فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما ( 59 ) لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ( 60 ) ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا ( 61 ) سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ( 62 ) يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا ( 63 ) إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا ( 64 ) خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا ( 65 ) يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا ( 66 ) وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ( 67 ) ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا ( 68 )

لما فرغ - سبحانه - من الزجر لمن يؤذي رسوله والمؤمنين والمؤمنات من عباده أمر رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - بأن يأمر بعض من ناله الأذى ببعض ما يدفع ما يقع عليه منه فقال : [ ص: 1184 ] ياأيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن من للتبعيض ، والجلابيب جمع جلباب ، وهو ثوب أكبر من الخمار .

قال الجوهري الجلباب الملحفة ، وقيل : القناع ، وقيل : هو ثوب يستر جميع بدن المرأة ، كما ثبت في الصحيح من حديث أم عطية أنها قالت : يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب ، فقال : لتلبسها أختها من جلبابها ، قال الواحدي : قال المفسرون يغطين وجوههن ورءوسهن إلا عينا واحدة ، فيعلم أنهن حرائر فلا يعرض لهن بأذى .

وقال الحسن : تغطي نصف وجهها .

وقال قتادة : تلويه فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه ، والإشارة بقوله : ذلك إلى إدناء الجلابيب ، وهو مبتدأ وخبره أدنى أن يعرفن أي : أقرب أن يعرفن فيتميزن عن الإماء ويظهر للناس أنهن حرائر فلا يؤذين من جهة أهل الريبة بالتعرض لهن مراقبة لهن ولأهلهن ، وليس المراد بقوله : ذلك أدنى أن يعرفن أن تعرف الواحدة منهن من هي ، بل المراد أن يعرفن أنهن حرائر لا إماء ؛ لأنهن قد لبسن لبسة تختص بالحرائر وكان الله غفورا لما سلف منهن من ترك إدناء الجلابيب رحيما بهن أو غفورا لذنوب المذنبين رحيما بهم فيدخلن في ذلك دخولا أوليا .

ثم توعد - سبحانه - أهل النفاق والإرجاف ، فقال : لئن لم ينته المنافقون عما هم عليه من النفاق والذين في قلوبهم مرض أي : شك وريبة عما هم عليه من الاضطراب والمرجفون في المدينة عما يصدر منهم من الإرجاف بذكر الأخبار الكاذبة المتضمنة لتوهين جانب المسلمين وظهور المشركين عليهم .

قال القرطبي : أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد ، والمعنى : أن المنافقين قد جمعوا بين النفاق ومرض القلوب والإرجاف على المسلمين ، فهو على هذا من باب قوله :


إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم



أي : إلى الملك القرم بن الهمام ليث الكتيبة .

وقال عكرمة وشهر بن حوشب : الذين في قلوبهم مرض هم الزناة .

والإرجاف في اللغة : إشاعة الكذب والباطل ، يقال : أرجف بكذا : إذا أخبر به على غير حقيقة لكونه خبرا متزلزلا غير ثابت ، من الرجفة وهي الزلزلة .

يقال : رجفت الأرض أي : تحركت وتزلزلت ترجف رجفا ، والرجفان : الاضطراب الشديد ، وسمي البحر رجافا لاضطرابه ، ومنه قول الشاعر :


المطعمون اللحم كل عشية     حتى تغيب الشمس في الرجاف



والإرجاف واحد الأراجيف ، وأرجفوا في الشيء : خاضوا فيه ، ومنه قول شاعر :


فإنا وإن عيرتمونا بقلة     وأرجف بالإسلام باغ وحاسد



وقول الآخر :


أبالأراجيف يا ابن اللؤم توعدني     وفي الأراجيف خلت اللؤم والخور



وذلك بأن هؤلاء المرجفين كانوا يخبرون عن سرايا المسلمين بأنهم هزموا ، وتارة بأنهم قتلوا ، وتارة بأنهم غلبوا ونحو ذلك مما تنكسر له قلوب المسلمين من الأخبار ، فتوعدهم الله - سبحانه - بقوله : لنغرينك بهم أي : لنسلطنك عليهم بالقتل والتشريد بأمرنا لك بذلك .

قال المبرد : قد أغراه الله بهم في قوله بعد هذه الآية .

ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا فهذا فيه معنى الأمر بقتلهم وأخذهم أي : هذا حكمهم إذا كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف .

قال النحاس : وهذا من أحسن ما قيل : في الآية .

وأقول : ليس هذا بحسن ولا أحسن ، فإن قوله ملعونين إلخ ، إنما هو لمجرد الدعاء عليهم لا أنه أمر لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بقتالهم ولا تسليط له عليهم ، وقد قيل : إنهم انتهوا بعد نزول هذه الآية عن الإرجاف فلم يغره الله بهم ، وجملة لنغرينك بهم جواب القسم ، وجملة ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا معطوفة على جملة جواب القسم أي : لا يجاورونك فيها إلا جوارا قليلا حتى يهلكوا ، وانتصاب ملعونين على الحال كما قال المبرد وغيره ، والمعنى مطرودين أينما وجدوا وأدركوا أخذوا وقتلوا دعاء عليهم بأن يؤخذوا ويقتلوا تقتيلا وقيل : إن هذا هو الحكم فيهم وليس بدعاء عليهم ، والأول أولى .

وقيل : معنى الآية : أنهم أصروا على النفاق لم يكن لهم مقام بالمدينة إلا وهم مطرودون .

سنة الله في الذين خلوا من قبل أي : سن الله ذلك في الأمم الماضية ، وهو لعن المنافقين وأخذهم وتقتيلهم ، وكذا حكم المرجفين ، وهو منتصب على المصدر .

قال الزجاج : بين الله في الذين ينافقون الأنبياء ويرجفون بهم أن يقتلوا حيثما ثقفوا ولن تجد لسنة الله تبديلا أي : تحويلا وتغييرا ، بل هي ثابتة دائمة في أمثال هؤلاء في الخلف والسلف .

يسألك الناس عن الساعة أي : عن وقت قيامها وحصولها ، قيل : السائلون عن الساعة هم أولئك المنافقون والمرجفون لما توعدوا بالعذاب سألوا عن الساعة استبعادا وتكذيبا وما يدريك يا محمد أي : ما يعلمك ويخبرك لعل الساعة تكون قريبا أي : في زمان قريب ، وانتصاب قريبا على الظرفية ، والتذكير لكون الساعة في معنى اليوم أو الوقت مع كون تأنيث الساعة ليس بحقيقي ، والخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لبيان أنها إذا كانت محجوبة عنه لا يعلم وقتها ، وهو رسول الله ، فكيف بغيره من الناس ؟ وفي هذا تهديد لهم عظيم .

إن الله لعن الكافرين أي : طردهم وأبعدهم من رحمته وأعد لهم في الآخرة مع ذلك اللعن منه لهم في الدنيا سعيرا أي : نارا شديدة التسعر .

خالدين فيها أبدا بلا انقطاع لا يجدون وليا يواليهم ويحفظهم من عذابها ولا نصيرا ينصرهم ويخلصهم منها .

ويوم في قوله : يوم تقلب وجوههم في النار ظرف لقوله لا يجدون ، وقيل : ل خالدين ، وقيل : ل نصيرا ، وقيل : لفعل مقدر ، وهو اذكر .

قرأ الجمهور " تقلب " بضم التاء وفتح اللام على البناء للمفعول .

وقرأ عيسى الهمداني ، وابن أبي إسحاق " نقلب " بالنون وكسر اللام على البناء للفاعل ، وهو الله - سبحانه - .

وقرأ [ ص: 1185 ] عيسى أيضا بضم التاء وكسر اللام على معنى تقلب السعير وجوههم .

وقرأ أبو حيوة وأبو جعفر وشيبة بفتح التاء واللام على معنى تتقلب ، ومعنى هذا التقلب المذكور في الآية : هو تقلبها تارة على جهة منها ، وتارة على جهة أخرى ظهرا لبطن ، أو تغير ألوانهم بلفح النار فتسود تارة وتخضر أخرى ، أو تبديل جلودهم بجلود أخرى ، فحينئذ يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا والجملة مستأنفة كأنه قيل : فما حالهم ؟ فقيل : يقولون ، ويجوز أن يكون المعنى يقولون يوم تقلب وجوههم في النار يا ليتنا إلخ .

تمنوا أنهم أطاعوا الله والرسول وآمنوا بما جاء به لينجوا مما هم فيه من العذاب كما نجا المؤمنون .

وهذه الألف في الرسولا ، والألف التي ستأتي في " السبيلا " هي الألف التي تقع في الفواصل ويسميها النحاة ألف الإطلاق ، وقد سبق بيان هذا في أول هذه السورة .

وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا هذه الجملة معطوفة على الجملة الأولى ، والمراد بالسادة والكبراء هم الرؤساء والقادة الذين كانوا يمتثلون أمرهم في الدنيا ويقتدون بهم ، وفي هذا زجر عن التقليد شديد ، وكم في الكتاب العزيز من التنبيه على هذا والتحذير منه والتنفير عنه ، ولكن لمن يفهم معنى كلام الله ويقتدي به وينصف من نفسه ، لا لمن هو من جنس الأنعام ، في سوء الفهم ومزيد البلادة وشدة التعصب .

وقرأ الحسن ، وابن عامر " ساداتنا " بكسر التاء جمع سادة فهو جمع الجمع .

وقال مقاتل : هم المطعمون في غزوة بدر ، والأول أولى ، ولا وجه للتخصيص بطائفة معينة فأضلونا السبيلا أي : عن السبيل بما زينوا لنا من الكفر بالله ورسوله ، والسبيل هو التوحيد .

ثم دعوا عليهم في ذلك الموقف فقالوا : ربنا آتهم ضعفين من العذاب أي : مثل عذابنا مرتين .

وقال قتادة : عذاب الدنيا والآخرة ، وقيل : عذاب الكفر وعذاب الإضلال والعنهم لعنا كبيرا قرأ الجمهور " كثيرا " بالمثلثة أي : لعنا كثير العدد عظيم القدر شديد الموقع ، واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد والنحاس ، وقرأ ابن مسعود وأصحابه ويحيى بن وثاب ، وعاصم بالباء الموحدة أي : كبيرا في نفسه شديدا عليهم ثقيل الموقع .

وقد أخرج البخاري ، ومسلم وغيرهما عن عائشة قال : خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها ، وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها ، فرآها عمر فقال : يا سودة أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين ؟ قال : فانكفأت راجعة ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في بيتي وإنه ليتعشى وفي يده عرق ، فدخلت وقالت : يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي ، فقال لي عمر كذا وكذا ، فأوحي إليه ثم رفع عنه ، وإن العرق في يده ما وضعه فقال : إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن .

وأخرج سعيد بن منصور ، وابن سعد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن أبي مالك قال : كان نساء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يخرجن بالليل لحاجتهن ، وكان ناس من المنافقين يتعرضون لهن فيؤذين ، فقيل ذلك للمنافقين ، فقالوا : إنما نفعله بالإماء ، فنزلت هذه ياأيها النبي قل لأزواجك الآية .

وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي قال : كان رجل من المنافقين يتعرض لنساء المؤمنين ويؤذيهن ، فإذا قيل له ، قال كنت أحسبها أمة ، فأمرهن الله أن يخالفن زي الإماء ويدنين عليهن من جلابيبهن تخمر وجهها إلا إحدى عينيها ذلك أدنى أن يعرفن يقول : ذلك أحرى أن يعرفن .

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في هذه الآية قال : أمر الله نساء المؤمنات إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة .

وأخرج ، عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وأبو داود ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن أم سلمة قالت : لما نزلت هذه الآية يدنين عليهن من جلابيبهن خرج نساء الأنصار كأن رءوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها ، هكذا في الزوائد بلفظ من السكينة ، وليس لها معنى ، فإن المراد تشبيه الأكسية السود بالغربان ، لا أن المراد وصفهن بالسكينة كما يقال : كأن على رءوسهم الطير .

وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : رحم الله نساء الأنصار لما نزلت ياأيها النبي قل لأزواجك الآية شققن مروطهن ، فاعتجرن بها وصلين خلف رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كأنما على رءوسهن الغربان .

وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : كانت الحرة تلبس لباس الأمة فأمر الله نساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن ، وإدناء الجلباب أن تقنع وتشده على جبينها .

وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب في قوله : لئن لم ينته المنافقون يعني المنافقين بأعيانهم والذين في قلوبهم مرض شك : يعني المنافقين أيضا .

وأخرج ابن سعد أيضا عن عبيد بن جبير قال : الذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة هم المنافقون جميعا .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : لنغرينك بهم قال : لنسلطنك عليهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية