فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون .

المراد بالملك هنا : هو الملك الأكبر ، وهو الريان بن الوليد الذي كان العزيز وزيرا له ، رأى في نومه لما دنا فرج يوسف عليه السلام أنه خرج من نهر يابس سبع بقرات سمان جمع سمين وسمينة ، في إثرهن سبع عجاف : أي مهازيل ، وقد أقبلت العجاف على السمان فأكلتهن .

والمعنى : إني رأيت ، ولكنه عبر بالمضارع لاستحضار الصورة ، وكذلك قوله يأكلهن عبر بالمضارع للاستحضار ، والعجاف جمع عجفاء ، وقياس جمعه عجف ، لأن فعلاء وأفعل لا تجمع على فعال ، ولكنه عدل عن القياس حملا على سمان ، وسبع سنبلات معطوف على سبع بقرات ، والمراد بقوله خضر أنه قد انعقد حبها ، واليابسات التي قد بلغت الحصاد ، والمعنى : وأرى سبعا أخر يابسات ، وكان قد رأى أن السبع السنبلات اليابسات قد أدركت الخضر والتوت عليها حتى غلبتها ، ولعل عدم التعرض لذكر هذا في النظم القرآني للاكتفاء بما ذكر من حال البقرات . ياأيها الملأ خطاب للأشراف من قومه أفتوني في رؤياي أي أخبروني بحكم هذه الرؤيا إن كنتم للرؤيا تعبرون أي تعلمون عبارة الرؤيا ، وأصل العبارة مشتقة من عبور النهر ، فمعنى عبرت النهر : بلغت شاطئه ، فعابر الرؤيا يخبر بما يئول إليه أمرها .

قال الزجاج : اللام في للرؤيا للتبيين : أي إن كنتم تعبرون ، ثم بين فقال للرؤيا وقيل هو للتقوية ، وتأخير الفعل العامل فيه لرعاية الفواصل .

وجملة قالوا أضغاث أحلام [ ص: 699 ] مستأنفة جواب سؤال مقدر ، والأضغاث جمع ضغث ، وهو كل مختلط من بقل أو حشيش أو غيرهما ، والمعنى : أخاليط أحلام جمع حلم : وهي الرؤيا الكاذبة التي لا حقيقة لها كما يكون من حديث النفس ووسواس الشيطان ، والإضافة بمعنى من ، وجمعوا الأحلام ولم يكن من الملك إلا رؤيا واحدة مبالغة منهم في وصفها بالبطلان ، ويجوز أن يكون رأى مع هذه الرؤيا غيرها مما لم يقصه الله علينا وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين قال الزجاج : المعنى بتأويل الأحلام المختلطة ، نفوا عن أنفسهم علم ما لا تأويل له ، لا مطلق العلم بالتأويل ، وقيل إنهما نفوا عن أنفسهم علم التعبير مطلقا ولم يدعوا أنه لا تأويل لهذه الرؤيا ، وقيل إنهم قصدوا محوها من صدر الملك حتى لا يشتغل بها ، ولم يكن ما ذكروه من نفي العلم حقيقة .

وقال الذي نجا منهما أي من الغلامين ، وهو الساقي الذي قال له يوسف اذكرني عند ربك ، [ يوسف 42 ] وادكر بعد أمة بالدال المهملة على قراءة الجمهور ، وهي القراءة الفصيحة : أي تذكر الساقي يوسف وما شاهده منه من العلم بتعبير الرؤيا .

وقرئ بالمعجمة ، ومعنى بعد أمة : بعد حين ، ومنه إلى أمة معدودة [ هود 8 ] أي إلى وقت .

قال ابن درستويه : والأمة لا تكون على الحين إلا على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، كأنه قال : والله أعلم وادكر بعد حين أمة أو بعد زمن أمة .

والأمة : الجماعة الكثيرة من الناس .

قال الأخفش : هو في اللفظ واحد وفي المعنى جمع .

وكل جنس من الحيوان أمة .

وقرأ ابن عباس وعكرمة بعد أمة بفتح الهمزة وتخفيف الميم : أي بعد نسيان ، ومنه قول الشاعر :


أممت وكنت لا أنس حديثا كذاك الدهر يودي بالعقول

ويقال أمه يأمه أمها : إذا نسي .

وقرأ الأشهب العقيلي بعد إمة بكسر الهمزة : أي بعد نعمة : وهي نعمة النجاة أنا أنبئكم بتأويله أي أخبركم به بسؤالي عنه من له علم بتأويله ، وهو يوسف . فأرسلون خاطب الملك بلفظ التعظيم ، أو خاطبه ومن كان عنده من الملأ ، طلب منهم أن يرسلوه إلى يوسف ليقص عليه رؤيا الملك حتى يخبره بتأويلها فيعود بذلك إلى الملك .

يوسف أيها الصديق أفتنا أي يا يوسف ، وفي الكلام حذف ، والتقدير : فأرسلوه إلى يوسف فسار إليه ، فقال له يوسف أيها الصديق إلى آخر الكلام ، والمعنى : أخبرنا في رؤيا من رأى سبع بقرات إلخ وترك ذلك اكتفاء بما هو واثق به من فهم يوسف بأن ذلك رؤيا ، وأن المطلوب منه تعبيرها لعلي أرجع إلى الناس أي إلى الملك ومن عنده من الملأ لعلهم يعلمون ما تأتي به من تأويل هذه الرؤيا أو يعلمون فضلك ومعرفتك لفن التعبير .

وجملة قال تزرعون إلخ مستأنفة جواب سؤال مقدر كغيرها مما يرد هذا المورد سبع سنين دأبا أي متوالية متتابعة ، وهو مصدر ، وقيل هو حال : أي دائبين ، وقيل صفة لسبع : أي دائبة ، وحكى أبو حاتم عن يعقوب أنه قرأ " دأبا " بتحريك الهمزة ، وكذا روى حفص عن عاصم وهما لغتان .

قال الفراء : حرك لأن فيه حرفا من حروف الحلق ، وكذلك كل حرف فتح أوله وسكن ثانيه فتثقيله جائز في كلمات معروفة .

فعبر يوسف عليه السلام السبع البقرات السمان بسبع سنين فيها خصب ، والعجاف بسبع سنين فيها جدب وهكذا عبر السبع السنبلات الخضر والسبع السنبلات اليابسات ، واستدل بالسبع السنبلات الخضر على ما ذكره في التعبير من قوله فما حصدتم فذروه في سنبله أي ما حصدتم في كل سنة من السنين المخصبة فذروا ذلك المحصود في سنبله ولا تفصلوه عنها لئلا يأكله السوس إلا قليلا مما تأكلون في هذه السنين المخصبة فإنه لا بد لكم من فصله عن سنبله وإخراجه عنها ، واقتصر على استثناء المأكول دون ما يحتاجون إليه من البذر الذي يبذرونه في أموالهم لأنه قد علم من قوله تزرعون .

ثم يأتي من بعد ذلك أي من بعد السبع السنين المخصبة سبع شداد أي سبع سنين مجدبة يصعب أمرها على الناس يأكلن ما قدمتم لهن من تلك الحبوب المتروكة في سنابلها .

وإسناد الأكل إلى السنين مجاز ، والمعنى : يأكل الناس فيهن أو يأكل أهلهن ما قدمتم لهن : أي ما ادخرتم لأجلهن فهو من باب : نهاره صائم ، ومنه قول الشاعر :


نهارك يا مغرور سهو وغفلة     وليلك نوم والردى لك لازم

إلا قليلا مما تحصنون أي مما تحبسون من الحب لتزرعوا به ، لأن في استبقاء البذر تحصين الأقوات .

وقال أبو عبيدة : معنى تحصنون : تحرزون ، وقيل تدخرون ، والمعنى واحد .

وقوله : ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون أي من بعد السنين المجدبات ، فالإشارة إليها ، والعام السنة ، فيه يغاث الناس من الإغاثة أو الغوث ، والغيث المطر ، وقد غاث الغيث الأرض : أي أصابها ، وغاث الله البلاد بغيثها غوثا : أمطرها ، فمعنى يغاث الناس : يمطرون وفيه يعصرون أي يعصرون الأشياء التي تعصر كالعنب والسمسم والزيتون وقيل أراد حلب الألبان ، وقيل معنى يعصرون : ينجون .

مأخوذ من العصرة وهي المنجاة .

قال أبو عبيدة : والعصر بالتحريك الملجأ والمنجاة ، ومنه قول الشاعر :


صاديا يستغيث غير مغاث     ولقد كان عصرة المنجود

واعتصرت بفلان : التجأت به .

وقرأ حمزة والكسائي " تعصرون " بتاء الخطاب .

وقرئ يعصرون بضم حرف المضارعة وفتح الصاد ، ومعناه يمطرون ، ومنه قوله تعالى : وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا [ النبأ 14 ] .

وقد أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : قال يوسف للساقي : اذكرني عند ربك : أي الملك الأعظم ومظلمتي وحبسي في غير شيء ، فقال أفعل ، فلما خرج الساقي رد على ما كان عليه ورضي عنه صاحبه وأنساه الشيطان ذكر الملك الذي أمره يوسف أن يذكره له ، فلبث يوسف بعد ذلك في السجن بضع سنين ، ثم إن الملك [ ص: 700 ] ريان بن الوليد رأى رؤياه التي أري فيها فهالته وعرف أنها رؤيا واقعة ولم يدر ما تأويلها ، فقال للملأ حوله من أهل مملكته إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات فلما سمع من الملك ما سمع منه ومسألته عن تأويلها ذكر يوسف وما كان عبر له ولصاحبه وما جاء من ذلك على ما قال فقال : أنا أنبئكم بتأويله .

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : أضغاث أحلام يقول : مشتبهة .

وأخرج أبو يعلى وابن جرير عنه قال : من الأحلام الكاذبة وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله .

وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ من طرق عن ابن عباس في قوله وادكر بعد أمة قال : بعد حين .

وأخرج ابن جرير عن مجاهد والحسن وعكرمة وعبد الله بن كثير والسدي مثله .

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : بعد سنين .

وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : بعد أمة من الناس وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : أفتنا في سبع بقرات الآية ، قال : أما السمان فسنون فيها خصب ، وأما العجاف فسنون مجدبة ، وسبع سنبلات خضر هي السنون المخاصيب تخرج الأرض نباتها وزرعها وثمارها ، وأخر يابسات : المحول الجدوب لا تنبت شيئا .

وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط عليهم أن يخرجوني ، ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له حين أتاه الرسول ، ولو كنت مكانه لبادرتهم الباب ولكنه أراد أن يكون له العذر .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : إلا قليلا مما تحصنون يقول : تخزنون ، وفي قوله : وفيه يعصرون يقول : الأعناب والدهن .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : فيه يغاث الناس يقول : يصيبهم فيه غيث وفيه يعصرون يقول : يعصرون فيه العنب ويعصرون فيه الزبيب ويعصرون من كل الثمرات .

وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه أيضا وفيه يعصرون قال : يحتلبون .

وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عنه أيضا ثم يأتي من بعد ذلك عام قال : أخبرهم بشيء لم يسألوه عنه كأن الله قد علمه إياه فيه يغاث الناس بالمطر ، وفيه يعصرون السمسم دهنا والعنب خمرا والزيتون زيتا .

التالي السابق


الخدمات العلمية