فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون ( 13 ) إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون ( 14 ) قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون ( 15 ) قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون ( 16 ) وما علينا إلا البلاغ المبين ( 17 ) قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم ( 18 ) قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون ( 19 ) وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين ( 20 ) اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ( 21 ) وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ( 22 ) أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون ( 23 ) إني إذا لفي ضلال مبين ( 24 ) إني آمنت بربكم فاسمعون ( 25 ) قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون ( 26 ) بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ( 27 )

قوله : واضرب لهم مثلا أصحاب القرية قد تقدم الكلام على نظير هذا في سورة البقرة وسورة النمل ، والمعنى : اضرب لأجلهم مثلا ، أو اضرب لأجل نفسك أصحاب القرية مثلا أي : مثلهم عند نفسك بأصحاب القرية ، فعلى الأول لما قال - تعالى - : إنك لمن المرسلين [ يس : 3 ] وقال لتنذر قوما [ يس : 6 ] قال : قل لهم : ما أنا بدعا من الرسل ، فإن قبلي بقليل جاء أصحاب القرية مرسلون ، وأنذروهم بما أنذرتكم ، وذكروا التوحيد ، وخوفوا بالقيامة ، وبشروا بنعيم دار الإقامة .

وعلى الثاني لما قال : إن الإنذار لا ينفع من أضله الله ، وكتب عليه أنه لا يؤمن ، قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : اضرب لنفسك ولقومك مثلا أي : مثل لهم عند نفسك مثلا بأصحاب القرية حيث جاءهم ثلاثة رسل ولم يؤمنوا ، وصبر الرسل على الإيذاء وأنت جئت إليهم واحدا ، وقومك أكثر من قوم الثلاثة ، فإنهم جاءوا إلى أهل القرية ، وأنت بعثتك إلى الناس كافة .

والمعنى : واضرب لهم مثلا مثل أصحاب القرية أي : اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية ، فترك المثل ، وأقيم أصحاب القرية مقامه في الإعراب .

وقيل : لا حاجة إلى الإضمار ، بل المعنى : اجعل أصحاب القرية لهم مثلا على أن يكون ( مثلا ) و ( أصحاب القرية ) مفعولين ل ( اضرب ) ، أو يكون ( أصحاب القرية ) بدلا من ( مثلا ) ، وقد قدمنا الكلام على المفعول الأول من هذين المفعولين هل هو ( مثلا ) أو ( أصحاب القرية ) .

وقد قيل : إن ضرب المثل يستعمل تارة في تطبيق حالة غريبة بحالة أخرى مثلها كما في قوله : ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط [ التحريم : 10 ] ويستعمل أخرى في ذكر حالة غريبة وبيانها للناس من غير قصد إلى تطبيقها بنظيره لها كما في قوله : وضربنا لكم الأمثال [ إبراهيم : 45 ] أي : بينا لكم أحوالا بديعة غريبة : هي في الغرابة كالأمثال ، فقوله - سبحانه - هنا واضرب لهم مثلا يصح اعتبار الأمرين فيه .

قال القرطبي : هذه القرية هي أنطاكية في قول جميع المفسرين ، وقوله : إذ جاءها المرسلون بدل اشتمال من أصحاب القرية ، والمرسلون : هم أصحاب عيسى بعثهم إلى أهل أنطاكية للدعاء إلى الله .

فأضاف الله - سبحانه - الإرسال إلى نفسه في قوله : إذ أرسلنا إليهم اثنين لأن عيسى أرسلهم بأمر الله - سبحانه - ، ويجوز أن يكون الله أرسلهم بعد رفع عيسى إلى السماء ، فكذبوهما في الرسالة ، وقيل : ضربوهما وسجنوهما .

قيل : واسم الاثنين يوحنا وشمعون . وقيل : أسماء الثلاثة صادق ومصدوق وشلوم قاله ابن جرير وغيره .

وقيل : سمعان ويحيى وبولس فعززنا بثالث قرأ الجمهور بالتشديد ، وقرأ أبو بكر عن عاصم بتخفيف الزاي .

