1. الرئيسية
  2. فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية
  3. تفسير سورة المائدة
  4. تفسير قوله تعالى " إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله "

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين

قوله : إذ قال الحواريون الظرف منصوب بفعل مقدر; أي : اذكر أو نحوه كما تقدم ، قيل والخطاب لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم .

قرأ الكسائي : ( هل تستطيع ) بالفوقية ، ونصب ( ربك ) وبه قرأ علي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد ، وقرأ الباقون بالتحتية ورفع " ربك " . واستشكلت القراءة الثانية بأنه قد وصف سبحانه الحواريون بأنهم قالوا : آمنا واشهد بأننا مسلمون والسؤال عن استطاعته لذلك ينافي ما حكوه عن أنفسهم . وأجيب بأن هذا كان في أول معرفتهم قبل أن تستحكم معرفتهم بالله ، ولهذا قال عيسى في الجواب عن هذا الاستفهام الصادر منهم : اتقوا الله إن كنتم مؤمنين أي لا تشكوا في قدرة الله ، وقيل : إنهم ادعوا الإيمان والإسلام دعوى باطلة ، ويرده أن الحواريين هم خلصاء عيسى وأنصاره كما قال : من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله [ آل عمران : 52 ] وقيل : إن ذلك صدر ممن كان معهم ، وقيل إنهم لم يشكوا في استطاعة الباري سبحانه ، فإنهم كانوا مؤمنين عارفين بذلك ، وإنما هو كقول الرجل : هل يستطيع فلان أن يأتي مع علمه بأن يستطيع ذلك ويقدر عليه ، فالمعنى : هل يفعل ذلك وهل يجب إليه ؟ وقيل إنهم طلبوا الطمأنينة كما قال إبراهيم عليه السلام : رب أرني كيف تحي الموتى [ البقرة : 260 ] الآية ، ويدل على هذا قولهم من بعد وتطمئن قلوبنا وأما على القراءة الأولى ، فالمعنى : هل تستطيع أن تسأل ربك . قال الزجاج : المعنى هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله فهو من باب واسأل القرية [ يوسف : 82 ] ، والمائدة : الخوان إذا كان عليه الطعام ، من ماده : إذا أعطاه ورفده كأنها تميد من تقدم إليه قاله قطرب وغيره ، وقيل هي فاعلة بمعنى مفعولة ك عيشة راضية [ الحاقة : 21 ] قاله أبو عبيدة ، فأجابهم عيسى عليه السلام بقوله : اتقوا الله إن كنتم مؤمنين أي اتقوه من هذا السؤال وأمثاله إن كنتم صادقين في إيمانكم ، فإن شأن المؤمن ترك الاقتراح على ربه على هذه الصفة ، وقيل إنه أمرهم بالتقوى ليكون ذلك ذريعة إلى حصول ما طلبوه .

قوله : قالوا نريد أن نأكل منها بينوا به الغرض من سؤالهم نزول المائدة ، وكذا ما عطف عليه من قولهم : وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين والمعنى : تطمئن قلوبنا بكمال قدرة الله ، أو بأنك مرسل إلينا من عنده ، أو بأن الله قد أجابنا إلى ما سألناه ، ونعلم علما يقينا بأنك قد صدقتنا في نبوتك ، ونكون عليها من الشاهدين عند من لم يحضرها من بني إسرائيل أو من سائر الناس أو من الشاهدين لله بالوحدانية ، أو من الشاهدين ; أي : الحاضرين دون السامعين . ولما رأى عيسى ما حكوه عن أنفسهم من الغرض بنزول المائدة قال : اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء أي : كائنة أو نازلة من السماء ، وأصل اللهم عند سيبويه وأتباعه : يا الله ، فجعلت الميم بدلا من حرف النداء ، وربنا نداء ثان ، وليس بوصف ، و تكون لنا عيدا وصف لمائدة .

وقرأ الأعمش [ ص: 405 ] يكون لنا عيدا أي يكون يوم نزولها لنا عيدا ، وقد كان نزولها يوم الأحد ، وهو يوم عيد لهم ، والعيد واحد الأعياد ، وإنما جميع بالياء وأصله الواو للزومها في الواحد ، وقيل للفرق بينه وبين أعواد جمع عود ، ذكر معناه الجوهري ، وقيل : أصله من عاد يعود; أي : رجع فهو عود بالواو ، وتقلب ياء لانكسار ما قبلها مثل الميزان والميقات والميعاد ، فقيل ليوم الفطر والأضحى عيدان ، لأنهما يعودان في كل سنة . وقال الخليل : العيد كل يوم جمع كأنهم عادوا إليه .

وقوله : لأولنا وآخرنا بدل من الضمير في لنا بتكرير العامل; أي : لمن في عصرنا ولمن يأتي بعدنا من ذرارينا وغيرهم . قوله : وآية منك عطف على " عيدا " ; أي : دلالة وحجة واضحة على كمال قدرتك وصحة إرسالك من أرسلته وارزقنا أي : أعطنا هذه المائدة المطلوبة ، أو ارزقنا رزقا نستعين به على عبادتك وأنت خير الرازقين بل لا رازق في الحقيقة غيرك ولا معطي سواك .

فأجاب الله سبحانه سؤال عيسى عليه السلام فقال : إني منزلها أي المائدة عليكم . وقد اختلف أهل العلم هل نزلت عليهم المائدة أم لا ؟ فذهب الجمهور إلى الأول وهو الحق لقوله سبحانه : إني منزلها عليكم ووعده الحق وهو لا يخلف الميعاد .

وقال مجاهد : ما نزلت وإنما هو ضرب مثل ضربه الله لخلقه نهيا لهم عن مسألة الآيات لأنبيائه ، وقال الحسن : وعدهم بالإجابة ، فلما قال : فمن يكفر بعد منكم استغفروا الله وقالوا : لا نريدها .

قوله : فمن يكفر بعد منكم أي : بعد تنزيلها فإني أعذبه عذابا أي : تعذيبا لا أعذبه صفة لعذابا ، والضمير عائد إلى العذاب بمعنى التعذيب; أي : لا أعذب مثل ذلك التعذيب أحدا من العالمين قيل المراد : عالمي زمانهم ، وقيل : جمع العالمين ، وفي هذا من التهديد والترهيب ما لا يقادر قدره .

وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عائشة قالت : كان الحواريون أعلم بالله من أن يقولوا : هل يستطيع ربك إنما قالوا : هل تستطيع أنت ربك أن تدعوه ، ويؤيد هذا ما أخرجه الحاكم وصححه والطبراني وابن مردويه عن معاذ بن جبل أنه قال : أقرأني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( هل تستطيع ربك ) بالتاء يعني الفوقية . وأخرج أبو عبيد وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس أنه قرأها كذلك .

وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : المائدة الخوان ، وتطمئن : توقن . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله : تكون لنا عيدا يقول : نتخذ اليوم الذي نزلت فيه عيدا نعظمه نحن ومن بعدنا . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس : أنه كان يحدث عن عيسى ابن مريم أنه قال لبني إسرائيل : هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوما ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم ؟ فإن أجر العامل على من عمل له ، ففعلوا ثم قالوا : يا معلم الخير ، قلت لنا إن أجر العامل على من عمل له ، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوما ، ففعلنا ، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوما إلا أطعمنا هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة إلى قوله : أحدا من العالمين فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم ، فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم . وأخرج الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عمار بن ياسر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : نزلت المائدة من السماء خبزا ولحما ، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد ، فخافوا وادخروا ورفعوا لغد فمسخوا قردة وخنازير وقد روي موقوفا على عمار .

قال الترمذي : والوقف أصح . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : المائدة سمكة وأرغفة . وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عنه قال : نزلت على عيسى ابن مريم والحواريين خوان عليه سمك وخبز يأكلون منه أينما تولوا إذا شاءوا . وأخرج ابن جرير نحوه عنه من طريق عكرمة . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن عبد الله بن عمرو قال : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة والمنافقون وآل فرعون .

التالي السابق


الخدمات العلمية