فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
قال القرطبي : وهي مكية في قول جميع المفسرين .

وروي عن فرقة أن أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله : جرزا والأول أصح . انتهى .

ومن القائلين إنها مكية جميعها ابن عباس ، أخرجه عنه النحاس وابن مردويه ومنهم ابن الزبير ، أخرجه عنه ابن مردويه .

وقد ورد في فضلها أحاديث منها ما أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال .

وأخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن حبان ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال .

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما ، عن البراء قال : قرأ رجل سورة الكهف وفي الدار دابة ، فجعلت تنفر ، فنظر فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته ، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فقال : اقرأ فلان ، فإن السكينة نزلت للقرآن ، وهذا الذي كان يقرأ هو أسيد بن حضير كما بينه الطبراني .

وأخرج الترمذي وصححه عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : من قرأ ثلاث آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال وفي قراءة العشر الآيات من أولها أو من آخرها أحاديث .

وأخرج ابن مردويه والضياء في المختارة عن علي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : من قرأ الكهف يوم الجمعة فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة تكون ، فإن خرج الدجال عصم منه .

وأخرج الطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي والضياء ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : من قرأ سورة الكهف كانت له نورا من مقامه إلى مكة ، ومن قرأ عشر آيات من آخرها ثم خرج الدجال لم يضره .

وأخرج الحاكم وصححه من حديث أبي سعيد أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين .

وأخرجه البيهقي أيضا في السنن من هذا الوجه ومن وجه آخر .

وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيء له يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين .

وأخرج ابن مردويه عن [ ص: 849 ] عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ألا أخبركم بسورة ملأ عظمتها ما بين السماء والأرض ولكاتبها من الأجر مثل ذلك ومن قرأها يوم الجمعة غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام ، ومن قرأ الخمس الأواخر منها عند نومه بعثه الله من أي الليل شاء ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : سورة أصحاب الكهف .

وأخرج ابن مردويه ، عن عبد الله بن مغفل قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : البيت الذي تقرأ فيه سورة الكهف لا يدخله شيطان تلك الليلة وفي الباب أحاديث وآثار ، وفيما أوردناه كفاية مغنية .

بسم الله الرحمن الرحيم .

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا .

علم عباده كيف يحمدونه على إفاضة نعمه عليهم ، ووصفه بالموصول يشعر بعلية ما في حيز الصلة لما قبله ، ووجه كون إنزال الكتاب - وهو القرآن - نعمة على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كونه اطلع بواسطته على أسرار التوحيد ، وأحوال الملائكة والأنبياء ، وعلى كيفية الأحكام الشرعية التي تعبده الله وتعبد أمته بها ، وكذلك العباد كان إنزال الكتاب على نبيهم نعمة لهم لمثل ما ذكرناه في النبي ولم يجعل له عوجا أي : شيئا من العوج بنوع من أنواع الاختلال في اللفظ والمعنى ، و ( العوج ) بالكسر في المعاني ، وبالفتح في الأعيان . كذا قيل ، ويرد عليه قوله سبحانه : لا ترى فيها عوجا ولا أمتا [ طه : 107 ] ، يعني الجبال ، وهي من الأعيان .

قال الزجاج : المعنى في الآية : لم يجعل فيها اختلافا كما قال : ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا . [ النساء : 82 ]

والقيم : المستقيم الذي لا ميل فيه ، أو القيم بمصالح العباد الدينية والدنيوية ، أو القيم على ما قبله من الكتب السماوية مهيمنا عليها ، وعلى الأول يكون تأكيدا لما دل عليه نفي العوج ، فرب مستقيم في الظاهر لا يخلو عن أدنى عوج في الحقيقة ، وانتصاب ( قيما ) بمضمر أي : جعله قيما ، ومنع صاحب الكشاف أن يكون حالا من الكتاب ؛ لأن قوله : ( ولم يجعل ) معطوف على ( أنزل ) فهو داخل في حيز الصلة ، فجاعله حالا من الكتاب فصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة .

وقال الأصفهاني : هما حالان متواليان إلا أن الأول جملة والثاني مفرد ، وهذا صواب ؛ لأن قوله : ( ولم يجعل ) لم يكن معطوفا على ما قبله بل الواو للحال ، فلا فصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة .

وقيل : إن ( قيما ) حال من ضمير ( لم يجعل له ) وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا ، ثم أراد سبحانه أن يفصل ما أجمله في قوله : ( قيما ) فقال : لينذر بأسا شديدا وحذف المنذر للعلم به مع قصد التعميم ، والمعنى : لينذر الكافرين .

والبأس : العذاب ، ومعنى ( من لدنه ) صادرا من لدنه نازلا من عنده .

روى أبو بكر عن عاصم أنه قرأ : ( من لدنه ) بإشمام الدال الضمة ، وبكسر النون والهاء . وهي لغة الكلابيين .

وروى أبو زيد عن جميع القراء فتح اللام وضم الدال وسكون النون ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات قرئ ( يبشر ) بالتشديد والتخفيف ، وأجري الموصول على موصوله المذكور ؛ لأن مدار قبول الأعمال هو الإيمان أن لهم أجرا حسنا وهو الجنة حال كونهم ( ماكثين فيه ) أي : في ذلك الأجر ( أبدا ) أي : مكثا دائما لا انقطاع له ، وتقديم الإنذار على التبشير لإظهار كمال العناية بزجر الكفار .

ثم كرر الإنذار وذكر المنذر لخصوصه وحذف المنذر به ، وهو البأس الشديد ، لتقدم ذكره فقال : وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا وهم اليهود والنصارى وبعض كفار قريش . القائلون بأن الملائكة بنات الله ، فذكر سبحانه أولا قضية كلية ، وهي إنذار عموم الكفار ،

ثم عطف عليها قضية خاصة هي بعض جزئيات تلك الكلية ، تنبيها على كونها أعظم جزئيات تلك الكلية ، فأفاد ذلك أن نسبة الولد إلى الله سبحانه أقبح أنواع الكفر ( ما لهم به من علم ) أي : بالولد ، أو اتخاذ الله إياه ، و ( من ) مزيدة لتأكيد النفي ، والجملة في محل نصب على الحال ، أو هي مستأنفة ، والمعنى : ما لهم بذلك علم أصلا ( ولا لآبائهم ) علم ، بل كانوا في زعمهم هذا على ضلالة ، وقلدهم أبناؤهم فضلوا جميعا كبرت كلمة تخرج من أفواههم انتصاب ( كلمة ) على التمييز ، وقرئ بالرفع على الفاعلية .

قال الفراء : كبرت تلك الكلمة كلمة .

وقال الزجاج : كبرت مقالتهم كلمة ، والمراد بهذه الكلمة هي قولهم : ( اتخذ الله ولدا ) .

ثم وصف الكلمة بقوله : تخرج من أفواههم وفائدة هذا الوصف استعظام اجترائهم على التفوه بها ، والخارج من الفم وإن كان هو مجرد الهوى ، لكن لما كانت الحروف والأصوات كيفيات قائمة بالهوى أسند إلى الحال ما هو من شأن المحل ، ثم زاد في تقبيح ما وقع منهم فقال : إن يقولون إلا كذبا أي : ما يقولون إلا كذبا لا مجال للصدق فيه بحال .

ثم سلى رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - بقوله : فلعلك باخع نفسك على آثارهم قال الأخفش والفراء : البخع الجهد .

وقال الكسائي : بخعت الأرض بالزراعة : إذا جعلتها ضعيفة بسبب متابعة الحراثة ، وبخع الرجل نفسه : إذا نهكها .

وقال أبو عبيدة : معناه مهلك نفسك ، ومنه قول ذي الرمة : ألا أيها ذا الباخع الوجد نفسه فيكون المعنى على هذه الأقوال لعلك مجهد نفسك أو مضعفها أو مهلكها على آثارهم على فراقهم ومن بعد توليهم وإعراضهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أي : القرآن . وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله .

وقرئ بفتح [ ص: 850 ] ( أن ) أي : لأن لم يؤمنوا ( أسفا ) أي : غيظا وحزنا ، وهو مفعول له أو مصدر في موضع الحال . كذا قال الزجاج .

إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها هذه الجملة استئناف .

والمعنى : إنا جعلنا ما على الأرض مما يصلح أن يكون زينة لها من الحيوانات والنبات والجماد كقوله سبحانه : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا وانتصاب ( زينة ) على أنها مفعول ثان لجعل ، واللام في لنبلوهم أيهم أحسن عملا متعلقة بجعلنا ، وهي إما للغرض أو للعاقبة ، والمراد بالابتلاء أنه سبحانه يعاملهم معاملة لو كانت تلك المعاملة من غيره لكانت من قبيل الابتلاء والامتحان .

وقال الزجاج : أيهم رفع بالابتداء إلا أن لفظه لفظ الاستفهام ، والمعنى : لنمتحن أهذا أحسن عملا أم ذاك ؟ قال الحسن : أيهم أزهد ، وقال مقاتل : أيهم أصلح فيما أوتي من العلم .

ثم أعلم سبحانه أنه مبيد لذلك كله ومفنيه فقال : وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا أي : لجاعلون ما عليها من هذه الزينة عند تناهي عمر الدنيا صعيدا ترابا .

قال أبو عبيدة : الصعيد المستوي من الأرض .

وقال الزجاج : هو الطريق الذي لا نبات فيه .

قال الفراء : الجرز الأرض التي لا نبات فيها ، ومن قولهم : امرأة جراز : إذا كانت أكولا ، وسيف جراز : إذا كان مستأصلا ، وجرز الجراد والشاة والإبل الأرض : إذا أكلت ما عليها .

قال ذو الرمة : طوى النحز والإجراز ما في بطونها ومعنى النظم : لا تحزن يا محمد مما وقع من هؤلاء من التكذيب فإنا قد جعلنا ما على الأرض زينة لاختبار أعمالهم ، وإنا لمذهبون ذلك عند انقضاء عمر الدنيا فمجازوهم إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب الآية قال : أنزل الكتاب عدلا قيما ولم يجعل له عوجا ملتبسا .

وأخرج ابن المنذر ، عن الضحاك ( قيما ) قال : مستقيما .

وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة من لدنه أي : من عنده .

وأخرج ابن أبي حاتم ، عن السدي حسنا يعني الجنة وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا قال : هم اليهود والنصارى وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس قال : اجتمع عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل والنضر بن الحارث وأمية بن خلف والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب وأبو البحتري في نفر من قريش ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قد كبر عليه ما يرى من خلاف قومه إياه ، وإنكارهم ما جاء به من النصيحة ، فأحزنه حزنا شديدا ، فأنزل الله سبحانه : فلعلك باخع نفسك .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه باخع نفسك يقول : قاتل نفسك .

وأخرج عبد بن حميد ، عن مجاهد مثله .

وأخرج ابن أبي حاتم ، عن السدي مثله .

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أسفا قال : جزعا .

وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة أسفا قال : حزنا .

وأخرج ابن المنذر وابن مردويه من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها قال : الرجال .

وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير من قوله مثله .

وأخرج أبو نصر السجزي في الإبانة من طريق مجاهد ، عن ابن عباس في الآية قال : العلماء زينة الأرض .

وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن قال : هم الرجال العباد العمال لله بالطاعة .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في التاريخ وابن مردويه ، عن ابن عمر قال : تلا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - هذه الآية لنبلوهم أيهم أحسن عملا فقلت : ما معنى ذلك يا رسول الله ؟ قال : ليبلوكم أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرعكم في طاعة الله .

وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال : ليختبرهم أيهم أحسن عملا قال : أيهم أتم عقلا .

وأخرج ، عن الحسن أيهم أحسن عملا قال : أشدهم للدنيا تركا ، وأخرج أيضا ، عن الثوري قال : أزهدهم في الدنيا .

وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس في قوله : وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا قال : يهلك كل شيء ويبيد .

وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : الصعيد التراب والجبال التي ليس فيها زرع .

وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن قال : يعني بالجرز الخراب .

التالي السابق


الخدمات العلمية