فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما ( 53 ) إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما ( 54 ) لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيدا ( 55 )

قوله : ياأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي هذا نهي عام لكل مؤمن أن يدخل بيوت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلا بإذن منه .

سبب النزول ما وقع من بعض الصحابة في وليمة زينب ، وسيأتي بيان ذلك آخر البحث إن شاء الله .

وقوله : إلا أن يؤذن لكم استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي : لا تدخلوها في حال من الأحوال إلا في حال كونكم مأذونا لكم ، وهو في موضع نصب على الحال أي : إلا مصحوبين بالإذن أو بنزع الخافض أي : إلا بأن يؤذن لكم ، أو منصوب على الظرفية أي : إلا وقت أن يؤذن لكم ، وقوله : إلى طعام متعلق بـ يؤذن على تضمينه معنى الدعاء أي : إلا أن يؤذن لكم مدعوين إلى طعام ، وانتصاب غير ناظرين إناه على الحال ، والعامل فيه يؤذن أو مقدر أي : ادخلوا غير ناظرين ، ومعنى ناظرين : منتظرين ، و إناه : نضجه وإدراكه ، يقال : أنى يأني أنى : إذا حان وأدرك .

قرأ الجمهور غير ناظرين بالنصب . وقرأ ابن أبي عبلة " غير " بالجر صفة ل طعام ، وضعف النحاة هذه القراءة لعدم بروز الضمير لكونه جاريا على غير من هو له ، فكان حقه أن يقال : غير ناظرين إناه أنتم ، ثم بين لهم - سبحانه - ما ينبغي في ذلك فقال : ولكن إذا دعيتم فادخلوا وفيه تأكيد للمنع ، وبيان الوقت الذي يكون فيه الدخول ، وهو عند الإذن .

قال ابن الأعرابي : وتقدير الكلام : ولكن إذا دعيتم وأذن لكم فادخلوا ، وإلا فنفس الدعوة لا تكون إذنا كافيا في الدخول ، وقيل : إن فيه دلالة بينة على أن المراد بالإذن إلى الطعام هو الدعوة إليه فإذا طعمتم فانتشروا أمرهم - سبحانه - بالانتشار بعد الطعام ، وهو التفرق ، والمراد الإلزام بالخروج من المنزل الذي وقعت الدعوة إليه عند انقضاء المقصود من الأكل ولا مستأنسين لحديث عطف على قوله غير ناظرين ، أو على مقدر أي : ولا تدخلوا ولا تمكثوا مستأنسين .

والمعنى : النهي لهم عن أن يجلسوا بعد الطعام يتحدثون مستأنسين بالحديث .

قال الرازي في قوله : إلا أن يؤذن لكم إلى طعام إما أن يكون فيه تقديم وتأخير تقديره : ولا تدخلوا إلى طعام إلا أن يؤذن لكم فلا يكون منعا من الدخول في غير وقت الطعام بغير إذن . إما أن لا يكون فيه تقديم وتأخير فيكون معناه : ولا تدخلوا إلا أن يؤذن لكم إلى طعام ، فيكون الإذن مشروطا بكونه إلى طعام ، فإن لم يؤذن إلى طعام فلا يجوز الدخول ، فلو أذن لواحد في الدخول لاستماع كلام لا لأكل طعام فلا يجوز ، فنقول المراد هو الثاني ; ليعم النهي عن الدخول .

وأما كونه لا يجوز إلا بإذن إلى طعام فلما هو مذكور في سبب النزول أن الخطاب مع قوم كانوا يتحينون حين الطعام ويدخلون من غير إذن ، فمنعوا من الدخول في وقتهم بغير إذن .

وقال ابن عادل : الأولى أن يقال : المراد هو الثاني ، لأن التقديم والتأخير خلاف الأصل ، وقوله : إلى طعام من باب التخصيص بالذكر ، فلا يدل على نفي ما عداه ، لا سيما إذا علم مثله ، فإن من جاز دخوله بإذنه إلى طعامه جاز دخوله بإذنه إلى غير الطعام ، انتهى .

والأولى في التعبير عن هذا المعنى الذي أراده أن يقال : قد دلت الأدلة على جواز دخول بيوته - صلى الله عليه وآله وسلم - بإذنه لغير الطعام ، وذلك معلوم لا شك فيه ، فقد كان الصحابة وغيرهم يستأذنون عليه لغير الطعام فيأذن لهم ، وذلك يوجب قصر هذه الآية على السبب الذي نزلت فيه ، وهو القوم الذين كانوا يتحينون طعام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه وأمثالهم ، فلا تدل على المنع من الدخول مع الإذن لغير ذلك ، وإلا لما جاز لأحد أن يدخل بيوته بإذنه لغير الطعام ، واللازم باطل فالملزوم مثله .

قال ابن عطية : وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى الدعوة ينتظرون طبخ الطعام ونضجه ، وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا كذلك ، فنهى الله المؤمنين عن ذلك في بيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ودخل في النهي سائر المؤمنين ، والتزم الناس أدب الله لهم في ذلك ، فمنعهم من الدخول إلا بإذن عند الأكل لا قبله لانتظار نضج الطعام ، والإشارة بقوله : إن ذلكم إلى الانتظار والاستئناس للحديث ، وأشير إليهما بما يشار به إلى الواحد بتأويلهما بالمذكور كما في قوله : عوان بين ذلك [ البقرة : 68 ] أي : إن ذلك المذكور من الأمرين كان يؤذي النبي لأنهم كانوا يضيقون المنزل عليه وعلى أهله ويتحدثون بما لا يريده .

قال الزجاج : كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يحتمل إطالتهم كرما منه فيصبر على الأذى في ذلك ، فعلم الله من يحضره الأدب ، صار أدبا لهم ولمن بعدهم فيستحيي منكم أي : يستحيي أن يقول لكم قوموا أو اخرجوا والله لا يستحيي من الحق [ ص: 1180 ] أي : لا يترك أن يبين لكم ما هو الحق ولا يمتنع من بيانه وإظهاره والتعبير عنه بعدم الاستحياء للمشاكلة .

وقرأ الجمهور " يستحيي " بياءين ، وروي عن ابن كثير أنه قرأ بياء واحدة ، وهي لغة تميم يقولون استحى يستحي مثل استقى يستقي ، ثم ذكر - سبحانه - أدبا آخر متعلقا بنساء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال : وإذا سألتموهن متاعا أي : شيئا يتمتع به ، من الماعون وغيره فاسألوهن من وراء حجاب أي : من وراء ستر بينكم وبينهن .

والمتاع يطلق على كل ما يتمتع به ، فلا وجه لما قيل : من أن المراد به العارية أو الفتوى أو المصحف ، والإشارة بقوله : ذلكم إلى سؤال المتاع من وراء حجاب ، وقيل : الإشارة إلى جميع ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن ، وعدم الاستئناس للحديث عند الدخول وسؤال المتاع ، والأول أولى ، واسم الإشارة مبتدأ وخبره أطهر لقلوبكم وقلوبهن أي : أكثر تطهيرا لها من الريبة ، وخواطر السوء التي تعرض للرجال في أمر النساء ، وللنساء في أمر الرجال .

وفي هذا أدب لكل مؤمن وتحذير له من أن يثق بنفسه من الخلوة مع من لا تحل له والمكالمة من دون حجاب لمن تحرم عليه وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله أي : ما صح لكم ولا استقام أن تؤذوه بشيء من الأشياء كائنا ما كان ، ومن جملة ذلك دخول بيوته بغير إذن منه ، واللبث فيها على غير الوجه الذي يريده ، وتكليم نسائه من دون حجاب ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا أي : ولا كان لكم ذلك بعد وفاته ؛ لأنهن أمهات المؤمنين ، ولا يحل للأولاد نكاح الأمهات ، والإشارة بقوله : إن ذلكم إلى نكاح أزواجه من بعده كان عند الله عظيما أي : ذنبا عظيما وخطبا هائلا شديدا .

وكان سبب نزول الآية أنه قال قائل : لو قد مات محمد لتزوجنا نساءه ، وسيأتي بيان ذلك .

إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما يعلم كل شيء من الأشياء ، ومن جملة ذلك ما تظهرونه في شأن أزواج رسوله ، وما تكتمونه في صدوركم .

وفي هذا وعيد شديد ، لأن إحاطته بالمعلومات تستلزم المجازاة على خيرها وشرها .

ثم بين - سبحانه - من لا يلزم الحجاب منه فقال : لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن فهؤلاء لا يجب على نساء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا غيرهن من النساء الاحتجاب منهم ، ولم يذكر العم والخال ; لأنهما يجريان مجرى الوالدين .

وقال الزجاج : العم والخال ربما يصفان المرأة لولديهما ، فإن المرأة تحل لابن العم ، وابن الخال فكره لهما الرؤية ، وهذا ضعيف جدا ، فإن تجويز وصف المرأة لمن تحل له ممكن من غيرهما ممن يجوز له النظر إليها ، لا سيما أبناء الإخوة وأبناء الأخوات ، واللازم باطل فالملزوم مثله ، وهكذا يستلزم أن لا يجوز للنساء الأجنبيات أن ينظرن إليها لأنهن يصفنها ، واللازم باطل فالملزوم مثله ، وهكذا لا وجه لما قاله الشعبي وعكرمة من أنه يكره للمرأة أن تضع خمارها عند عمها أو خالها ، والأولى أن يقال : أنه - سبحانه - اقتصر هاهنا على بعض ما ذكره من المحارم في سورة النور اكتفاء بما تقدم ولا نسائهن هذه الإضافة تقتضي أن يكون المراد بالنساء المؤمنات ، لأن الكافرات غير مأمونات على العورات ، والنساء كلهن عورة ولا ما ملكت أيمانهن من العبيد والإماء ، وقيل : الإماء خاصة ، ومن لم يبلغ من العبيد ، والخلاف في ذلك معروف . وقد تقدم في سورة النور ما فيه كفاية .