قال الجوهري " فعززنا " يخفف ويشدد أي : قوينا وشددنا ، فالقراءتان على هذا بمعنى .

وقيل : التخفيف بمعنى غلبنا وقهرنا ، ومنه وعزني في الخطاب [ ص : 23 ] والتشديد بمعنى قوينا وكثرنا .

قيل : وهذا الثالث هو شمعون . وقيل : غيره فقالوا إنا إليكم مرسلون أي : قال الثلاثة جميعا ، وجاءوا بكلامهم [ ص: 1221 ] هذا مؤكدا لسبق التكذيب للاثنين .

والتكذيب لهما تكذيب للثالث ، لأنهم أرسلوا جميعا بشيء واحد ، وهو الدعاء إلى الله - عز وجل - ، وهذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر ، كأنه قيل : ما قال هؤلاء الرسل بعد التعزيز لهم بثالث ؟ .

وكذلك جملة قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا فإنها مستأنفة جواب سؤال مقدر : كأنه قيل : فما قال لهم أهل أنطاكية ، فقيل : قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا ، أي : مشاركون لنا في البشرية ، فليس لكم مزية علينا تختصون بها .

ثم صرحوا بجحود إنزال الكتب السماوية فقالوا : وما أنزل الرحمن من شيء مما تدعونه أنتم ويدعيه غيركم ممن قبلكم من الرسل وأتباعهم إن أنتم إلا تكذبون أي : ما أنتم إلا تكذبون في دعوى ما تدعون من ذلك ، فأجابوهم بإثبات رسالتهم بكلام مؤكد تأكيدا بليغا لتكرر الإنكار من أهل أنطاكية .

وهو قولهم : ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون فأكدوا الجواب بالقسم الذي يفهم من قولهم : ( ربنا يعلم ) ، وبإن ، وباللام .

وما علينا إلا البلاغ المبين أي : ما يجب علينا من جهة ربنا إلا تبليغ رسالته على وجه الظهور والوضوح وليس علينا غير ذلك ، وهذه الجملة مستأنفة كالتي قبلها .

وكذلك جملة قالوا إنا تطيرنا بكم فإنها مستأنفة جوابا عن سؤال مقدر أي : إنا تشاءمنا بكم ، لم تجدوا جوابا تجيبون به على الرسل إلا هذا الجواب المبني على الجهل المنبئ عن الغباوة العظيمة ، وعدم وجود حجة تدفعون الرسل بها .

قال مقاتل : حبس عنهم المطر ثلاث سنين .

قيل : إنهم أقاموا ينذرونهم عشر سنين ، ثم رجعوا إلى التجبر والتكبر لما ضاقت صدورهم وأعيتهم العلل فقالوا : لئن لم تنتهوا لنرجمنكم أي : لئن لم تتركوا هذه الدعوى وتعرضوا عن هذه المقالة لنرجمنكم بالحجارة وليمسنكم منا عذاب أليم أي : شديد فظيع .

قال الفراء : عامة ما في القرآن من الرجم المراد به القتل . وقال قتادة : هو على بابه من الرجم بالحجارة .

قيل : ومعنى العذاب الأليم : القتل ، وقيل : الشتم ، وقيل : هو التعذيب المؤلم من غير تقييد بنوع خاص وهذا هو الظاهر .

ثم أجاب عليهم الرسل دفعا لما زعموه من التطير بهم ف قالوا طائركم معكم أي : شؤمكم معكم من جهة أنفسكم ، لازم في أعناقكم ، وليس هو من شؤمنا .

قال الفراء : طائركم معكم أي : رزقكم وعملكم ، وبه قال قتادة .

قرأ الجمهور طائركم اسم فاعل أي : ما طار لكم من الخير والشر ، وقرأ الحسن " أطيركم " أي : تطيركم أئن ذكرتم . قرأ الجمهور من السبعة وغيرهم بهمزة استفهام بعدها إن الشرطية على الخلاف بينهم في التسهيل والتحقيق ، وإدخال ألف بين الهمزتين وعدمه .

وقرأ أبو جعفر ، وزر بن حبيش ، وابن السميفع وطلحة بهمزتين مفتوحتين .

وقرأ الأعمش ، وعيسى بن عمر ، والحسن " أين " بفتح الهمزة وسكون الياء على صيغة الظرف .

واختلف سيبويه ويونس إذا اجتمع استفهام وشرط أيهما يجاب ؟ فذهب سيبويه إلى أنه يجاب الاستفهام ، وذهب يونس إلى أنه يجاب الشرط ، وعلى القولين فالجواب هنا محذوف أي : أئن ذكرتم فطائركم معكم لدلالة ما تقدم عليه .

وقرأ الماجشون " أن ذكرتم " بهمزة مفتوحة أي : لأن ذكرتم .

ثم أضربوا عما يقتضيه الاستفهام والشرط من كون التذكير سببا للشؤم فقالوا : بل أنتم قوم مسرفون أي : ليس الأمر كذلك ، بل أنتم قوم عادتكم الإسراف في المعصية .

قال قتادة : مسرفون في تطيركم . وقال يحيى بن سلام : مسرفون في كفركم .

وقال ابن بحر : السرف هنا الفساد ، والإسراف في الأصل مجاوزة الحد في مخالفة الحق .

وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى هو حبيب بن موسى النجار ، وكان نجارا ، وقيل : إسكافا ، وقيل : قصارا .

وقال مجاهد ومقاتل : هو حبيب بن إسرائيل نجارا ، وكان ينحت الأصنام .

وقال قتادة : كان يعبد الله في غار ، فلما سمع بخبر الرسل جاء يسعى ، وجملة قال ياقوم اتبعوا المرسلين مستأنفة جواب سؤال مقدر : كأنه قيل : فماذا قال لهم عند مجيئه ؟ فقيل : يا قوم اتبعوا المرسلين هؤلاء الذين أرسلوا إليكم فإنهم جاءوا بحق .

ثم أكد ذلك وكرره فقال : اتبعوا من لا يسألكم أجرا أي : لا يسألونكم أجرا على ما جاءوكم به من الهدى وهم مهتدون يعني الرسل .

ثم أبرز الكلام في معرض النصيحة لنفسه ، وهو يريد مناصحة قومه فقال : وما لي لا أعبد الذي فطرني ؟ أي : أي مانع من جانبي يمنعني من عبادة الذي خلقني .

ثم رجع إلى خطابهم لبيان أنه ما أراد نفسه ، بل أرادهم بكلامه فقال : وإليه ترجعون ولم يقل إليه أرجع ، وفيه مبالغة في التهديد .

ثم عاد إلى المساق الأول لقصد التأكيد ومزيد الإيضاح فقال : أأتخذ من دونه آلهة فجعل الإنكار متوجها إلى نفسه ، وهم المرادون به أي : لا أتخذ من دون الله آلهة وأعبدها ، وأترك عبادة من يستحق العبادة وهو الذي فطرني .

ثم بين حال هذه الأصنام التي يعبدونها من دون الله - سبحانه - إنكارا عليهم ، وبيانا لضلال عقولهم وقصور إدراكهم فقال : إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا أي : شيئا من النفع كائنا ما كان ولا ينقذون من ذلك الضر الذي أرادني الرحمن به ، وهذه الجملة صفة لآلهة ، أو مستأنفة لبيان حالها في عدم النفع والدفع ، وقوله : لا تغن جواب الشرط ، وقرأ طلحة بن مصرف " إن يردني " بفتح الياء .

قال : إني إذا لفي ضلال مبين أي : إني إذا اتخذت من دونه آلهة لفي ضلال مبين واضح ، وهذا تعريض بهم كما سبق ، والضلال الخسران .

ثم صرح بإيمانه تصريحا لا يبقى بعده شك فقال : إني آمنت بربكم فاسمعون خاطب بهذا الكلام المرسلين .

