنون بالمقيمين . ووجهه محمد بن يزيد المبرد بأن المقيمين هنا هم الملائكة ، فيكون المعنى : يؤمنون بما أنزل إليك وبما أنزل من قبلك وبالملائكة واختار هذا .

وحكي أن النصب على المدح بعيد ؛ لأن المدح إنما يأتي بعد تمام الخبر ، وخبر الراسخون هو قوله : أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما وقيل : إن المقيمين معطوف على الضمير في قوله : ( منهم ) وفيه أنه عطف على مضمر بدون إعادة الخافض وحكي عن عائشة أنها سئلت عن المقيمين في هذه الآية وعن قوله تعالى : إن هذان لساحران [ طه : 63 ] وعن قوله : ( والصابئون ) [ المائدة : 69 ] في المائدة ؟ فقالت : يا ابن أخي الكتاب أخطئوا ، أخرجه عنها أبو عبيد في فضائله وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر .

وقال أبان بن عثمان : كان الكاتب يملي علي فيكتب فكتب لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون ثم قال : ما أكتب ؟ فقيل له : اكتب ( والمقيمين الصلاة ) فمن ثم وقع هذا ، أخرجه عنه عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر . قال القشيري : وهذا باطل ؛ لأن الذين جمعوا الكتاب كانوا قدوة في اللغة فلا يظن بهم ذلك ، ويجاب عن القشيري بأنه قد روي عن عثمان بن عفان أنه لما فرغ من المصحف وأتي به إليه قال : أرى فيه شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها . أخرجه عنه ابن أبي داود من طرق ، وقد رجح قول سيبويه كثير من أئمة النحو والتفسير ، ورجح قول الخليل ، والكسائي ، ابن جرير ، الطبري ، والقفال ، وعلى قول سيبويه تكون الجملة معترضة بين المبتدأ والخبر على قول من قال : إن خبر ( الراسخون ) هو قوله : ( أولئك سنؤتيهم ) أو بين المعطوف والمعطوف عليه إن جعلنا خبر ( الراسخون ) هو يؤمنون ، وجعلنا قوله : ( والمؤتون الزكاة ) عطفا على ( المؤمنون ) لا على قول سيبويه أن المؤتون الزكاة مرفوع على الابتداء أو على تقدير مبتدأ محذوف ؛ أي : هم المؤتون الزكاة .

قوله : والمؤمنون بالله واليوم الآخر هم مؤمنو أهل الكتاب وصفوا أولا بالرسوخ في العلم ثم بالإيمان بكتب الله وأنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويؤمنون بالله واليوم الآخر ، وقيل : المراد بهم المؤمنون من المهاجرين والأنصار كما سلف وأنهم جامعون بين هذه الأوصاف ، والإشارة بقوله : أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما إلى الراسخون وما عطف عليه ، قوله : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده هذا متصل بقوله : يسألك أهل الكتاب والمعنى : أن أمر محمد [ ص: 344 ] صلى الله عليه وآله وسلم كأمر من تقدمه من الأنبياء فما بالكم تطلبون منه ما لم يطلبه أحد من المعاصرين للرسل ، والوحي إعلام في خفاء ، يقال : وحي إليه بالكلام وحيا ، وأوحى يوحي إيحاء ، وخص نوحا لكونه أول نبي شرعت على لسانه الشرائع ، وقيل غير ذلك .

والكاف في قوله : ( كما ) نعت مصدر محذوف ؛ أي : إيحاء مثل إيحائنا إلى نوح ، أو حال ؛ أي : أوحينا إليك هذا الإيحاء حال كونه مشبها بإيحائنا إلى نوح قوله : وأوحينا إلى إبراهيم معطوف على أوحينا إلى نوح وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وهم أولاد يعقوب كما تقدم وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان خص هؤلاء بالذكر بعد دخولهم في لفظ النبيين تشريفا لهم كقوله : وملائكته ورسله وجبريل ، وقدم عيسى على أيوب ومن بعده مع كونهم في زمان قبل زمانه ، ردا على اليهود الذي كفروا به ، وأيضا فالواو ليس إلا لمطلق الجمع .

قوله : وآتينا داود زبورا معطوف على ( أوحينا ) والزبور : كتاب داود ، قال القرطبي : وهو مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام ، وإنما هي حكم ومواعظ انتهى ، قلت : هو مائة وخمسون مزمورا ، والمزمور : فصل يشتمل على كلام لداود يستغيث بالله من خصومه ويدعو الله عليهم ويستنصره ، وتارة يأتي بمواعظ ، وكان يقول ذلك في الغالب في الكنيسة ، ويستعمل مع تكلمه بذلك شيئا من الآلات التي لها نغمات حسنة ، كما هو مصرح بذلك في كثير من تلك المزمورات ، والزبر : الكتابة ، والزبور بمعنى المزبور ؛ أي : المكتوب ، كالرسول والحلوب والركوب .

وقرأ حمزة ( زبورا ) بضم الزاي ، جمع زبر كفلس وفلوس ، والزبر بمعنى المزبور ، والأصل في الكلمة التوثيق يقال : بئر مزبورة ؛ أي : مطوية بالحجارة ، والكتاب سمي زبورا لقوة الوثيقة به .

قوله : ( ورسلا ) منصوب بفعل مضمر يدل عليه ( أوحينا ) أي : وأرسلنا رسلا قد قصصناهم عليك من قبل وقيل : هو منصوب بفعل دل عليه ( قصصناهم ) أي : وقصصنا رسلا ، ومثله ما أنشده سيبويه :


أصبحت لا أحمل السلاح ولا     أملك رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه إن مررت به     وحدي وأخشى الرياح والمطرا



أي : وأخشى الذئب ، وقرأ أبي ( رسل ) بالرفع على تقدير : ومنهم رسل ، ومعنى : ( من قبل ) أنه قصهم عليه من قبل هذه السورة ، أو من قبل هذا اليوم ، قيل : إنه لما قص الله في كتابه بعض أسماء أنبيائه ولم يذكر أسماء بعض قالت اليهود : ذكر محمد الأنبياء ولم يذكر موسى ، فنزل وكلم الله موسى تكليما وقراءة الجمهور برفع الاسم الشريف على أن الله هو الذي كلم موسى ، وقرأ النخعي ، ويحيى بن وثاب بنصب الاسم الشريف على أن موسى هو الذي كلم الله سبحانه و ( تكليما ) مصدر مؤكد ، وفائدة التأكيد دفع توهم كون التكليم مجازا ، كما قال الفراء : إن العرب تسمي ما وصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق ، وقيل : ما لم يؤكد بالمصدر ، فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام .

قال النحاس : وأجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازا ، قوله : رسلا مبشرين ومنذرين بدل من ( رسلا ) الأول ، أو منصوب بفعل مقدر ؛ أي : وأرسلنا ، أو على الحال بأن يكون ( رسلا ) موطئا لما بعده ، أو على المدح ؛ أي : مبشرين لأهل الطاعات ومنذرين لأهل المعاصي .

قوله : لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل أي : معذرة يعتذرون بها كما في قوله تعالى : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك [ طه : 134 ] وسميت المعذرة حجة مع أنه لم يكن لأحد من العباد على الله حجة ، تنبيها على أن هذه المعذرة مقبولة لديه تفضلا منه ورحمة ، ومعنى قوله : ( بعد الرسل ) بعد إرسال الرسل ( وكان الله عزيزا ) لا يغالبه مغالب ( حكيما ) في أفعاله التي من جملتها إرسال الرسل .

وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن مجاهد وبصدهم عن سبيل الله كثيرا قال : أنفسهم وغيرهم عن الحق . وأخرج ابن إسحاق في الدلائل عن ابن عباس في قوله : لكن الراسخون في العلم منهم قال : نزلت في عبد الله بن سلام ، وأسيد بن شعبة ، وثعلبة بن شعبة حين فارقوا اليهود وأسلموا .

وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في الدلائل عنه أن بعض اليهود قال : يا محمد ما نعلم الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى ، فأنزل الله ( إنا أوحينا إليك ) الآية . وأخرج عبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن حبان في صحيحه والحاكم ، وابن عساكر ، عن أبي ذر قال : قلت يا رسول الله كم الأنبياء ؟ قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، قلت : كم الرسل منهم ؟ قال : ثلثمائة وثلاثة عشر جم غفير وأخرج نحوه ابن أبي حاتم ، عن أبي أمامة مرفوعا إلا أنه قال : والرسل ثلثمائة وخمسة عشر .

وأخرج أبو يعلى والحاكم بسند ضعيف ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كان فيمن خلا من إخواني من الأنبياء ثمانية آلاف نبي ، ثم كان عيسى ، ثم كنت أنا بعده وأخرج الحاكم ، عن أنس بسند ضعيف نحوه .

وأخرج البخاري ، ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا أحد أغير من الله ، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا أحد أحب إليه المدح من الله ، من أجل ذلك مدح نفسه ، ولا أحد أحب إليه العذر من الله ، من أجل ذلك بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين .

التالي السابق


الخدمات العلمية