فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين .

قرأ ابن أبي إسحاق ( والبدن ) بضم الباء والدال ، وقرأ الباقون بإسكان الدال وهما لغتان ، وهذا الاسم خاص بالإبل ، وسميت بدنة ؛ لأنها تبدن والبدانة : السمن .

وقال أبو حنيفة ومالك : إنه يطلق على غير الإبل ، والأول أولى لما سيأتي من الأوصاف التي هي ظاهرة في الإبل ، ولما تفيده كتب اللغة من اختصاص هذا الاسم بالإبل .

وقال ابن كثير في تفسيره : واختلفوا في صحة إطلاق البدنة على البقرة على قولين : أصحهما أنه يطلق عليهما ذلك شرعا كما صح في الحديث . جعلناها لكم وهي ما تقدم بيانه قريبا لكم فيها خير أي منافع دينية ودنيوية كما تقدم فاذكروا اسم الله عليها أي على نحوها ، ومعنى ( صواف ) أنها قائمة قد صفت قوائمها ؛ لأنها تنحر قائمة معقولة ، وأصل هذا الوصف في الخيل يقال : صفن الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاث قوائم وثنى الرابعة .

وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وزيد بن أسلم وأبو موسى الأشعري ( صوافي ) أي خوالص لله لا تشركون به في التسمية على نحرها أحدا ، وواحد صواف صافة ، وهي قراءة الجمهور .

وواحد ( صوافي ) صافية ، وقرأ ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأبو جعفر ومحمد بن علي ( صوافن ) بالنون جمع صافنة ، والصافنة هي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب ، ومنه قوله تعالى : الصافنات الجياد [ ص : 31 ] ومنه قول عمرو بن كلثوم :

تركنا الخيل عاكفة عليه مقلدة أعنتها صفونا

وقال الآخر :

ألف الصفون فما يزال كأنه     مما يقوم على الثلاث كسير

فإذا وجبت جنوبها الوجوب السقوط أي : سقطت بعد نحرها ، وذلك عند خروج روحها فكلوا منها ذهب الجمهور أن هذا الأمر للندب وأطعموا القانع والمعتر هذا الأمر قيل هو للندب كالأول ، وبه قال مجاهد والنخعي وابن جرير وابن سريج . وقال الشافعي وجماعة : هو الوجوب .

واختلف في القانع من هو ؟ فقيل هو السائل ، يقال قنع الرجل بفتح النون يقنع بكسرها إذا سأل ، ومنه قول الشماخ :

لمال المرء يصلحه فيغني     مفاقره أعف من القنوع

أي السؤال ، وقيل : هو المتعفف عن السؤال المستغني ببلغة ، ذكر معناها الخليل .

قال ابن السكيت : من العرب من ذكر القنوع بمعنى القناعة ، وهي الرضا والتعفف وترك المسألة .

وبالأول قال زيد بن أسلم وابنه وسعيد بن جبير والحسن ، وروي عن ابن عباس . وبالثاني قال عكرمة وقتادة .

وأما المعتر ، فقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد وإبراهيم والكلبي والحسن أنه الذي يتعرض من غير سؤال . وقيل : هو الذي يعتريك ويسألك .

وقال مالك : أحسن ما سمعت أن القانع : الفقير ، والمعتر : الزائر .

وروي عن ابن عباس : أن كلاهما الذي لا يسأل ، ولكن القانع الذي يرضى بما عنده ولا يسأل ، والمعتر الذي يتعرض لك ولا يسألك .

وقرأ الحسن والمعتري ومعناه كمعنى المعتر ، ومنه قول زهير :

على مكثريهم رزق من يعتريهم     وعند المقلين السماحة والبذل

يقال اعتره واعتراه وعره وعراه : إذا تعرض لما عنده أو طلبه ، ذكره النحاس كذلك سخرناها لكم أي مثل ذلك التسخير البديع سخرناها لكم ، فصارت تنقاد لكم إلى مواضع نحرها فتنحرونها وتنتفعون بها بعد أن كانت مسخرة للحمل عليها والركوب على ظهرها والحلب لها ونحو ذلك لعلكم تشكرون هذه النعمة التي أنعم الله بها عليكم .

لن ينال الله لحومها ولا دماؤها أي لن يصعد إليه ولا يبلغ رضاه ولا يقع موقع القبول منه لحوم هذه الإبل التي تتصدقون بها ولا دماؤها التي تنصب عند نحرها من حيث إنها لحوم ودماء ولكن يناله أي يبلغ إليه تقوى قلوبكم ، ويصل إليه إخلاصكم له وإرادتكم بذلك وجهه ، فإن ذلك هو الذي يقبله الله ويجازي عليه .

وقيل : المراد أصحاب اللحوم والدماء أي : لن يرضى المضحون والمتقربون إلى ربهم باللحوم والدماء ولكن بالتقوى .

قال الزجاج : أعلم الله أن الذي يصل إليه تقواه وطاعته فيما يأمر به ، وحقيقة معنى هذا الكلام تعود إلى القبول ، وذلك أن ما يقبله الإنسان يقال قد ناله ووصل إليه ، فخاطب الله الخلق كعادتهم في مخاطبتهم كذلك سخرها لكم كرر هذا للتذكير ، ومعنى لتكبروا الله على ما هداكم هو قول الناحر : الله أكبر عند النحر ، فذكر في الآية الأولى الأمر بذكر اسم الله عليها ، وذكر هنا التكبير للدلالة على مشروعية الجمع بين التسمية والتكبير .

وقيل : المراد بالتكبير وصفه سبحانه بما يدل على الكبرياء ، ومعنى على ما هداكم على ما أرشدكم إليه من علمكم بكيفية التقرب بها ، وما مصدرية ، أو موصولة وبشر المحسنين قيل المراد بهم المخلصون ، وقيل : الموحدون .

والظاهر أن المراد بهم كل من يصدر منه من الخير ما يصح به إطلاق اسم المحسن عليه .

وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عبد الله بن عمر قال : لا نعلم البدن إلا من الإبل والبقر .

وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : البدن ذات الجوف .

وأخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : ليس البدن إلا من الإبل ، وأخرجوا عن الحكم نحوه ، وأخرجوا عن عطاء نحو ما قال ابن عمر .

وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب نحوه .

وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن نحوه [ ص: 966 ] أيضا .

وأخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد عن يعقوب الرباحي عن أبيه قال : أوصى ببدنة ، فأتيت ابن عباس فقلت له : إن رجلا أوصى إلي وأوصى ببدنة ، فهل تجزئ عني بقرة ؟ قال نعم ، ثم قال : ممن صاحبكم ؟ فقلت من بني رباح ، فقال : ومتى اقتنى بنو رباح البقر إلى الإبل ؟ وهم صاحبكم ، إنما البقر للأسد وعبد القيس .

وأخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في الأضاحي وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن أبي ظبيان قال : سألت ابن عباس عن قوله : فاذكروا اسم الله عليها صواف قال : إذا أردت أن تنحر البدنة فأقمها على ثلاث قوائم معقولة ، ثم قل بسم الله والله أكبر .

وأخرج الفريابي وأبو عبيد وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة و عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله : صواف قال : قياما معقولة ، وفي الصحيحين وغيرهما عنه أنه رأى رجلا قد أناخ بدنته وهو ينحرها ، فقال : ابعثها قياما مقيدة سنة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - .

وأخرج أبو عبيدة و عبد بن حميد وابن المنذر عن ميمون بن مهران قال : في قراءة ابن مسعود ( صوافن ) يعني قياما .

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس فإذا وجبت قال : سقطت على جنبها .

وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال نحرت .

وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال : القانع المتعفف والمعتر السائل .

وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال القانع الذي يقنع بما آتيته .

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : القانع الذي يقنع بما أوتي ، والمعتر الذي يعترض .

وأخرج عنه أيضا قال : القانع الذي يجلس في بيته .

وأخرج عبد بن حميد والبيهقي في سننه عنه أنه سئل عن هذه الآية ، فقال : أما القانع فالقانع بما أرسلت إليه في بيته ، والمعتر الذي يعتريك .

وأخرج ابن المنذر عنه أيضا قال : القانع الذي يسأل ، والمعتر الذي يتعرض ، ولا يسأل .

وقد روي عن التابعين في تفسير هذه الآية أقوال مختلفة ، والمرجع المعنى اللغوي لا سيما مع الاختلاف بين الصحابة ومن بعدهم في تفسير ذلك .

وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان المشركون إذا ذبحوا استقبلوا الكعبة بالدماء فينضحون بها نحو الكعبة ، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك ، فأنزل الله لن ينال الله لحومها ولا دماؤها وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج نحوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية