فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون

بدأ سبحانه هذه السورة بالحمد لله ، للدلالة على أن الحمد كله له ، ولإقامة الحجة على الذين هم بربهم يعدلون .

وقد تقدم في سورة الفاتحة ما يغني عن الإعادة له هنا ، ثم وصف نفسه بأنه الذي خلق السماوات والأرض إخبارا عن قدرته الكاملة الموجبة لاستحقاقه لجميع المحامد ، فإن من اخترع ذلك وأوجده هو الحقيق بإفراده بالثناء وتخصيصه بالحمد ، والخلق يكون بمعنى الاختراع ، وبمعنى التقدير وقد تقدم تحقيق ذلك ، وجمع السماوات لتعدد طباقها ، وقدمها على الأرض لتقدمها في الوجود والأرض بعد ذلك دحاها [ النازعات : 30 ] .

قوله : وجعل الظلمات والنور معطوف على خلق ، ذكر سبحانه خلق الجواهر بقوله : خلق السماوات والأرض ثم ذكر خلق الأعراض بقوله : وجعل الظلمات والنور لأن الجواهر لا تستغني عن الأعراض .

[ ص: 408 ] واختلف أهل العلم في المعنى المراد بالظلمات والنور ، فقال جمهور المفسرين : المراد بالظلمات سواد الليل ، وبالنور ضياء النهار .

وقال الحسن : الكفر والإيمان .

قال ابن عطية : وهذا خروج عن الظاهر انتهى .

والأولى أن يقال : إن الظلمات تشمل كل ما يطلق عليه اسم الظلمة ، والنور يشمل كل ما يطلق عليه اسم النور فيدخل تحت ذلك ظلمة الكفر ونور الإيمان أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات [ الأنعام : 122 ] وأفرد النور لأنه جنس يشمل جميع أنواعه ، وجمع الظلمات لكثرة أسبابها وتعدد أنواعها .

قال النحاس : جعل هنا بمعنى خلق : وإذا كانت بمعنى خلق لم تتعد إلا إلى مفعول واحد .

وقال القرطبي : جعل هنا بمعنى خلق لا يجوز غيره .

قال ابن عطية : وعليه يتفق اللفظ والمعنى في النسق ، فيكون الجمع معطوفا على الجمع ، والمفرد معطوفا على المفرد ، وتقديم الظلمات على النور لأنها الأصل ، ولهذا كان النهار مسلوخا من الليل .

قوله : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون معطوف على " الحمد لله " ، أو على " خلق السماوات والأرض " ، وثم لاستبعاد ما صنعه الكفار من كونهم بربهم يعدلون مع ما تبين من أن الله سبحانه حقيق بالحمد على خلقه السماوات والأرض والظلمات والنور ، فإن هذا يقتضي الإيمان به وصرف الثناء الحسن إليه ، لا الكفر به واتخاذ شريك له ، وتقديم المفعول للاهتمام ، ورعاية الفواصل ، وحذف المفعول لظهوره : أي يعدلون به ما لا يقدر على شيء مما يقدر عليه ، وهذا نهاية الحمق وغاية الرقاعة حيث يكون منه سبحانه تلك النعم ، ويكون من الكفرة الكفر .

قوله : هو الذي خلقكم من طين في معناه قولان : أحدهما : وهو الأشهر ، وبه قال الجمهور : أن المراد آدم عليه السلام ، وأخرجه مخرج الخطاب للجميع ، لأنهم ولده ونسله .

الثاني : أن يكون المراد جميع البشر باعتبار أن النطفة التي خلقوا منها مخلوقة من الطين ، ذكر الله سبحانه خلق آدم وبنيه بعد خلق السماوات والأرض إتباعا للعالم الأصغر بالعالم الأكبر ، والمطلوب بذكر هذه الأمور دفع كفر الكافرين بالبعث ورد لجحودهم بما هو مشاهد لهم لا يمترون فيه .

قوله : ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده جاء بكلمة ثم لما بين خلقهم وبين موتهم من التفاوت .

وقد اختلف السلف ومن بعدهم في تفسير الأجلين ، فقيل : قضى أجلا يعني الموت وأجل مسمى عنده يعني القيامة ، وهو مروي عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن وقتادة ، والضحاك ، ومجاهد وعكرمة وزيد بن أسلم وعطية والسدي ، وخصيف ومقاتل وغيرهم ، وقيل : الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت ، والثاني ما بين أن يموت إلى أن يبعث ، وهو قريب من الأول .

وقيل : الأول مدة الدنيا ، والثاني عمر الإنسان إلى حين موته .

وهو مروي عن ابن عباس ، ومجاهد .

وقيل : الأول قبض الأرواح في النوم ، والثاني قبض الروح عند الموت .

وقيل : الأول ما يعرف من أوقات الأهلة والبروج وما يشبه ذلك ، والثاني أجل الموت .

وقيل : الأول لمن مضى ، والثاني لمن بقي ولمن يأتي .

وقيل : إن الأول الأجل الذي هو محتوم ، والثاني الزيادة في العمر لمن وصل رحمه ، فإن كان برا تقيا وصولا لرحمه زيد في عمره ، وإن كان قاطعا للرحم لم يزد له ، ويرشد إلى هذا قوله تعالى : وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب [ فاطر : 11 ] وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن صلة الرحم تزيد في العمر ، وورد عنه أن دخول البلاد التي قد فشا بها الطاعون والوباء من أسباب الموت ، وجاز الابتداء بالنكرة في قوله : وأجل مسمى عنده لأنها قد تخصصت بالصفة .

قوله : ثم أنتم تمترون استبعاد لصدور الشك منهم مع وجود المقتضي لعدمه : أي كيف تشكون في البعث مع مشاهدتكم في أنفسكم من الابتداء والانتهاء ما يذهب بذلك ويدفعه ، فإن من خلقكم من طين وصيركم أحياء تعلمون وتعقلون وخلق لكم هذه الحواس والأطراف ، ثم سلب ذلك عنكم فصرتم أمواتا وعدتم إلى ما كنتم عليه من الجمادية ، لا يعجزه أن يبعثكم ويعيد هذه الأجسام كما كانت ، ويرد إليها الأرواح التي فارقتها بقدرته وبديع حكمته .

قوله : وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون قيل : إن في السماوات وفي الأرض متعلق باسم الله باعتبار ما يدل عليه من كونه معبودا ومتصرفا ومالكا : أي هو المعبود أو المالك أو المتصرف في السماوات والأرض كما تقول : زيد الخليفة في الشرق والغرب : أي حاكم أو متصرف فيهما ، وقيل : المعنى : وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات وفي الأرض فلا تخفى عليه خافية ، فيكون العامل فيهما ما بعدهما .

قال النحاس : وهذا من أحسن ما قيل : فيه .

وقال ابن جرير : هو الله في السماوات ويعلم سركم وجهركم في الأرض .

والأول أولى ، ويكون يعلم سركم وجهركم جملة مقررة لمعنى الجملة الأولى ، لأن كونه سبحانه في السماء والأرض يستلزم علمه بأسرار عباده وجهرهم ، وعلمه بما يكسبونه من الخير والشر وجلب النفع ودفع الضرر .

وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن علي أن هذه الآية أعني الحمد لله إلى قوله : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون نزلت في أهل الكتاب .

وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير وأبو الشيخ ، عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه نحوه .

وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد قال : نزلت هذه الآية في الزنادقة ، قالوا : إن الله لم يخلق الظلمة ولا الخنافس ولا العقارب ولا شيئا قبيحا ، وإنما يخلق النور وكل شيء حسن ، فأنزلت فيهم هذه الآية .

وأخرج أبو الشيخ ، عن ابن عباس ، : وجعل الظلمات والنور قال : الكفر والإيمان .

وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، قال : إن الذين بربهم يعدلون هم أهل الشرك .

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي ، مثله .

وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، [ ص: 409 ] وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد قال : يعدلون يشركون .

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن زيد في قوله : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون قال : الآلهة التي عبدوها عدلوها بالله ، وليس لله عدل ولا ند ، وليس معه آلهة ولا اتخذ صاحبة ولا ولدا .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، : هو الذي خلقكم من طين يعني آدم ثم قضى أجلا يعني : أجل الموت وأجل مسمى عنده أجل الساعة والوقوف عند الله .

وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه عنه في قوله : ثم قضى أجلا قال : أجل الدنيا ، وفي لفظ أجل موته وأجل مسمى عنده قال : الآخرة لا يعلمه إلا الله .

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عنه قضى أجلا قال : هو اليوم يقبض فيه الروح ثم يرجع إلى صاحبه من اليقظة وأجل مسمى عنده قال : هو أجل موت الإنسان .

التالي السابق


الخدمات العلمية