1. الرئيسية
  2. فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية
  3. تفسير سورة الأعراف
  4. تفسير قوله تعالى " إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط "

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون قوله : لا تفتح لهم أبواب السماء .

قرأ ابن عباس ، وحمزة والكسائي بفتح التحتية لكون تأنيث الجمع غير حقيقي فجاز تذكيره .

وقرأ الباقون بالفوقية على التأنيث .

وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي تفتح بالتخفيف .

وقرأ الباقون بالتشديد ، والمعنى : أنها لا تفتح أبواب السماء لأرواحهم إذا ماتوا ، وقد دل على هذا المعنى وأنه المراد من الآية ما جاء في الأحاديث الصحيحة أن الملائكة إذا انتهوا بروح الكافر إلى السماء الدنيا يستفتحون فلا تفتح لهم أبواب السماء ، وقيل : لا تفتح أبواب السماء لأدعيتهم إذا دعوا ، قاله مجاهد والنخعي ، وقيل : لأعمالهم : أي لا تقبل ، بل ترد عليهم فيضرب بها في وجوههم ، وقيل : المعنى : أنها لا تفتح لهم أبواب الجنة يدخلونها ، لأن الجنة في السماء ، فيكون على هذا القول العطف لجملة " ولا يدخلون الجنة " من عطف التفسير ، ولا مانع من حمل الآية على ما يعم الأرواح والدعاء والأعمال ، ولا ينافيه ورود ما ورد من أنها لا تفتح أبواب السماء لواحد من هذه ، فإن ذلك لا يدل على فتحها لغيره مما يدخل تحت عموم الآية .

قوله : ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط أي أن هؤلاء الكفار المكذبين المستكبرين لا يدخلون الجنة بحال من الأحوال ، ولهذا علقه بالمستحيل ، فقال : حتى يلج الجمل في سم الخياط وهو لا يلج أبدا ، وخص الجمل بالذكر لكونه يضرب به المثل في كبر الذات ، وخص سم الخياط ، وهو ثقب الإبرة بالذكر لكونه غاية في الضيق ، والجمل الذكر من الإبل والجمع جمال وأجمال وجمالات ، وإنما سمي جملا إذا أربع .

وقرأ ابن عباس ، " الجمل " بضم الجيم وفتح الميم مشددة ، وهو حبل السفينة الذي يقال له : القلس وهو حبال مجموعة ، قاله ثعلب ، وقيل : الحبل الغليظ من القنب ، وقيل : الحبل الذي يصعد به في النخل .

وقرأ سعيد بن جبير ، " الجمل " بضم الجيم وتخفيف الميم وهو القلس أيضا .

وقرأ أبو السماك " الجمل " بضم الجيم وسكون الميم وقرئ أيضا بضمهما .

وقرأ عبد الله بن مسعود : " حتى يلج الجمل الأصغر في سم الخياط " وقرئ " في سم " [ ص: 475 ] بالحركات الثلاث ، والسم : كل ثقب لطيف ، ومنه ثقب الإبرة ، والخياط ما يخاط به ، يقال : خياط ومخيط . " وكذلك نجزي المجرمين " أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي المجرمين : أي جنس من أجرم وقد تقدم تحقيقه .

والمهاد : الفراش ، والغواش جمع غاشية : أي نيران تغشاهم من فوقهم كالأغطية وكذلك نجزي الظالمين أي مثل ذلك الجزاء العظيم نجزي من اتصف بصفة الظلم .

قوله : لا نكلف نفسا إلا وسعها أي لا نكلف العباد إلا بما يدخل تحت وسعهم ويقدرون عليه ، ولا نكلفهم ما لا يدخل تحت وسعهم ، وهذه الجملة معترضة بين المبتدأ والخبر ، ومثله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ( الطلاق : 7 ) .

وقرأ الأعمش " تكلف " بالفوقية ورفع نفس ، والإشارة بقوله : أولئك إلى الموصول ، وخبره أصحاب الجنة والجملة خبر الموصول ، وجملة هم فيها خالدون في محل نصب على الحال .

قوله : ونزعنا ما في صدورهم من غل هذا من جملة ما ينعم الله به على أهل الجنة أن ينزع الله ما في قلوبهم من الغل على بعضهم حتى تصفو قلوبهم ويود بعضهم بعضا ، فإن الغل لو بقي في صدورهم كما كان في الدنيا لكان في ذلك تنغيص لنعيم الجنة ، لأن المتشاحنين لا يطيب لأحدهم عيش مع وجود الآخر .

والغل : الحقد الكامن في الصدور ، وقيل : نزع الغل في الجنة أن لا يحسد بعضهم بعضا في تفاضل المنازل وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا " أي لهذا الجزاء العظيم ، وهو الخلود في الجنة ونزع الغل من صدورهم ، والهداية هذه لهذا هي الهداية لسببه من الإيمان والعمل الصالح في الدنيا وما كنا لنهتدي .

قرأ ابن عامر بإسقاط الواو ، وقرأ الباقون بإثباتها ، وما كنا نطيق أن نهتدي بهذا الأمر لولا هداية الله لنا ، والجملة مستأنفة أو حالية ، وجواب لولا محذوف يدل عليه ما قبله : أي لولا هداية الله لنا ما كنا لنهتدي .

قوله : لقد جاءت رسل ربنا بالحق اللام لام القسم ، قالوا : هذا لما وصلوا إلى ما وصلوا إليه من الجزاء العظيم اغتباطا بما صاروا فيه بسبب ما تقدم منهم من تصديق الرسل وظهور صدق ما أخبروهم به في الدنيا من أن جزاء الإيمان والعمل الصالح هو هذا الذي صاروا فيه .

قوله : ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون أي وقع النداء لهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فقيل : لهم : تلكم الجنة أورثتموها : أي ورثتم منازلها بعملكم .

قال في الكشاف : بسبب أعمالكم لا بالتفضل كما تقوله المبطلة انتهى .

أقول : يا مسكين هذا قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما صح عنه : سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته والتصريح بسبب لا يستلزم نفي سبب آخر ، ولولا التفضل من الله سبحانه وتعالى على العامل بإقداره على العمل لم يكن عمل أصلا ، فلو لم يكن التفضل إلا بهذا الإقدار لكان القائلون به محقة لا مبطلة ، وفي التنزيل : ذلك الفضل من الله وفيه فسيدخلهم في رحمة منه وفضل .

وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : لا تفتح لهم أبواب السماء يعني لا يصعد إلى الله من عملهم شيء .

وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عنه قال : لا تفتح لهم لعمل ولا لدعاء .

وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عنه أيضا في الآية قال : لا تفتح لأرواحهم ، وهي تفتح لأرواح المؤمنين .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عنه أيضا حتى يلج الجمل قال : ذو القوائم في سم الخياط قال : في خرت الإبرة .

وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني في الكبير وأبو الشيخ ، عن ابن مسعود في قوله : حتى يلج الجمل قال : زوج الناقة .

وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، من طرق عن ابن عباس ، أنه كان يقرأ " الجمل " بضم الجيم وتشديد الميم وقال : هو الحبل الغليظ أو هو من حبال السفن .

وأخرج عبد بن حميد ، عن ابن عمر أنه سئل عن سم الخياط فقال : الجمل في ثقب الإبرة .

وأخرج ابن المنذر ، عن ابن عباس ، قال : المهاد الفراش ، والغواش اللحف .

وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن محمد بن كعب مثله .

وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن علي بن أبي طالب قال : فينا والله أهل بدر نزلت هذه الآية : ونزعنا ما في صدورهم من غل .

وأخرج النسائي ، وابن جرير ، وابن مردويه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : كل أهل النار يرى منزله من الجنة يقول لو هدانا الله فيكون حسرة عليهم ، وكل أهل الجنة يرى منزله من النار فيقول لولا أن هدانا الله فهذا شكرهم .

وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والدارمي ، ومسلم ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون قال : نودوا أن صحوا فلا تسقموا ، وانعموا فلا تبأسوا ، وشبوا فلا تهرموا ، واخلدوا فلا تموتوا .

التالي السابق


الخدمات العلمية