فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
اختلف أهل العلم هل هي آية مستقلة في أول كل سورة كتبت في أولها ، أو هي بعض آية من أول كل سورة ، أو هي كذلك في الفاتحة فقط دون غيرها ، أو أنها ليست بآية في الجميع وإنما كتبت للفصل ؟ والأقوال وأدلتها مبسوطة في موضع الكلام على ذلك .

وقد اتفقوا على أنها بعض آية في سورة النمل .

وقد جزم قراء مكة والكوفة بأنها آية من الفاتحة ومن كل سورة .

وخالفهم قراء المدينة والبصرة والشام فلم يجعلوها آية لا من الفاتحة ولا من غيرها من السور ، قالوا : وإنما كتبت للفصل والتبرك .

وقد أخرج أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه : بسم الله الرحمن الرحيم .

وأخرجه الحاكم في المستدرك .

وأخرج ابن خزيمة في صحيحه عن أم سلمة " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ البسملة في أول الفاتحة في الصلاة وغيرها آية " وفي إسناده عمرو بن هارون البلخي وفيه ضعف ، وروى نحوه الدارقطني مرفوعا عن أبي هريرة .

وكما وقع الخلاف في إثباتها وقع الخلاف في الجهر بها في الصلاة .

وقد أخرج النسائي في سننه ، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما ، والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة " أنه صلى فجهر في قراءته بالبسملة ، وقال بعد أن فرغ : إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " وصححه الدارقطني والخطيب والبيهقي وغيرهم .

وروى أبو داود والترمذي عن ابن عباس : " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يفتتح الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم " قال الترمذي : وليس إسناده بذاك .

وقد أخرجه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس بلفظ : " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم " ثم قال : صحيح .

وأخرج البخاري في صحيحه عن أنس أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : كانت قراءته مدا ، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد بسم الله ويمد ( الرحمن ) ويمد ( الرحيم ) .

وأخرج أحمد في المسند وأبو داود في السنن وابن خزيمة في صحيحه ، والحاكم في مستدركه عن أم سلمة أنها قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقطع قراءته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين " [ ص: 15 ] وقال الدارقطني : إسناده صحيح .

واحتج من قال : بأنه لا يجهر بالبسملة في الصلاة بما في صحيح مسلم عن عائشة قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير ، والقراءة بـ الحمد لله رب العالمين " .

وفي الصحيحين عن أنس قال : " صليت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بـ الحمد لله رب العالمين " .

ولمسلم " لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها " .

وأخرج أهل السنن نحوه عن عبد الله بن مغفل .

وإلى هذا ذهب الخلفاء الأربعة وجماعة من الصحابة .

وأحاديث الترك وإن كانت أصح ولكن الإثبات أرجح مع كونه خارجا من مخرج صحيح ، فالأخذ به أولى ولا سيما مع إمكان تأويل الترك ، وهذا يقتضي الإثبات الذاتي ، أعني كونها قرآنا ، والوصفي أعني الجهر بها عند الجهر بقراءة ما يفتتح بها من السور في الصلاة .

ولتنقيح البحث والكلام على أطرافه استدلالا وردا وتعقبا ودفعا ، ورواية ودراية موضع غير هذا .

ومتعلق الباء محذوف وهو أقرأ أو أتلو ؛ لأنه المناسب لما جعلت البسملة مبدأ له ، فمن قدره متقدما كان غرضه الدلالة بتقديمه على الاهتمام بشأن الفعل ، ومن قدره متأخرا كان غرضه الدلالة بتأخيره على الاختصاص مع ما يحصل في ضمن ذلك من العناية بشأن الاسم والإشارة إلى أن البداية به أهم لكون التبرك حصل به ، وبهذا يظهر رجحان تقدير الفعل متأخرا في مثل هذا المقام ، ولا يعارضه قوله تعالى : اقرأ باسم ربك الذي خلق [ العلق : 1 ] لأن ذلك المقام مقام القراءة ، فكان الأمر بها أهم ، وأما الخلاف بين أئمة النحو في كون المقدر اسما أو فعلا فلا يتعلق بذلك كثير فائدة .

والباء للاستعانة أو للمصاحبة ، ورجح الثاني الزمخشري .

واسم أصله سمو حذفت لامه ، ولما كان من الأسماء التي بنوا أوائلها على السكون زادوا في أوله الهمزة إذا نطقوا به لئلا يقع الابتداء بالساكن ، وهو اللفظ الدال على المسمى ، ومن زعم أن الاسم هو المسمى كما قاله أبو عبيدة وسيبويه والباقلاني وابن فورك ، وحكاه الرازي عن الحشوية والكرامية والأشعرية فقد غلط غلطا بينا ، وجاء بما لا يعقل ، مع عدم ورود ما يوجب المخالفة للعقل لا من الكتاب ولا من السنة ولا من لغة العرب ، بل العلم الضروري حاصل بأن الاسم الذي هو أصوات مقطعة وحروف مؤلفة غير المسمى الذي هو مدلوله ، والبحث مبسوط في علم الكلام .

وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة : إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة وقال الله عز وجل : ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها [ الأعراف : 180 ] وقال تعالى : قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى [ الإسراء : 110 ] .

والله علم لذات الواجب الوجود لم يطلق على غيره ، وأصله إله حذفت الهمزة وعوضت عنها أداة التعريف فلزمت .

وكان قبل الحذف من أسماء الأجناس يقع على كل معبود بحق أو باطل ، ثم غلب على المعبود بحق كالنجم والصعق ، فهو قبل الحذف من الأعلام الغالبة ، وبعده من الأعلام المختصة .

والرحمن الرحيم اسمان مشتقان من الرحمة على طريق المبالغة ، ورحمن أشد مبالغة من رحيم .

وفي كلام ابن جرير ما يفهم حكاية الاتفاق على هذا ، ولذلك قالوا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا .

وقد تقرر أن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى .

وقال ابن الأنباري والزجاج : إن الرحمن عبراني والرحيم عربي وخالفهما غيرهما .

والرحمن من الصفات الغالبة لم يستعمل في غير الله عز وجل .

وأما قول بني حنيفة في مسيلمة رحمن اليمامة ، فقال في الكشاف : إنه باب من تعنتهم في كفرهم .

قال أبو علي الفارسي : الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى ، والرحيم إنما هو في جهة المؤمنين ، قال الله تعالى : وكان بالمؤمنين رحيما [ الأحزاب : 43 ] وقد ورد في فضلها أحاديث .

منها ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه وابن خزيمة في كتاب البسملة والبيهقي عن ابن عباس قال : استرق الشيطان من الناس أعظم آية من القرآن : بسم الله الرحمن الرحيم .

وأخرج الدارقطني بسند ضعيف عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : كان جبريل إذا جاءني بالوحي أول ما يلقي علي بسم الله الرحمن الرحيم .

وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره والحاكم في المستدرك ، وصححه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس أن عثمان بن عفان سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بسم الله الرحمن الرحيم فقال : هو اسم من أسماء الله ، وما بينه وبين اسم الله الأكبر إلا كما بين سواد العين وبياضها من القرب .

وأخرج ابن جرير وابن عدي في الكامل وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر في تاريخ دمشق ، والثعلبي بسند ضعيف جدا عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن عيسى ابن مريم أسلمته أمه إلى الكتاب لتعلمه ، فقال له المعلم : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال له عيسى : وما بسم الله الرحمن الرحيم ؟ قال المعلم : لا أدري ، فقال له عيسى : الباء بهاء الله ، والسين سناه ، والميم مملكته ، والله إله الآلهة ، والرحمن رحمن الدنيا والآخرة ، والرحيم رحيم الآخرة وفي إسناده إسماعيل بن يحيى وهو كذاب .

وقد أورد هذا الحديث ابن الجوزي في الموضوعات .

وأخرج ابن مردويه والثعلبي عن جابر قال : لما نزلت بسم الله الرحمن الرحيم هرب الغيم إلى المشرق ، وسكنت الريح ، وهاج البحر ، وأصغت البهائم بآذانها ، ورجمت الشياطين من السماء ، وحلف الله بعزته وجلاله أن لا تسمى على شيء إلا بارك فيه .

وأخرج أبو نعيم والديلمي عن عائشة قالت : لما نزلت بسم الله الرحمن الرحيم ضجت الجبال حتى سمع أهل مكة دويها ، فقالوا : سحر محمد الجبال ، فبعث الله دخانا حتى أظل على أهل مكة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قرأ بسم الله الرحمن الرحيم موقنا سبحت معه الجبال إلا أنه لا يسمع ذلك منها .

وأخرج [ ص: 16 ] الديلمي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قرأ بسم الله الرحمن الرحيم كتب الله له بكل حرف أربعة آلاف حسنة ، ومحا عنه أربعة آلاف سيئة ، ورفع له أربعة آلاف درجة .

وأخرج الخطيب في الجامع عن أبي جعفر محمد بن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم مفتاح كل كتاب .

وهذه الأحاديث ينبغي البحث عن أسانيدها والكلام عليها بما يتبين بعد البحث إن شاء الله .

وقد شرعت التسمية في مواطن كثيرة قد بينها الشارع منها عند الوضوء ، وعند الذبيحة ، وعند الأكل ، وعند الجماع وغير ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية