فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير

اختلف في لقمان هل هو عجمي أم عربي ؟ مشتق من اللقم ، فمن قال إنه عجمي منعه للتعريف والعجمة ، ومن قال إنه عربي منعه للتعريف ولزيادة الألف والنون .

واختلفوا أيضا هو نبي أم رجل صالح ؟ فذهب أكثر أهل العلم إلى أنه ليس بنبي .

وحكى الواحدي عن عكرمة والسدي والشعبي أنه كان نبيا ، والأول أرجح لما سيأتي في آخر البحث .

وقيل : لم يقل بنبوته إلا عكرمة فقط ، مع أن الراوي لذلك عنه جابر الجعفي وهو ضعيف جدا وهو لقمان بن باعورا بن ناحور بن تارخ ، وهو آزر أبو إبراهيم ، وقيل : هو لقمان بن عنقا بن مروان ، وكان نوبيا من أهل أيلة ذكره السهيلي .

قال وهب : هو ابن أخت أيوب .

وقال مقاتل : هو ابن خالته ، عاش ألف سنة وأخذ عنه العلم ، وكان يفتي قبل مبعث داود ، فلما بعث داود قطع الفتوى ، فقيل له ؟ فقال ألا أكتفي إذ كفيت .

قال الواقدي : كان قاضيا في بني إسرائيل ، والحكمة التي آتاه الله هي الفقه والعقل والإصابة في القول وفسر الحكمة من قال بنبوته بالنبوة أن اشكر لي أن هي المفسرة ، لأن في إيتاء الحكمة معنى القول .

وقيل : التقدير قلنا له أن اشكر لي .

وقال الزجاج : المعنى : ولقد آتينا لقمان الحكمة ؛ لأن اشكر لي .

وقيل : بأن اشكر لي فشكر فكان حكيما بشكره والشكر لله الثناء عليه في مقابلة النعمة وطاعته فيما أمر به .

ثم بين - سبحانه - أن الشكر لا ينتفع به إلا الشاكر ، فقال : ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه لأن نفع ذلك راجع إليه ، وفائدته حاصلة له ، إذ به تستبقى النعمة وبسببه يستجلب المزيد لها من الله - سبحانه - [ ص: 1142 ] ومن كفر فإن الله غني حميد أي : من جعل كفر النعم مكان شكرها ، فإن الله غني عن شكره غير محتاج إليه حميد مستحق للحمد من خلقه لإنعامه عليهم بنعمه التي لا يحاط بقدرها ولا يحصر عددها وإن لم يحمده أحد من خلقه ، فإن كل موجود ناطق بحمده بلسان الحال .

قال يحيى بن سلام : غني عن خلقه حميد في فعله .

وإذ قال لقمان لابنه قال السهيلي : اسم ابنه ثاران في قول ابن جرير والقتيبي . وقال الكلبي : مشكم . وقال النقاش : أنعم . وقيل : ماتان . قال القشيري : كان ابنه وامرأته كافرين فما زال يعظهما حتى أسلما ، وهذه الجملة معطوفة على ما تقدم ، والتقدير : آتينا لقمان الحكمة حين جعلناه شاكرا في نفسه ، وحين جعلناه واعظا لغيره .

قال الزجاج : إذ في موضع نصب بآتينا .

والمعنى : ولقد آتينا لقمان الحكمة إذ قال .

قال النحاس : وأحسبه غلطا لأن في الكلام واوا وهي تمنع من ذلك ، ومعنى وهو يعظه يخاطبه بالمواعظ التي ترغبه في التوحيد وتصده عن الشرك يابني لا تشرك بالله قرأ الجمهور بكسر الياء . وقرأ ابن كثير بإسكانها . وقرأ حفص بفتحها ، ونهيه عن الشرك يدل على أنه كان كافرا كما تقدم ، وجملة إن الشرك لظلم عظيم تعليل لما قبلها ، وبدأ في وعظه بنهيه عن الشرك ؛ لأنه أهم من غيره .

وقد اختلف في هذه الجملة ، فقيل : هي من كلام لقمان ، وقيل : هي من كلام الله ، فتكون منقطعة عما قبلها ، ويؤيد هذا ما ثبت في الحديث الصحيح أنها لما نزلت ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [ الأنعام : 82 ] شق ذلك على الصحابة ، وقالوا : أينا لم يظلم نفسه . فأنزل الله إن الشرك لظلم عظيم فطابت أنفسهم .

ووصينا الإنسان بوالديه هذه الوصية بالوالدين وما بعدها إلى قوله : بما كنتم تعملون اعتراض بين كلام لقمان لقصد التأكيد لما قبلها من النهي عن الشرك بالله ، وتفسير التوصية هي قوله : أن اشكر لي ولوالديك وما بينهما اعتراض بين المفسر والمفسر وفي جعل الشكر لهما مقترنا بالشكر لله دلالة على أن حقهما من أعظم الحقوق على الولد وأكبرها وأشدها وجوبا ومعنى حملته أمه وهنا على وهن أنها حملته في بطنها وهي تزداد كل يوم ضعفا على ضعف ، وقيل : المعنى : إن المرأة ضعيفة الخلقة ، ثم يضعفها الحمل ، وانتصاب وهنا على المصدر .

وقال النحاس على أنه مفعول ثان بإسقاط الحرف أي : حملته بضعف على ضعف وقال الزجاج المعنى لزمها بحملها إياه أن تضعف مرة بعد مرة ، وقيل : انتصابه على الحال من أمه و على وهن صفة لوهنا أي : وهنا كائنا على وهن قرأ الجمهور بسكون الهاء في الموضعين .

وقرأ عيسى الثقفي وهي رواية عن أبي عمرو بفتحهما وهما لغتان . قال قعنب :


هل للعواذل من ناه فيزجرها إن العواذل فيها الأين والوهن



وفصاله في عامين الفصال الفطام ، وهو أن يفصل الولد عن الأم ، وهو مبتدأ وخبره الظرف .

وقرأ الجحدري ، وقتادة وأبو رجاء ، والحسن ويعقوب " وفصله " وهما لغتان ، يقال : انفصل عن كذا أي : تميز ، وبه سمي الفصيل .

وقد قدمنا أن " أن " في قوله : أن اشكر لي ولوالديك هي المفسرة .

وقال الزجاج : هي مصدرية . والمعنى : بأن اشكر لي .

قال النحاس : وأجود منه أن تكون أن مفسرة ، وجملة إلي المصير تعليل لوجوب امتثال الأمر أي : الرجوع إلي لا إلى غيري .

وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم أي : ما لا علم لك بشركته فلا تطعهما في ذلك .

وقد قدمنا تفسير الآية وسبب نزولها في سورة العنكبوت ، وانتصاب معروفا على أنه صفة لمصدر محذوف أي : وصاحبهما صحابا معروفا ، وقيل : هو منصوب بنزع الخافض ، والتقدير بمعروف واتبع سبيل من أناب إلي أي : اتبع سبيل من رجع إلي من عبادي الصالحين بالتوبة والإخلاص ثم إلي مرجعكم جميعا لا إلى غيري فأنبئكم أي : أخبركم عند رجوعكم بما كنتم تعملون من خير وشر فأجازي كل عامل بعمله .

وقد قيل : إن هذا السياق من قوله ووصينا الإنسان إلى هنا من كلام لقمان فلا يكون اعتراضا وفيه بعد .

ثم شرع - سبحانه - في حكاية بقية كلام لقمان في وعظه لابنه فقال : يابني إنها إن تك مثقال حبة من خردل الضمير في إنها عائد إلى الخطيئة لما روي أن ابن لقمان قال لأبيه : يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد هل يعلمها الله ؟ فقال إنها أي : الخطيئة ، والجملة الشرطية مفسرة للضمير أي : إن الخطيئة إن تك مثقال حبة من خردل .

قال الزجاج : التقدير إن التي سألتني عنها إن تك مثقال حبة من خردل ، وعبر بالخردلة أنها أصغر الحبوب ولا يدرك بالحس ثقلها ولا ترجح ميزانا .

وقيل : إن الضمير في " إنها " راجع إلى الخصلة من الإساءة والإحسان أي : إن الخصلة من الإساءة والإحسان إن تك مثقال حبة إلخ ، ثم زاد في بيان خفاء الحبة مع خفتها فقال : فتكن في صخرة فإن كونها في الصخرة قد صارت في أخفى مكان وأحرزه أو في السماوات أو في الأرض أي : أو حيث كانت من بقاع السماوات أو من بقاع الأرض يأت بها الله أي : يحضرها ويحاسب فاعلها عليها إن الله لطيف لا تخفى عليه خافية ، بل يصل علمه إلى كل خفي خبير بكل شيء لا يغيب عنه شيء .

قرأ الجمهور " إن تك " بالفوقية على معنى إن تك الخطيئة أو المسألة أو الخصلة أو القصة .

وقرءوا " مثقال " بالنصب على أنه خبر كان ، واسمها هو أحد تلك المقدرات .

وقرأ نافع برفع " مثقال " على أنه اسم كان وهي تامة . وأنث الفعل في هذه القراءة لإضافة مثقال إلى المؤنث .

وقرأ الجمهور " فتكن " بضم الكاف . وقرأ الجحدري بكسرها وتشديد النون : من الكن الذي هو الشيء المغطى .

قال السدي : هذه الصخرة هي صخرة ليست في السماوات ولا في الأرض .

ثم حكى - سبحانه - عن لقمان أنه أمر ابنه بإقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن [ ص: 1143 ] المنكر والصبر على المصيبة .

ووجه تخصيص هذه الطاعات أنها أمهات العبادات وعماد الخير كله .

والإشارة بقوله : إن ذلك إلى الطاعات المذكورة . وخبر إن : قوله : من عزم الأمور أي مما جعله الله عزيمة ، وأوجبه على عباده . وقيل المعنى من حق الأمور التي أمر الله بها ، والعزم يجوز أن يكون بمعنى المعزوم : أي : من معزومات الأمور أو بمعنى العازم كقوله فإذا عزم الأمر [ محمد : 21 ] قال المبرد : إن العين تبدل حاء ، فيقال : عزم وحزم .

قال ابن جرير : ويحتمل أن يريد أن ذلك من مكارم أهل الأخلاق وعزائم أهل الحزم السالكين طريق النجاة ، وصوب هذا القرطبي .

" ولا تصاعر خدك للناس " قرأ الجمهور " تصعر " وقرأ ابن كثير ، وابن عامر وعاصم " تصاعر " والمعنى متقارب ، والصعر الميل ، يقال : صعر خده وصاعر خده : إذا أمال وجهه وأعرض تكبرا . والمعنى : لا تعرض عن الناس تكبرا عليهم . ومنه قول الشاعر :


وكنا إذا الجبار صعر خده     مشينا إليه بالسيوف نعاتبه



ورواه ابن جرير هكذا :


وكنا إذا الجبار صعر خده     أقمنا له من ميله فتقوما



قال الهروي " ولا تصعر خدك للناس " أي : لا تعرض عنهم تكبرا ، يقال : أصاب البعير صعر : إذا أصابه داء يلوي عنقه ، وقيل : المعنى : ولا تلو شدقك إذا ذكر الرجل عندك كأنك تحتقره .

وقال ابن خويز منداد : كأنه نهى أن يذل الإنسان نفسه من غير حاجة ، ولعله فهم من التصعير التذلل ولا تمش في الأرض مرحا أي : خيلاء وفرحا ، والمعنى النهي عن التكبر والتجبر ، والمختال يمرح في مشيه ، وهو مصدر في موضع الحال ، وقد تقدم تحقيقه ، وجملة إن الله لا يحب كل مختال فخور تعليل للنهي ؛ لأن الاختيال هو المرح ، والفخور هو الذي يفتخر على الناس بما له من المال أو الشرف أو القوة أو غير ذلك ، وليس منه التحدث بنعم الله ، فإن الله يقول : وأما بنعمة ربك فحدث [ الضحى : 11 ] .