ثم أمرهن - سبحانه - بالتقوى التي هي ملاك الأمر كله ، " و " المعنى اتقين الله في كل الأمور التي من جملتها ما هو مذكور هنا إن الله كان على كل شيء شهيدا لم يغب عنه شيء من الأشياء كائنا ما كان ، فهو مجاز للمحسن بإحسانه وللمسيء بإساءته .

وقد أخرج البخاري ، ومسلم عن أنس قال : قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو حجبتهن ، فأنزل الله الحجاب .

وفي لفظ أنه قال عمر : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ، فأنزل الله آية الحجاب .

وأخرج البخاري ، ومسلم وغيرهما عن أنس قال لما تزوج رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ، ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا ، فلما رأى ذلك قام ، فلما قام من قام وقعد ثلاثة نفر ، فجاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ليدخل فإذا القوم جلوس ، ثم إنهم قاموا فانطلقت فجئت فأخبرت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنهم قد انطلقوا ، فجاء حتى دخل ، فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه ، فأنزل الله ياأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي الآية .

وأخرج ابن جرير عن عائشة أن أزواج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع ، وهو صعيد أفيح ، وكان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - احجب نساءك ، فلم يكن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يفعل ، فخرجت سودة بنت زمعة ليلة من الليالي عشاء ، وكانت امرأة طويلة ، فناداها عمر بصوته الأعلى : قد عرفناك يا سودة حرصا على أن ينزل الحجاب ، فأنزل الله الحجاب ، قال : ياأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي الآية .

وأخرج ابن سعد عن أنس قال : نزلت الحجاب مبتنى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بزينب بنت جحش ، وذلك سنة خمس من الهجرة ، وحجب نساءه من يومئذ وأنا ابن خمس عشرة سنة .

وكذا أخرج ابن سعد عن صالح بن كيسان ، وقال : نزل الحجاب على نسائه في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة ، وبه قال قتادة والواقدي .

وزعم أبو عبيدة ، وخليفة بن خياط أن ذلك كان في سنة ثلاث .

وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله قال : نزلت في رجل هم أن يتزوج بعض نساء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعده .

قال سفيان : وذكروا أنها عائشة . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : بلغنا أن طلحة بن عبيد الله قال أيحجبنا محمد عن بنات عمنا ، ويتزوج نساءنا من بعدنا ؟ لئن حدث به حدث لنتزوج نساءه من بعده ، فنزلت هذه الآية .

وأخرج [ ص: 1181 ] عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن قتادة قال : قال طلحة بن عبيد الله : لو قبض النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لتزوجت عائشة . فنزلت .

وأخرج ابن سعد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال : نزلت في طلحة لأنه قال : إذا توفي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - تزوجت عائشة .

قال ابن عطية : وهذا عندي لا يصح على طلحة بن عبيد الله .

قال القرطبي : قال شيخنا الإمام أبو العباس : وقد حكي هذا القول عن بعض فضلاء الصحابة وحاشاهم عن مثله ، وإنما الكذب في نقله ، وإنما يليق مثل هذا القول بالمنافقين الجهال .

وأخرج البيهقي في السنن عن ابن عباس قال : قال رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : لو قد مات رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - تزوجت عائشة أو أم سلمة ، فأنزل الله وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله الآية .

وأخرج ابن جرير عنه أن رجلا أتى بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فكلمها وهو ابن عمها ، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : لا تقومن هذا المقام بعد يومك هذا ، فقال : يا رسول الله إنها ابنة عمي ، والله ما قلت لها منكرا ولا قالت لي ، قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : قد عرفت ذلك إنه ليس أحد أغير من الله ، وإنه ليس أحد أغير مني ، فمضى ثم قال : يمنعني من كلام ابنة عمي لأتزوجنها من بعده ، فأنزل الله هذه الآية ، فأعتق ذلك الرجل رقبة وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله ، وحج ماشيا توبة من كلمته .

وأخرج ابن مردويه عن أسماء بنت عميس قالت : خطبني علي فبلغ ذلك فاطمة ، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقالت : إن أسماء متزوجة عليا ، فقال لها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ما كان لها أن تؤذي الله ورسوله .

وأخرج ابن سعد عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف في قوله : إن تبدوا شيئا أو تخفوه قال : إن تكلموا به ، فتقولون تتزوج فلانة لبعض أزواج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، أو تخفوا ذلك في أنفسكم فلا تنطقوا به يعلمه الله .

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : لا جناح عليهن إلى آخر الآية قال : أنزلت هذه في نساء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - - خاصة ، وقوله نساء النبي يعني نساء المسلمات ولا ما ملكت أيمانهن من المماليك والإماء ورخص لهن أن يروهن بعد ما ضرب الحجاب عليهن .

التالي السابق


الخدمات العلمية