1. الرئيسية
  2. فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية
  3. تفسير سورة البقرة
  4. تفسير قوله تعالى " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم "

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم

قال ابن كيسان : خلق لكم أي من أجلكم ، وفيه دليل على أن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة حتى يقوم دليل يدل على النقل عن هذا الأصل ، ولا فرق بين الحيوانات وغيرها مما ينتفع به من غير ضرر ، وفي التأكيد بقوله : جميعا أقوى دلالة على هذا .

وقد استدل بهذه الآية على تحريم أكل الطين ، لأنه تعالى خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض .

وقال الرازي في تفسيره : إن لقائل أن يقول : إن في جملة الأرض ما يطلق عليه أنه في الأرض فيكون جامعا للوصفين ، ولا شك أن المعادن داخلة في ذلك ، وكذلك عروق الأرض وما يجري مجرى البعض لها ولأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه انتهى .

وقد ذكر صاحب الكشاف ما هو أوضح من هذا فقال : فإن قلت : هل لقول من زعم أن المعنى خلق لكم الأرض وما فيها وجه صحة ؟ قلت : إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء كما تذكر السماء ويراد الجهات العلوية جاز ذلك ، فإن الغبراء وما فيها واقعة في الجهات السفلية انتهى .

وأما التراب فقد ورد في السنة تحريمه ، وهو أيضا ضار فليس مما ينتفع به أكلا ، ولكنه ينتفع به في منافع أخرى ، وليس المراد منفعة خاصة كمنفعة الأكل ، بل كل ما يصدق عليه أنه ينتفع به بوجه من الوجوه ، و ( جميعا ) منصوب على الحال .

والاستواء في اللغة : الاعتدال والاستقامة ، قاله في الكشاف ، ويطلق على الارتفاع والعلو على الشيء ، قال تعالى : فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك [ المؤمنون : 28 ] وقال : لتستووا على ظهوره [ الزخرف : 13 ] وهذا المعنى هو المناسب لهذه الآية .

وقد قيل : إن هذه الآية من [ ص: 43 ] المشكلات .

وقد ذهب كثير من الأئمة إلى الإيمان بها وترك التعرض لتفسيرها ، وخالفهم آخرون .

والضمير في قوله : " فسواهن " مبهم يفسره ما بعده كقولهم : زيد رجلا ، وقيل : إنه راجع إلى السماء لأنها في معنى الجنس ، والمعنى : أنه عدل خلقهن فلا اعوجاج فيه .

وقد استدل بقوله : ثم استوى على أن خلق الأرض متقدم على خلق السماء .

وكذلك الآية التي في حم السجدة .

وقال في النازعات أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها [ النازعات : 27 ] فوصف خلقها ثم قال : والأرض بعد ذلك دحاها [ النازعات : 30 ] فكأن السماء على هذا خلقت قبل الأرض ، وكذلك قوله تعالى : الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض [ الأنعام : 1 ] وقد قيل : إن خلق جرم الأرض متقدم على السماء ودحوها متأخر .

وقد ذكر نحو هذا جماعة من أهل العلم ، وهذا جم جيد لا بد من المصير إليه ، ولكن خلق ما في الأرض لا يكون إلا بعد الدحو ، والآية المذكورة هنا دلت على أنه خلق ما في الأرض قبل خلق السماء ، وهذا يقتضي بقاء الإشكال وعدم التخلص عنه بمثل هذا الجمع .

وقوله : سبع سماوات فيه التصريح بأن السماوات سبع ، وأما الأرض فلم يأت في ذكر عددها إلا قوله تعالى : ومن الأرض مثلهن [ الطلاق : 12 ] فقيل : أي في العدد ، وقيل : أي في غلظهن وما بينهن .

وقال الداودي : إن الأرض سبع ، ولكن لم يفتق بعضها من بعض .

والصحيح أنها سبع كالسماوات .

وقد ثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وآله وسلم : من أخذ شبرا من الأرض ظلما طوقه الله من سبع أرضين وهو ثابت من حديث عائشة وسعيد بن زيد .

