فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون قوله : وأقسموا بالله أي الكفار مطلقا ، أو كفار قريش ، وجهد الأيمان أشدها : أي أقسموا بالله أشد أيمانهم التي بلغتها قدرتهم ، وقد كانوا يعتقدون أن الله هو الإله الأعظم ، فلهذا أقسموا به ، وانتصاب جهد على المصدرية وهو بفتح الجيم المشقة ، وبضمها الطاقة ، ومن أهل اللغة من يجعلهما لمعنى واحد ، والمعنى : أنهم اقترحوا على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - آية من الآيات التي كانوا يقترحونها وأقسموا لئن جاءتهم هذه الآية التي اقترحوها ليؤمنن بها وليس غرضهم الإيمان ، بل معظم قصدهم التحكم على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - والتلاعب بآيات الله ، فأمره الله سبحانه أن يجيب عليهم بقوله : إنما الآيات عند الله هذه الآية التي يقترحونها وغيرها وليس عندي من ذلك شيء ، فهو سبحانه إن أراد إنزالها أنزلها ، وإن أراد أن لا ينزلها لم ينزلها .

قوله : وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون .

قرأ أبو عمرو وابن كثير بكسر الهمزة من أنها وهي قراءة مجاهد ، ويؤيد هذه القراءة قراءة ابن مسعود ( وما يشعركم إذا جاءت لا يؤمنون ) قال مجاهد وابن زيد : المخاطب بهذا : المشركون : أي وما يدريكم ، ثم حكم عليهم بقوله : أنها إذا جاءت لا يؤمنون .

وقال الفراء وغيره : الخطاب للمؤمنين ، لأن المؤمنين قالوا للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : يا رسول الله لو نزلت الآية لعلهم يؤمنون ، فقال الله تعالى : وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون .

وقرأ أهل المدينة والأعمش وحمزة والكسائي وعاصم وابن عامر أنها إذا جاءت بفتح الهمزة ، قال الخليل : أنها بمعنى لعلها ، وفي التنزيل وما يدريك لعله يزكى [ عبس : 3 ] أي أنه يزكى ، وحكي عن العرب ائت السوق أنك تشتري لنا شيئا : أي لعلك ، ومنه قول عدي بن زيد :


أعاذل ما يدريك أن منيتي إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد

أي لعل منيتي ، ومنه قول دريد بن الصمة :


أريني جوادا مات هزلا لأنني     أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا

أي لعلني ، وقول أبي النجم :

[ ص: 442 ]

قلت لشيبان ادن من لقائه     أني بعد اليوم من سوائه

أي لعلي ، وقول جرير :


هل أنتم عائجون بنا لأن     نرى العرصات أو أثر الخيام

أي لعلنا .

وقد وردت في كلام العرب كثيرا بمعنى لعله .

وحكى الكسائي أنها كذلك في مصحف أبي بن كعب .

وقال الكسائي أيضا والفراء : إن لا زائدة ، والمعنى : وما يشعركم أنها : أي الآيات ، إذا جاءت يؤمنون فزيدت كما زيدت في قوله تعالى : وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون [ الأنبياء : 95 ] في قوله : ما منعك ألا تسجد [ الأعراف : 12 ] وضعف الزجاج والنحاس ، وغيرهما ، زيادة لا وقالوا : هو غلط وخطأ .

وذكر النحاس وغيره أن في الكلام حذفا والتقدير : أنها إذا جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون ، ثم حذف هذا المقدر لعلم السامع .

قوله : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم معطوف على لا يؤمنون قيل : والمعنى : تقليب أفئدتهم وأبصارهم يوم القيامة على لهب النار وحر الجمر كما لم يؤمنوا في الدنيا ونذرهم في الدنيا : أي نمهلهم ولا نعاقبهم فعلى هذا بعض الآية في الآخرة .

وبعضها في الدنيا ، وقيل : المعنى : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في الدنيا : أي نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم تلك الآية كما حلنا بينهم وبين ما دعوتهم إليه أول مرة عند ظهور المعجزة ، وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقديم : أنها إذا جاءت لا يؤمنون كما لم يؤمنوا ، ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ونذرهم في طغيانهم يعمهون : أي يتحيرون ، والكاف في كما لم يؤمنوا نعت مصدر محذوف ، وما مصدرية ، و يعمهون في محل نصب على الحال .

قوله : ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة أي لا يؤمنون ولو نزلنا إليهم الملائكة كما اقترحوه بقولهم : لولا أنزل عليه ملك [ الأنعام : 8 ] وكلمهم الموتى الذين يعرفونهم بعد إحيائنا لهم ، فقالوا لهم : إن هذا النبي صادق مرسل من عند الله فآمنوا به لم يؤمنوا وحشرنا عليهم كل شيء مما سألوه من الآيات قبلا أي كفلا وضمنا بما جئناهم به من الآيات البينات .

هذا على قراءة من قرأ قبلا بضم القاف وهم الجمهور .

وقرأ نافع وابن عامر " قبلا " بكسرها : أي مقابلة .

وقال محمد بن يزيد المبرد : قبلا بمعنى ناحية كما تقول لي : قبل فلان مال ، فقبلا نصب على الظرف ، وعلى المعنى الأول ورد قوله تعالى :أو تأتي بالله والملائكة قبيلا [ الإسراء : 92 ] أي يضمنون كذا قال الفراء .

وقال الأخفش : هو بمعنى قبيل قبيل أي : جماعة جماعة .

وحكى أبو زيد لقيت فلانا قبلا ومقابلة وقبلا كله واحد بمعنى المواجهة ، فيكون على هذا الضم كالكسر وتستوي القراءتان .

والحشر : الجمع ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله إيمانهم ، فإن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، والاستثناء مفرغ ولكن أكثرهم يجهلون جهلا يحول بينهم وبين درك الحق والوصول إلى الصواب .

قوله : 112 - وكذلك جعلنا لكل نبي هذا الكلام لتسلية رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ودفع ما حصل معه من الحزن بعدم إيمانهم : أي مثل هذا الجعل جعلنا لكل نبي عدوا والمعنى : كما ابتليناك بهؤلاء فقد ابتلينا الأنبياء من قبلك بقوم من الكفار ، فجعلنا لكل واحد منهم عدوا من كفار زمنهم ، و شياطين الإنس والجن بدل من " عدوا " ، وقيل : هو المفعول الثاني لجعلنا .

وقرأ الأعمش ( الجن والإنس ) بتقديم الجن ، والمراد بالشياطين المردة من الفريقين ، والإضافة بيانية أو من إضافة الصفة إلى الموصوف ، والأصل الإنس والجن الشياطين ، وجملة يوحي بعضهم إلى بعض في محل نصب على الحال : أي حال كونه يوسوس بعضهم لبعض ، وقيل : إن الجملة مستأنفة لبيان حال العدو ، وسمي وحيا لأنه إنما يكون خفية بينهم ، وجعل تمويههم زخرف القول لتزيينهم إياه ، والزخرف : المزين ، وزخارف الماء طرائقه ، و غرورا منتصب على المصدر ، لأن معنى يوحي بعضهم إلى بعض يغرونهم بذلك غرورا ، ويجوز أن يكون في موضع الحال ، ويجوز أن يكون مفعولا له ، والغرور : الباطل .

قوله : ولو شاء ربك ما فعلوه الضمير يرجع إلى ما ذكر سابقا من الأمور التي جرت من الكفار في زمنه وزمن الأنبياء قبله : أي لو شاء ربك عدم وقوع ما تقدم ذكره ما فعلوه وأوقعوه ، وقيل : ما فعلوا الإيحاء المدلول عليه بالفعل فذرهم أي اتركهم ، وهذا الأمر للتهديد للكفار كقوله : ذرني ومن خلقت وحيدا [ المدثر : 11 ] وما يفترون إن كانت ما مصدرية فالتقدير : اتركهم وافتراءهم ، وإن كانت موصولة فالتقدير : اتركهم والذي يفترونه .

قوله : ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة اللام في لتصغى لام كي ، فتكون علة كقوله يوحي والتقدير : يوحي بعضهم إلى بعض ليغروهم ولتصغى ، وقيل : هو متعلق بمحذوف يقدر متأخرا : أي لتصغى جعلنا لكل نبي عدوا وقيل : إن اللام للأمر وهو غلط ، فإنها لو كانت لام الأمر جزم الفعل ، والإصغاء : الميل ، يقال : صغوت أصغو صغوا ، وصغيت أصغي : ويقال : صغيت بالكسر ، ويقال : أصغيت الإناء : إذا أملته ليجتمع ما فيه ، وأصله الميل إلى الشيء لغرض من الأغراض ، ويقال : صغت النجوم : إذا مالت للغروب ، وأصغت الناقة : إذا أمالت رأسها ، ومنه قول ذي الرمة :


تصغي إذا شدها بالكور جانحة     حتى إذا ما استوى في غرزها وثبت

والضمير في " إليه " لزخرف القول ، أو لما ذكر سابقا من زخرف القول وغيره : أي أوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغروهم ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة من الكفار وليرضوه لأنفسهم بعد الإصغاء إليه وليقترفوا ما هم مقترفون من الآثام ، والاقتراف : الاكتساب ، يقال : خرج ليقترف لأهله : أي ليكتسب لهم ، وقارف فلان هذا الأمر : إذا واقعه ، وقرفه : إذا رماه بالريبة ، واقترف : كذب ، وأصله اقتطاع قطعة من الشيء .

وقد أخرج أبو الشيخ ، عن ابن عباس ، قال : نزلت وأقسموا بالله جهد أيمانهم في قريش وما يشعركم [ ص: 443 ] يا أيها المسلمون أنها إذا جاءت لا يؤمنون .

وأخرج ابن جرير ، عن محمد بن كعب القرظي قال : كلم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قريشا فقالوا : يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصى يضرب بها الحجر ، وأن عيسى كان يحيي الموتى ، وأن ثمود لهم ناقة فأتنا من الآيات حتى نصدقك ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : أي شيء تحبون أن آتيكم به ؟ ، قالوا : تجعل لنا الصفا ذهبا ، قال : فإن فعلت تصدقوني ؟ ، قالوا : نعم ، والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون ، فقام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يدعو ، فجاءه جبريل فقال له : إن شئت أصبح ذهبا فإن لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم ، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم ، فقال : بل يتوب تائبهم ، فأنزل الله : وأقسموا بالله جهد أيمانهم إلى قوله : يجهلون .

وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم قال : لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على شيء وردت عن كل أمر .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عنه وحشرنا عليهم كل شيء قبلا قال : معاينة ما كانوا ليؤمنوا أي : أهل الشقاء إلا أن يشاء الله أي أهل السعادة والذين سبق لهم في علمه أن يدخلوا في الإيمان .

وأخرج عبد بن حميد ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، وحشرنا عليهم كل شيء قبلا أي فعاينوا ذلك معاينة .

وأخرج أبو الشيخ ، عن مجاهد قال : أفواجا قبيلا .

وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن قال : إن للجن شياطين يضلونهم مثل شياطين الإنس يضلونهم ، فيلتقي شيطان الإنس وشيطان الجن ، فيقول هذا لهذا : أضلله بكذا وأضلله بكذا ، فهو يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا .

وقال ابن عباس : الجن هم الجان وليسوا شياطين ، والشياطين ولد إبليس وهم لا يموتون إلا مع إبليس والجن يموتون ، فمنهم المؤمن ومنهم الكافر .

وأخرج أبو الشيخ ، عن ابن مسعود قال : الكهنة هم شياطين الإنس .

وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : يوحي بعضهم إلى بعض قال : شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس ، فإن الله يقول : وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم .

وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، عن قتادة ، في الآية قال : من الإنس شياطين ومن الجن شياطين يوحي بعضهم إلى بعض .

وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، زخرف القول قال : يحسن بعضهم لبعض القول ليتبعوهم في فتنتهم .

وقد أخرج أحمد ، وابن أبي حاتم ، والطبراني عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الجن والإنس ، قال : يا نبي الله وهل للإنس شياطين ؟ قال : نعم ، شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا .

وأخرج أحمد ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن أبي ذر مرفوعا نحوه .

وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، ولتصغى لتميل .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عنه ولتصغى تزيغ وليقترفوا يكتسبوا .

التالي السابق


الخدمات العلمية