فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون

قوله : ومنهم أي من اليهود .

والأمي منسوب إلى الأمة الأمية التي هي على أصل ولادتها من أمهاتها لم تتعلم الكتابة ولا تحسن القراءة للمكتوب ، ومنه حديث إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب وقال أبو عبيدة : إنما قيل لهم : أميون لنزول الكتاب عليهم كأنهم نسبوا إلى أم الكتاب ، فكأنه قال : ومنهم أهل الكتاب ، وقيل : هم المجوس ، وقيل غير ذلك والراجح الأول .

ومعنى : لا يعلمون الكتاب إلا أماني أنه لا علم لهم به إلا ما هم عليه من الأماني التي يتمنونها ويعللون بها أنفسهم .

والأماني جمع أمنية وهي ما يتمناه الإنسان لنفسه ، فهؤلاء لا علم لهم بالكتاب الذي هو التوراة لما هم عليه من كونهم مغفورا لهم بما يدعونه لأنفسهم من الأعمال الصالحة ، أو بما لهم من السلف الصالح في اعتقادهم ، وقيل : الأماني : الأكاذيب كما سيأتي عن ابن عباس .

ومنه قول عثمان بن عفان : ما تمنيت منذ أسلمت ، أي ما كذبت ، حكاه عنه القرطبي في تفسيره ، وقيل : الأماني : التلاوة ، ومنه قوله تعالى : إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته أي إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته ، أي لا علم لهم إلا مجرد التلاوة من دون تفهم وتدبر ، ومنه قول كعب بن مالك :

تمنى كتاب الله أول ليلة وآخره لاقى حمام المقادر

وقال آخر :

تمنى كتاب الله آخر ليلة     تمني داود الزبور على رسل

وقيل : الأماني : التقدير .

قال الجوهري : يقال مني له ، أي قدر ، ومنه قول الشاعر :

لا تأمنن وإن أمسيت في حرم     حتى تلاقي ما يمني لك الماني

أي يقدر لك المقدر .

قال في الكشاف : والاشتقاق من مني إذا قدر ، لأن المتمني يقدر في نفسه ويجوز ما يتمناه وكذلك المختلق والقارئ يقدر أن كلمة كذا بعد كذا . انتهى .

و " إن " في قوله : وإن هم إلا يظنون نافية ، أي ما هم . والظن هو التردد الراجح بين طرفي الاعتقاد الغير الجازم . كذا في القاموس ، أي ما هم إلا يترددون بغير جزم ولا يقين ، وقيل : الظن هنا بمعنى الكذب ، وقيل : هو مجرد الحدس .

لما ذكر الله سبحانه أهل العلم منهم بأنهم غير عاملين بل يحرفون كلام الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ، ذكر أهل الجهل منهم بأنهم يتكلون على الأماني ويعتمدون على الظن الذي لا يقفون من تقليدهم على غيره ولا يظفرون بسواه .

والويل : الهلاك .

وقال الفراء : الأصل في الويل وي ، أي حزن كما تقول : وي لفلان ، أي حزن له ، فوصلته العرب باللام ، قال الخليل : ولم نسمع على بنائه إلا ويح ، وويس ، وويه ، وويك ، وويب ، وكله متقارب في المعنى ، وقد فرق بينها قوم وهي مصادر لم ينطق العرب بأفعالها ، وجاز الابتداء به وإن كان نكرة لأنه فيه معنى الدعاء .

والكتابة معروفة ، والمراد : أنهم يكتبون الكتاب المحرف ولا يبينون ولا ينكرونه على فاعله .

وقوله : ( بأيديهم ) تأكيد لأن الكتابة لا تكون إلا باليد فهو مثل قوله : ولا طائر يطير بجناحيه وقوله : يقولون بأفواههم وقال ابن سراج : هو كناية عن أنه من تلقائهم دون أن ينزل عليهم .

وفيه أنه قد دل على أنه من تلقائهم [ ص: 71 ] قوله : يكتبون الكتاب فإسناد الكتابة إليهم يفيد ذلك .

والاشتراء : الاستبدال ، وقد تقدم الكلام عليه ، ووصفه بالقلة لكونه فانيا لا ثواب فيه ، أو لكونه حراما لا تحل به البركة ، فهؤلاء الكتبة لم يكتفوا بالتحريف ولا بالكتابة لذلك المحرف حتى نادوا في المحافل بأنه من عند الله ، لينالوا بهذه المعاصي المتكررة هذا العرض النزير والعوض الحقير .

وقوله : مما يكسبون قيل : من الرشا ونحوها ، وقيل : من المعاصي ، وكرر الويل تغليظا عليهم وتعظيما لفعلهم وهتكا لأستارهم .

وقالوا أي اليهود لن تمسنا النار الآية .

وقد اختلف في سبب نزول الآية كما سيأتي بيانه .

والمراد بقوله : قل أتخذتم عند الله عهدا الإنكار عليهم لما صدر منهم من هذه الدعوى الباطلة أنها لن تمسهم النار إلا أياما معدودة ، أي لم يتقدم لكم مع الله عهد بهذا ، ولا أسلفتم من الأعمال الصالحة ما يصدق هذه الدعوى حتى يتعين الوفاء بذلك وعدم إخلاف العهد ، أي إن اتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون .

قال في الكشاف : و " أم " إما أن تكون معادلة بمعنى أي الأمرين كائن . على سبيل التقرير لأن العلم واقع بكون أحدهما ، ويجوز أن تكون منقطعة . انتهى ، وهذا توبيخ لهم شديد .

قال الرازي في تفسيره : العهد في هذا الموضع يجري مجرى الوعد ، وإنما سمي خبره سبحانه عهدا لأن خبره أوكد من العهود المؤكدة .

وقوله : ( بلى ) إثبات بعد النفي ، أي بلى تمسكم لا على الوجه الذي ذكرتم من كونه أياما معدودة .

والسيئة : المراد بها الجنس هنا ، ومثله قوله تعالى : وجزاء سيئة سيئة مثلها ، من يعمل سوءا يجز به ثم أوضح سبحانه أن مجرد كسب السيئة لا يوجب الخلود في النار ، بل لا بد أن تكون سيئة محيطة به ، قيل : هي الشرك وقيل : الكبيرة .

وتفسيرها بالشرك أولى لما ثبت في السنة تواترا من خروج عصاة الموحدين من النار ، ويؤيد ذلك كونها نازلة في اليهود وإن كان الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

وقد قرأ نافع " خطياته " بالجمع ، وقرأ الباقون بالإفراد ، وقد تقدم تفسير الخلود .

وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس في قوله : ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب قال : لا يدرون ما فيه وإن هم إلا يظنون قال : وهم يجحدون نبوتك بالظن .

وأخرج ابن جرير عنه ، قال : الأميون قوم لم يصدقوا رسولا أرسله الله ، ولا كتابا أنزله الله فكتبوا كتابا بأيديهم ، ثم قالوا لقوم سفلة جهال : هذا من عند الله .

وقد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم ، ثم سماهم أميين لجحودهم كتب الله ورسله .

وأخرج ابن جرير عن النخعي قال : منهم من لا يحسن أن يكتب .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : ( إلا أماني ) قال : الأحاديث .

وأخرج ابن جرير عنه أنها الكذب .

وكذا روى مثله عبد بن حميد عن مجاهد ، وزاد وإن هم إلا يظنون قال : إلا يكذبون .

وأخرج النسائي وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : فويل للذين يكتبون الكتاب قال : نزلت في أهل الكتاب .

وأخرج أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه ، وصححه عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره .

وأخرج ابن جرير من حديث عثمان مرفوعا قال : الويل جبل في النار .

وأخرج البزار وابن مردويه من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعا أنه حجر في النار .

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : فويل للذين يكتبون الكتاب قال : هم أحبار اليهود ، وجدوا صفة النبي صلى الله عليه وسلم مكتوبة في التوراة أكحل أعين ربعة جعد الشعر حسن الوجه ، فلما وجدوه في التوراة محوه حسدا وبغيا ، فأتاهم نفر من قريش فقالوا : تجدون في التوراة نبيا أميا ؟ فقالوا : نعم نجده طويلا أزرق سبط الشعر ، فأنكرت قريش وقالوا : ليس هذا منا ، وأخرج ابن جرير عنه في قوله : ( ثمنا قليلا ) قال : عرضا من عرض الدنيا فويل لهم قال : فالعذاب عليهم من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب وويل لهم مما يكسبون يقول : مما يأكلون به أموال الناس السفلة وغيرهم .

وقد ذكر صاحب الدر المنثور آثارا عن جماعة من السلف أنهم كرهوا بيع المصاحف مستدلين بهذه الآية ، ولا دلالة فيها على ذلك ، ثم ذكر آثارا عن جماعة منهم أنهم جوزوا ذلك ولم يكرهوه .

وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والواحدي عن ابن عباس : أن اليهود كانوا يقولون : مدة الدنيا سبعة آلاف سنة ، وإنما نعذب بكل ألف سنة من أيام الدنيا يوما واحدا في النار ، وإنما هي سبعة أيام معدودة ، ثم ينقطع العذاب ، فأنزل الله في ذلك وقالوا لن تمسنا النار الآية .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : وجد أهل الكتاب مسيرة ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين فقالوا : لن تعذب أهل النار إلا قدر أربعين ، فإذا كان يوم القيامة ألجموا في النار فساروا فيها حتى انتهوا إلى سقر ، وفيها شجرة الزقوم إلى آخر يوم من الأيام المعدودة ، فقال لهم خزنة النار : يا أعداء الله زعمتم أنكم لن تعذبوا في النار إلا أياما معدودة ، فقد انقضى العدد وبقي الأبد ، فيؤخذون في الصعود يرهقون على وجوههم .

وأخرج ابن جرير عنه أن اليهود قالوا : لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة مدة عبادة العجل .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : اجتمعت يهود يوما فخاصموا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : لن تمسنا النار إلا أياما معدودات أربعين يوما ثم يخلفنا فيها ناس ، وأشاروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد يديه على رأسه : كذبتم بل أنتم خالدون مخلدون فيها لا نخلفكم فيها إن شاء الله أبدا ففيهم نزلت هذه الآية وقالوا لن تمسنا النار .

وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم مرفوعا نحوه .

وأخرج أحمد والبخاري والدارمي والنسائي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل اليهود في خيبر : من [ ص: 72 ] أهل النار ؟ فقالوا : نكون فيها يسيرا ، ثم تخلفونا فيها ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : اخسئوا والله لا نخلفكم فيها أبدا .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله : قل أتخذتم عند الله عهدا أي موثقا من الله بذلك أنه كما تقولون .

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه فسر العهد هنا بأنهم قالوا : لا إله إلا الله ، لم يشركوا به ولم يكفروا .

وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله : أم تقولون على الله ما لا تعلمون قال : قال القوم الكذب والباطل ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : بلى من كسب سيئة قال : الشرك .

وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد وعكرمة وقتادة مثله .

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة في قوله : " وأحاطت به خطيئته " قال : أحاط به شركه .

وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله : بلى من كسب سيئة أي من عمل مثل أعمالكم وكفر بمثل ما كفرتم حتى يحيط كفره بما له من حسنة فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون والذين آمنوا وعملوا الصالحات أي من آمن بما كفرتم به وعمل بما تركتم من دينه فلهم الجنة خالدين فيها .

وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله : " وأحاطت به خطيئته " قال : هي الكبيرة الموجبة لأهلها النار .

وأخرج وكيع وابن جرير عن الحسن أنه قال : كل ما وعد الله عليه النار فهو الخطيئة .

وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن الربيع بن خيثم قال : هو الذي يموت على خطيئته قبل أن يتوب وأخرج مثله ابن جرير عن الأعمش .

التالي السابق


الخدمات العلمية