ومعنى قوله تعالى : سواهن سوى سطوحهن بالإملاس ، وقيل : جعلهن سواء .

قال الرازي في تفسيره : فإن قيل : فهل يدل التنصيص على سبع سماوات .

أي فقط ؟ قلنا : الحق أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد والله أعلم انتهى .

وفي هذا إشارة إلى ما ذكره الحكماء من الزيادة على السبع .

ونحن نقول : إنه لم يأتنا عن الله ولا عن رسوله إلا السبع فنقتصر على ذلك ولا نعمل بالزيادة إلا إذا جاءت من طريق الشرع ولم يأت شيء من ذلك ، وإنما أثبت لنفسه سبحانه أنه بكل شيء عليم ؛ لأنه يجب أن يكون عالما بجميع ما ثبت أنه خالقه .

وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا قال : سخر لكم ما في الأرض جميعا كرامة من الله ونعمة لابن آدم وبلغة ومنفعة إلى أجل .

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن مجاهد في قوله : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا قال : سخر لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء ، قال : خلق الأرض قبل السماء ، فلما خلق الأرض ثار منها دخان فذلك قوله : ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات يقول : خلق سبع سماوات بعضهن فوق بعض ، وسبع أرضين بعضهن فوق بعض .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة في قوله : هو الذي خلق لكم ما في الأرض الآية ، قالوا : إن الله كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئا قبل الماء ، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء فسما عليه فسماه سماء ثم انبس الماء فجعله أرضا واحدة ثم فتقها سبع أرضين في يومين الأحد والاثنين ، فخلق الأرض على حوت وهو الذي ذكره في قوله : ن والقلم [ القلم : 1 ] والحوت في الماء ، والماء على ظهر صفاة ، والصفاة على ظهر ملك ، والملك على صخرة ، والصخرة في الريح ، وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ولا في الأرض ، فتحرك الحوت فاضطرب فتزلزلت الأرض ، فأرسى عليها الجبال فقرت ، فذلك قوله تعالى : وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم [ النحل : 15 ] وخلق الجبال فيها وأقوات أهلها ، سخرها وما ينبغي لها في يومين في الثلاثاء والأربعاء وذلك قوله : أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض إلى قوله وبارك فيها [ فصلت : 9 ] يقول : أنبت شجرها وقدر فيها أقواتها [ فصلت : 10 ] يقول : أقوات أهلها في أربعة أيام سواء للسائلين [ فصلت : 10 ] يقول : من سأل فهكذا الأمر ، ثم استوى إلى السماء وهي دخان [ فصلت : 11 ] وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس فجعلها سماء واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع سماوات في يومين في الخميس والجمعة ، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السماوات والأرض وأوحى في كل سماء أمرها [ فصلت : 12 ] قال : خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد وما لا يعلم ، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب فجعلها زينة وحفظا من الشياطين ، فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش .

وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : ثم استوى إلى السماء يعني صعد أمره إلى السماء فسواهن : يعني خلق سبع سماوات ، قال : أجرى النار على الماء فبخر البحر فصعد في الهواء فجعل السماوات منه .

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حديث أبي هريرة في الصحيح قال : أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيدي فقال : خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق فيها الجبال يوم الأحد ، وخلق الشجر يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النور يوم الأربعاء ، وبث فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم يوم الجمعة بعد العصر .

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طرق عند أهل السنن وغيرهم عن جماعة من الصحابة أحاديث في وصف السماوات ، وأن غلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام ، وما بين كل سماء إلى سماء خمسمائة عام ، وأنها سبع سماوات ، وأن الأرض سبع أرضين ، وكذلك ثبت في وصف السماء آثار عن جماعة من الصحابة .

وقد ذكر السيوطي في الدر المنثور بعض ذلك في تفسير هذه الآية ، وإنما تركنا ذكره هاهنا لكونه غير متعلق بهذه الآية على الخصوص ، [ ص: 44 ] بل هو متعلق بما هو أعم منها .

التالي السابق


الخدمات العلمية