قال المفسرون : أرادوا القوم قتله ، فأقبل هو على المرسلين ، فقال : إني آمنت بربكم أيها الرسل فاسمعون ، أي : اسمعوا إيماني واشهدوا لي به .

وقيل : إنه خاطب بهذا الكلام قومه لما أرادوا قتله تصلبا في الدين ، وتشددا في الحق ، فلما قال هذا القول ، وصرح بالإيمان ، وثبوا عليه فقتلوه ، وقيل : [ ص: 1222 ] وطئوه بأرجلهم ، وقيل : حرقوه ، وقيل : حفروا له حفيرة وألقوه فيها ، وقيل : إنهم لم يقتلوه بل رفعه الله إلى السماء فهو في الجنة ، وبه قال الحسن ، وقيل : نشروه بالمنشار .

قيل ادخل الجنة أي : قيل له ذلك تكريما له بدخولها بعد قتله كما هي سنة الله في شهداء عباده .

وعلى قول من قال إنه رفع إلى السماء ، ولم يقتل يكون المعنى : أنهم لما أرادوا قتله نجاه الله من القتل ، وقيل : له ادخل الجنة فلما دخلها وشاهدها قيل ادخل الجنة قال ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر ، أي : فماذا قال بعد أن قيل له : ادخل الجنة فدخلها ، فقيل : قال يا ليت قومي إلخ .

و ( ما ) في بما غفر لي هي المصدرية أي : بغفران ربي ، وقيل : هي الموصولة أي : بالذي غفر لي ربي ، والعائد محذوف أي : غفره لي ربي ، واستضعف هذا ; لأنه لا معنى لتمنيه أن يعلم قومه بذنوبه المغفورة ، وليس المراد إلا التمني منه بأن يعلم قومه بغفران ربه له .

وقال الفراء : إنها استفهامية بمعنى التعجب ، كأنه قال : بأي شيء غفر لي ربي .

قال الكسائي : لو صح هذا لقال : بم ، من غير ألف .

ويجاب عنه بأنه قد ورد في لغة العرب إثباتها وإن كان مكسورا بالنسبة إلى حذفها ، ومنه قول الشاعر :


على ما قام يشتمني لئيم كخنزير تمرغ في رماد



وفي معنى تمنيه قولان : أحدهما أنه تمنى أن يعلموا بحاله; ليعلموا حسن مآله ، وحميد عاقبته إرغاما لهم .

وقيل : إنه تمنى أن يعلموا بذلك; ليؤمنوا مثل إيمانه ، فيصيروا إلى مثل حاله .

وقد أخرج الفريابي عن ابن عباس في قوله : واضرب لهم مثلا أصحاب القرية قال : هي أنطاكية . وأخرج ابن أبي حاتم عن بريدة مثله .

وأخرج ابن سعد ، وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : كان بين موسى بن عمران وبين عيسى ابن مريم ألف سنة وتسعمائة سنة ، ولم يكن بينهما فترة ، وأنه أرسل بينهما ألف نبي من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم ، وكان بين ميلاد عيسى والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خمسمائة سنة وتسع وستون سنة ، بعث في أولها ثلاثة أنبياء وهو قوله : إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث والذي عزز به شمعون ، وكان من الحواريين ، وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولا أربعمائة سنة وأربعا وثلاثين سنة .

وأخرج ابن المنذر عنه أيضا في قوله : طائركم معكم قال : شؤمكم معكم .

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عنه أيضا في قوله : وجاء من أقصى المدينة رجل قال : هو حبيب النجار .

وأخرج ابن أبي حاتم عنه من وجه آخر ، قال اسم صاحب يس : حبيب ، وكان الجذام قد أسرع فيه .

وأخرج الحاكم عن ابن مسعود قال : لما قال صاحب يس ياقوم اتبعوا المرسلين خنقوه ليموت فالتفت إلى الأنبياء فقال : إني آمنت بربكم فاسمعون أي : فاشهدوا لي .

التالي السابق


الخدمات العلمية