واقصد في مشيك أي : توسط فيه ، والقصد ما بين الإسراع والبطء ، يقال : قصد فلان في مشيته : إذا مشى مستويا لا يدب دبيب المتماوتين ولا يثب وثوب الشياطين .

وقد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان إذا مشى أسرع ، فلا بد أن يحمل القصد هنا على ما جاوز الحد في السرعة . وقال مقاتل : معناه لا تختل في مشيتك . وقال عطاء : امش بالوقار والسكينة . كقوله : يمشون على الأرض هونا [ الفرقان : 63 ] .

واغضض من صوتك أي : انقص منه واخفضه ولا تتكلف رفعه ، فإن الجهر بأكثر من الحاجة يؤذي السامع ، وجملة إن أنكر الأصوات لصوت الحمير تعليل للأمر بالغض من الصوت أي : أوحشها وأقبحها . قال قتادة : أقبح الأصوات صوت الحمير أوله زفير وآخره شهيق . قال المبرد : تأويله إن الجهر بالصوت ليس بمحمود وإنه داخل في باب الصوت المنكر ، واللام في لصوت للتأكيد ، ووحد الصوت مع كونه مضافا إلى الجمع ؛ لأنه مصدر ، وهو يدل على الكثرة ، وهو مصدر صات يصوت صوتا فهو صائت .

وقد أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : أتدرون ما كان لقمان ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : كان حبشيا .

وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد ، وابن أبي الدنيا في كتاب المملوكين ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : كان لقمان عبدا حبشيا نجارا .

وأخرج الطبراني وابن حبان في الضعفاء وابن عساكر عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : اتخذوا السودان فإن ثلاثة منهم سادات أهل الجنة : لقمان الحكيم ، والنجاشي ، وبلال المؤذن .

قال الطبراني : أراد الحبشة .

وأخرج ابن مردويه عنه أيضا في قوله : ولقد آتينا لقمان الحكمة يعني العقل والفهم والفطنة في غير نبوة .

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن عكرمة أنه كان نبيا ، وقد قدمنا أن الراوي عنه جابر الجعفي ، وهو ضعيف جدا .

وأخرج أحمد والحكيم الترمذي والحاكم في الكنى ، والبيهقي في الشعب عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : إن لقمان الحكيم كان يقول : إن الله إذا استودع شيئا حفظه .

وقد ذكر جماعة من أهل الحديث روايات عن جماعة من الصحابة والتابعين تتضمن كلمات من مواعظ لقمان وحكمه ، ولم يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من ذلك شيء ولا ثبت إسناد صحيح إلى لقمان بشيء منها حتى نقبله .

وقد حكى الله - سبحانه - من مواعظه لابنه ما حكاه في هذا الموضع ، وفيه كفاية ، وما عدا ذلك مما لم يصح فليس في ذكره إلا شغلة للحيز وقطيعة للوقت ، ولم يكن نبيا حتى يكون ما نقل عنه من شرع من قبلنا ، ولا صح إسناد ما روي عنه من الكلمات حتى يكون ذكر ذلك من تدوين كلمات الحكمة التي هي ضالة المؤمن .

وأخرج أبو يعلى والطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن أبي عثمان النهدي أن سعد بن أبي وقاص قال : أنزلت في هذه الآية وإن جاهداك على أن تشرك بي ، وقد تقدم ذكر هذا .

وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة قال : نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص .

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : وهنا على وهن قال : شدة بعد شدة وخلقا بعد خلق .

وأخرج الطبراني وابن عدي وابن مردويه عن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - سئل عن قوله : ولا تصعر خدك للناس قال : لي الشدق وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : ولا تصعر خدك للناس لا تتكبر فتحتقر عباد الله وتعرض عنهم إذا كلموك .

وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عنه في الآية قال : هو الذي إذا سلم عليه لوى عنقه كالمستكبر .

التالي السابق


الخدمات العلمية