فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون

لقوا أصله لقيوا ، نقلت الضمة إلى القاف وحذفت الياء لالتقاء الساكنين .

ومعنى لقيته ولاقيته : استقبلته قريبا .

وقرأ محمد بن السميفع اليماني وأبو حنيفة لاقوا ، وأصله لاقيوا تحركت الياء وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا .

ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين .

وخلوت بفلان وإليه : إذا انفردت به .

وإنما عدي بإلى وهو يتعدى بالباء فيقال : خلوت به لا خلوت إليه ، لتضمنه معنى ذهبوا وانصرفوا .

والشياطين جمع شيطان على التكسير .

وقد اختلف كلام سيبويه في نون الشيطان فجعلها في موضع من كتابه أصلية وفي آخر زائدة ، فعلى الأول هو من شطن أي بعد عن الحق ، وعلى الثاني من شط : أي بعد أو شاط : أي بطل ، وشاط : أي احترق ، وأشاط : إذا هلك ، قال : وقد يشيط على أرماحنا البطل أي يهلك .

وقال آخر :

وأبيض ذي تاج أشاطت رماحنا لمعترك بين الفوارس أقتما

أي أهلكت .

وحكى سيبويه أن العرب تقول : تشيطن فلان : إذا فعل أفعال الشياطين .

ولو كان من شاط لقالوا : تشيط ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :

أيما شاطن عصاه عكا     ه ورماه في السجن والأغلال


وقوله : ( إنا معكم ) معناه مصاحبوكم في دينكم وموافقوكم عليه .

والهزؤ : السخرية واللعب .

قال الراجز : قد هزئت مني أم طيسله     قالت أراه معدما لا مال له
قال في الكشاف : وأصل الباب الخفة من الهزء وهو القتل السريع ، وهزأ يهزأ : مات على المكان .

عن بعض العرب مشيت فلغبت فظننت لأهزأن على مكاني ، وناقته تهزأ به : أي تسرع وتخف انتهى .

وقيل : أصله الانتقام ، قال الشاعر : قد استهزءوا منهم بألفي مدجج     سراتهم وسط الصحاصح جثم
فأفاد قولهم : إنا معكم أنهم ثابتون على الكفر ، وأفاد قولهم : إنما نحن مستهزءون ردهم للإسلام ورفعهم للحق ، وكأنه جواب سؤال مقدر ناشئ من قولهم إنا معكم : أي إذا كنتم معنا فما بالكم إذا لقيتم المسلمين وافقتموهم ؟ فقالوا : إنما نحن مستهزءون بهم في تلك الموافقة ، ولم تكن بواطننا موافقة لهم ولا مائلة إليهم .

فرد الله ذلك عليهم بقوله : الله يستهزئ بهم أي ينزل بهم الهوان والحقارة وينتقم منهم ويستخف بهم انتصافا منهم لعباده المؤمنين ، وإنما جعل سبحانه ما وقع منه استهزاء مع كونه عقوبة ومكافأة مشاكلة ، وقد كانت العرب إذا وضعت لفظا بإزاء لفظ جوابا له وجزاء ذكرته بمثل ذلك اللفظ وإن كان مخالفا له في معناه .

وورد في ذلك في القرآن كثيرا ، ومنه وجزاء سيئة سيئة مثلها [ الشورى : 40 ] فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم [ البقرة : 194 ] والجزاء لا يكون سيئة .

والقصاص لا يكون اعتداء لأنه حق ، ومنه ومكروا ومكر الله [ آل عمران : 54 ] إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا [ الطارق : 15 ، 16 ] ، يخادعون الله والذين آمنوا [ البقرة : 9 ] ، يخادعون الله وهو خادعهم [ النساء : 142 ] ، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك [ المائدة : 116 ] .

وهو في السنة كثير كقوله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله لا يمل حتى تملوا وإنما قال : الله يستهزئ بهم لأنه يفيد التجدد وقتا بعد وقت ، وهو أشد عليهم وأنكأ لقلوبهم وأوجع لهم من الاستهزاء الدائم الثابت المستفاد من الجملة الاسمية ، لما هو محسوس من أن العقوبة الحادثة وقتا بعد وقت ، والمتجددة حينا بعد حين ، أشد على من وقعت عليه من العذاب الدائم المستمر لأنه يألفه ويوطن نفسه عليه .

والمد : الزيادة .

قال يونس بن حبيب : يقال مد في الشر وأمد في الخير ، ومنه وأمددناكم بأموال وبنين [ الإسراء : 6 ] ، وأمددناهم بفاكهة ولحم [ الطور : 22 ] .

وقال الأخفش : مددت له إذا تركته ، وأمددت : إذا أعطيته .

وقال الفراء واللحياني : مددت فيما كانت زيادته من مثله ، يقال : مد النهر ، ومنه والبحر يمده من بعده سبعة أبحر [ لقمان : 27 ] وأمددت فيما كانت زيادته من غيره ، ومنه يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة [ آل عمران : 125 ] والطغيان مجاوزة الحد والغلو في الكفر ومنه إنا لما طغى الماء [ الحاقة : 11 ] أي تجاوز المقدار الذي قدرته الخزان ، وقوله في فرعون : إنه طغى [ طه : 24 ] أي أسرف في الدعوى حيث قال : أنا ربكم الأعلى [ النازعات : 24 ] .

والعمه والعامه : الحائر المتردد ، وذهبت إبله العمهى : إذا لم يدر أين ذهبت ، والعمه في القلب كالعمى في العين .

قال في الكشاف : العمه مثل العمى ، إلا أن العمى في البصر والرأي ، والعمه في الرأي خاصة انتهى .

والمراد أن الله سبحانه يطيل لهم المدة ويمهلهم كما قال : إنما نملي لهم ليزدادوا إثما [ آل عمران : 178 ] .

قال ابن جرير : في طغيانهم يعمهون في ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم يترددون حيارى ضلالا لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا ، لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها ، وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها ، فلا يبصرون رشدا ولا يهتدون سبيلا .

وقد أخرج الواحدي [ ص: 33 ] والثعلبي بسند واه ، لأن فيه محمد بن مروان وهو متروك ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي وأصحابه ، وذكر قصة وقعت لهم مع أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال : كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بعضهم قالوا : إنا على دينكم وإذا خلوا إلى شياطينهم وهم إخوانهم قالوا : إنا معكم على مثل ما أنتم عليه إنما نحن مستهزءون بأصحاب محمد الله يستهزئ بهم قال : يسخر بهم للنقمة منهم ويمدهم في طغيانهم قال : في كفرهم يعمهون قال : يترددون .

وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عنه بمعناه وأطول منه .

وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عنه بنحو الأول .

وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله : وإذا خلوا إلى شياطينهم قال : رؤسائهم في الكفر .

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قال : وإذا خلوا أي مضوا .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحو ما قاله ابن مسعود ، وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله : ويمدهم قال : يملي لهم في طغيانهم يعمهون قال : في كفرهم يتمادون .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحو ما قاله ابن مسعود في تفسير يعمهون .

وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد يمدهم يزيدهم في طغيانهم يعمهون قال : يلعبون ويترددون في الضلالة .

وأخرج أحمد في المسند عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : نعوذ بالله من شياطين الإنس والجن ، فقلت : يا رسول الله وللإنس شياطين ؟ قال : نعم .

التالي السابق


الخدمات العلمية