فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقىوأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى .

قوله : أفلم يهد لهم الاستفهام للتقريع والتوبيخ ، والفاء للعطف على مقدر ، كما مر غير مرة ، والجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها وفاعل يهد هو الجملة المذكورة بعدها ، والمفعول محذوف ، وأنكر البصريون مثل هذا لأن الجمل لا تقع فاعلا ، وجوزه غيرهم .

قال القفال : جعل كثرة ما أهلك من القرون مبينا لهم . قال النحاس : وهذا خطأ لأن كم استفهام ، فلا يعمل فيها ما قبلها . وقال الزجاج : المعنى أو لم يهد لهم الأمر بإهلاكنا من أهلكناه ، وحقيقته تدل على الهدى ، فالفاعل هو الهدى ، وقال كم في موضع نصب بأهلكنا وقيل : إن فاعل يهد ضمير لله أو للرسول ، والجملة بعده تفسره ، ومعنى الآية على ما هو الظاهر : أفلم يتبين لأهل مكة خبر من أهلكنا قبلهم من القرون حال كون القرون يمشون في مساكنهم ويتقلبون في ديارهم ، أو حال كون هؤلاء يمشون في مساكن القرون الذين أهلكناهم عند خروجهم للتجارة وطلب المعيشة ، فيرون بلاد الأمم الماضية ، والقرون الخالية خاوية خاربة من أصحاب الحجر وثمود وقرى قوم لوط فإن ذلك مما يوجب اعتبارهم لئلا يحل بهم مثل ما حل بأولئك . وقرأ ابن عباس والسلمي ( نهد ) بالنون ، والمعنى على هذه القراءة واضح ، وجملة إن في ذلك لآيات لأولي النهى تعليل للإنكار وتقرير للهداية ، والإشارة بقوله ذلك إلى مضمون كم أهلكنا إلى آخره .

والنهى : جمع نهية ، وهي العقل : أي لذوي العقول التي تنهى أربابها عن القبيح .

ولولا كلمة سبقت من ربك أي ولولا الكلمة السابقة ، وهي وعد الله سبحانه بتأخير عذاب هذه الأمة إلى الدار الآخرة لكان عقاب ذنوبهم لزاما أي لازما لهم ، لا ينفك عنهم بحال ولا يتأخر . وقوله : وأجل مسمى معطوف على كلمة ، قاله الزجاج وغيره ، والأجل المسمى هو يوم القيامة ، أو يوم بدر ، واللزام مصدر لازم ، قيل ويجوز عطف وأجل مسمى على الضمير المستتر في [ ص: 927 ] كان العائد إلى الأخذ العاجل المفهوم من السياق تنزيلا للفصل بالخبر منزلة التأكيد : أي لكان الأخذ العاجل وأجل مسمى لازمين لهم كما كانا لازمين لعاد وثمود ، وفيه تعسف ظاهر .

ثم لما بين الله سبحانه أنه لا يهلكهم بعذاب الاستئصال أمره بالصبر فقال فاصبر على ما يقولون من أنك ساحر كذاب ، ونحو ذلك من مطاعنهم الباطلة ، والمعنى : لا تحتفل بهم ، فإن لعذابهم وقتا مضروبا لا يتقدم ولا يتأخر . وقيل : هذا منسوخ بآية القتال وسبح بحمد ربك أي متلبسا بحمده ، قال أكثر المفسرين : والمراد الصلوات الخمس كما يفيده قوله : قبل طلوع الشمس فإنه إشارة إلى صلاة الفجر وقبل غروبها فإنه إشارة إلى صلاة العصر ومن آناء الليل العتمة ، والمراد بالآناء الساعات ، وهي جمع إنى بالكسر والقصر ، وهو الساعة ، ومعنى فسبح أي فصل وأطراف النهار أي المغرب والظهر لأن الظهر في آخر طرف النهار الأول ، وأول طرف النهار الآخر . وقيل : إن الإشارة إلى صلاة الظهر هي بقوله : وقبل غروبها لأنها هي وصلاة العصر قبل غروب الشمس ، وقيل : المراد بالآية صلاة التطوع ، ولو قيل ليس في الآية إشارة إلى الصلاة بل المراد التسبيح في هذه الأوقات : أي قول القائل سبحان الله ، لم يكن ذلك بعيدا من الصواب ، والتسبيح في هذه الأوقات وإن كان يطلق على الصلاة ولكنه مجاز ، والحقيقة أولى إلا لقرينة تصرف ذلك إلى المعنى المجازي ، وجملة لعلك ترضى متعلقة بقوله فسبح : أي سبح في هذه الأوقات رجاء أن تنال عند الله سبحانه ما ترضى به نفسك ، هذا على قراءة الجمهور . وقرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم ( ترضى ) بضم التاء مبنيا للمفعول : أي يرتضيك ربك .

ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم قد تقدم تفسير هذه الآية في الحجر . والمعنى : لا تطل نظر عينيك ، وأزواجا مفعول متعنا ، وزهرة منصوبة على الحال ، أو بفعل محذوف : أي جعلنا أو أعطينا ، ذكر معنى هذا الزجاج . وقيل : هي بدل من الهاء في به باعتبار محله ، وهو النصب لا باعتبار لفظه ، فإنه مجرور كما تقول مررت به أخاك . ورجح الفراء النصب على الحال ، ويجوز أن تكون بدلا ، ويجوز أن تكون منتصبة على المصدر مثل صبغة الله و وعد الله و زهرة الحياة الدنيا زينتها وبهجتها بالنبات وغيره . وقرأ عيسى بن عمر ( زهرة ) بفتح الهاء ، وهي نور النبات ، واللام في لنفتنهم فيه متعلق بمتعنا : أي لنجعل ذلك فتنة لهم وضلالة ، ابتلاء منا لهم كقوله : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم [ الكهف : 7 ] وقيل : لنعذبهم ، وقيل : لنشدد عليهم في التكليف ورزق ربك خير وأبقى أي ثواب الله ، وما ادخر لصالحي عباده في الآخرة خير مما رزقهم في الدنيا على كل حال ، وأيضا فإن ذلك لا ينقطع ، وهذا ينقطع ، وهو معنى وأبقى .

وقيل : المراد بهذا الرزق ما يفتح الله على المؤمنين من الغنائم ونحوها . والأول أولى لأن الخيرية المحققة والدوام الذي لا ينقطع إنما يتحققان في الرزق الأخروي لا الدنيوي ، وإن كان حلالا طيبا ما عندكم ينفد وما عند الله باق [ النحل : 96 ] .

وأمر أهلك بالصلاة أمره الله سبحانه بأن يأمر أهله بالصلاة ، والمراد بهم أهل بيته ، وقيل : جميع أمته ولم يذكر هاهنا الأمر من الله له بالصلاة ، بل قصر الأمر على أهله ، إما لكون إقامته لها أمرا معلوما ، أو لكون أمره بها قد تقدم في قوله : وسبح بحمد ربك إلى آخر الآية ، أو لكون أمره بالأمر لأهله أمرا له ، ولهذا قال : واصطبر عليها أن اصبر على الصلاة ، ولا تشتغل عنها بشيء من أمور الدنيا لا نسألك رزقا أي لا نسألك أن ترزق نفسك ولا أهلك ، وتشتغل بذلك عن الصلاة نحن نرزقك ونرزقهم ولا نكلفك ذلك والعاقبة للتقوى أي العاقبة المحمودة ، وهي الجنة لأهل التقوى على حذف المضاف كما قال الأخفش ، وفيه دليل على أن التقوى هي ملاك الأمر وعليها تدور دوائر الخير .

وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أي قال كفار مكة : هلا يأتينا محمد بآية من آيات ربه كما كان يأتي بها من قبله من الأنبياء ؟ وذلك كالناقة والعصا ، أو هلا يأتينا محمد بآية من الآيات التي قد اقترحناها عليه ؟ فأجاب الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله : أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى يريد بالصحف الأولى التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب المنزلة ، وفيها التصريح بنبوته والتبشير به ، وذلك يكفي ، فإن هذه الكتب المنزلة هم معترفون بصدقها وصحتها ، وفيها ما يدفع إنكارهم لنبوته ، ويبطل تعنتاتهم وتعسفاتهم . وقيل : المعنى : أو لم يأتهم إهلاكنا للأمم الذين كفروا واقترحوا الآيات ، فما يؤمنهم إن أتتهم الآيات التي اقترحوها أن يكون حالهم كحالهم . وقيل : المراد أو لم تأتهم آية هي أم الآيات وأعظمها في باب الإعجاز يعني القرآن ، فإنه برهان لما في سائر الكتب المنزلة . وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو ويعقوب وابن أبي إسحاق وحفص أولم تأتهم بالتاء الفوقية وقرأ الباقون بالتحتية لأن معنى البينة البيان والبرهان ، فذكروا الفعل اعتبارا بمعنى البينة ، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم . قال الكسائي : ويجوز بينة بالتنوين . قال النحاس : إذا نونت بينة ورفعت جعلت ما بدلا منها ، وإذا نصبت فعلى الحال . والمعنى : أو لم يأتهم ما في الصحف الأولى مبينا ، وهذا على ما يقتضيه الجواز النحوي وإن لم تقع القراءة به .

ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله أي من قبل بعثة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - أو من قبل إتيان البينة لنزول القرآن لقالوا يوم القيامة ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا أي هلا أرسلت إلينا رسولا في الدنيا فنتبع آياتك التي يأتي بها الرسول من قبل أن نذل بالعذاب في الدنيا ونخزى بدخول النار ، وقرئ ( نذل ) ، ( ونخزى ) على البناء للمفعول ، وقد قطع الله معذرة هؤلاء الكفرة بإرسال الرسول إليهم قبل إهلاكهم ولهذا حكى الله عنهم أنهم قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء [ الملك : 9 ] . قل كل متربص فتربصوا [ ص: 928 ] أي قل لهم يا محمد كل واحد منا ومنكم متربص : أي منتظر لما يؤول إليه الأمر فتربصوا أنتم فستعلمون عن قريب من أصحاب الصراط السوي . أي فستعلمون بالنصر والعاقبة من هو من أصحاب الصراط المستقيم ومن اهتدى من الضلالة ونزع عن الغواية ، ومن في الموضعين في محل رفع بالابتداء . قال النحاس : والفراء يذهب إلى أن معنى من أصحاب الصراط السوي من لم يضل ، وإلى أن معنى من اهتدى من ضل ثم اهتدى ، وقيل : من في الموضعين في محل نصب ، وكذا قال الفراء . وحكي عن الزجاج أنه قال : هذا خطأ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله . وقرأ أبو رافع ( فسوف تعلمون ) وقرأ يحيى بن يعمر وعاصم الجحدري ( السوى ) على فعلى ، وردت هذه القراءة بأن تأنيث الصراط شاذ ، وقيل : هي بمعنى الوسط والعدل اهـ . وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : أفلم يهد لهم ألم نبين لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم نحو عاد وثمود ومن أهلك من الأمم وفي قوله : ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى يقول هذا من مقاديم الكلام ، يقول لولا كلمة وأجل مسمى لكان لزاما . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي نحوه . وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال : الأجل المسمى الكلمة التي سبقت من ربك . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس لكان لزاما قال موتا . وأخرج الفريابي وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : وسبح بحمد ربك الآية قال : هي الصلاة المكتوبة . وأخرج الطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن جرير عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في قوله : وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس قال : قبل طلوع الشمس صلاة الصبح ، وقبل غروبها صلاة العصر . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث جرير قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ، وقرأ وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها .

وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي عن عمارة بن رؤبة سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول : لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها . وأخرج ابن أبي شيبة وابن راهويه والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والخرائطي وأبو نعيم عن أبي رافع قال : أضاف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ضيفا ، ولم يكن عند النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ما يصلحه ، فأرسلني إلى رجل من اليهود أن بعنا أو سلفنا دقيقا إلى هلال رجب ، فقال : لا إلا برهن ، فأتيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فأخبرته ، فقال : أما والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض ، ولئن أسلفني أو باعني لأديت إليه ، اذهب بدرعي الجديد ، فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه الآية ولا تمدن عينيك ، وكأنه يعزيه عن الدنيا ، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا ، قالوا : وما زهرة الدنيا يا رسول الله ؟ قال بركات الأرض . وأخرج ابن مردويه وابن عساكر وابن النجار عن أبي سعيد الخدري قال : لما نزلت وأمر أهلك بالصلاة كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يجيء إلى باب علي صلاة الغداة ثمانية أشهر يقول : الصلاة رحمكم الله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا [ الأحزاب : 33 ] . وأخرج ابن مردويه عن أبي الحمراء نحوه . وأخرج أحمد في الزهد وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ثابت ، قال كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا أصابت أهله خصاصة نادى أهله : يا أهلاه صلوا صلوا قال ثابت : وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة . وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن المنذر والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب بإسناد قال السيوطي صحيح عن عبد الله بن سلام قال : كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق أمرهم بالصلاة ، وقرأ وأمر أهلك بالصلاة الآية .

التالي السابق


الخدمات العلمية