فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
تفسير سورة الصافات

وهي مكية . قال القرطبي : في قول الجميع . وأخرج ابن الضريس ، وابن النحاس ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : نزلت بمكة .

وأخرج النسائي ، والبيهقي في سننه عن ابن عمر قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا بالصافات . قال ابن كثير : تفرد به النسائي .

وأخرج ابن أبي داود في فضائل القرآن ، وابن النجار في تاريخه من طريق نهشل بن سعيد الورداني عن الضحاك عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : من قرأ يس والصافات يوم الجمعة ثم سأل الله أعطاه سؤله .

وأخرج أبو نعيم في الدلائل ، والسلفي في الطيوريات عن ابن عباس : " أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لما سأله ملوك حضرموت عند قدومهم عليه أن يقرأ عليهم شيئا مما أنزل الله قرأ والصافات صفا حتى بلغ ورب المشارق [ أي : سورة الصافات ] الحديث .

بسم الله الرحمن الرحيم

والصافات صفا ( 1 ) فالزاجرات زجرا ( 2 ) فالتاليات ذكرا ( 3 ) إن إلهكم لواحد ( 4 ) رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق ( 5 ) إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب ( 6 ) وحفظا من كل شيطان مارد ( 7 ) لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب ( 8 ) دحورا ولهم عذاب واصب ( 9 ) إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ( 10 ) فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب ( 11 ) بل عجبت ويسخرون ( 12 ) وإذا ذكروا لا يذكرون ( 13 ) وإذا رأوا آية يستسخرون ( 14 ) وقالوا إن هذا إلا سحر مبين ( 15 ) أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ( 16 ) أوآباؤنا الأولون ( 17 ) قل نعم وأنتم داخرون ( 18 ) فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون ( 19 )

قوله : والصافات صفا قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، وقيل : حمزة فقط بإدغام التاء من الصافات في صاد صفا ، وإدغام التاء من الزاجرات في زاي زجرا ، وإدغام التاء من التاليات في ذال ذكرا ، وهذه القراءة قد أنكرها أحمد بن حنبل لما سمعها .

قال النحاس : وهي بعيدة في العربية من ثلاث جهات : الجهة الأولى أن التاء ليست من مخرج الصاد ولا من مخرج الزاي ولا من مخرج الدال ولا من أخواتهن .

الجهة الثانية أن التاء في كلمة وما بعدها في كلمة أخرى .

الثالثة أنك إذا أدغمت جمعت بين ساكنين من كلمتين ، وإنما يجوز الجمع بين ساكنين في مثل هذا إذا كانا في كلمة واحدة .

وقال الواحدي : إدغام التاء في الصاد حسن لمقاربة الحرفين ، ألا ترى أنهما من طرف اللسان .

وقرأ الباقون بإظهار جميع ذلك ، والواو للقسم ، والمقسم به الملائكة : الصافات ، والزاجرات ، والتاليات والمراد بالصافات : التي تصف في السماء من الملائكة كصفوف الخلق في الدنيا ، قاله ابن مسعود وابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ، وقتادة .

وقيل : إنها تصف أجنحتها في الهواء واقفة فيه حتى يأمرها الله بما يريد .

وقال الحسن : صفا كصفوفهم عند ربهم في صلاتهم .

وقيل : المراد بالصافات هنا الطير كما في قوله : أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات [ الملك : 19 ] .

والأول أولى ، والصف : ترتيب الجمع على خط كالصف في الصلاة .

وقيل : الصافات جماعة الناس المؤمنين إذا قاموا صفا في الصلاة أو في الجهاد ، ذكره القشيري .

والمراد بـ الزاجرات الفاعلات للزجر من الملائكة ، إما لأنها تزجر السحاب كما قال السدي ، وإما لأنها تزجر عن المعاصي بالمواعظ والنصائح .

وقال قتادة : المراد بالزاجرات الزواجر من القرآن ، وهي كل ما ينهى ويزجر عن القبيح . والأول أولى .

وانتصاب صفا و زجرا على المصدرية لتأكيد ما قبلهما .

وقيل : المراد بالزاجرات العلماء ، لأنهم الذين يزجرون أهل المعاصي ، والزجر في الأصل : الدفع بقوة ، وهو هنا قوة التصويت ، ومنه قول الشاعر :


زجر أبي عروة السباع إذا أشفق أن يختلطن بالغنم



ومنه زجرت الإبل والغنم : إذا أفزعتها بصوتك .

والمراد [ ص: 1235 ] بـ فالتاليات ذكرا الملائكة التي تتلو القرآن كما قال ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وابن جبير والسدي .

وقيل : المراد جبريل وحده ، فذكر بلفظ الجمع تعظيما له مع أنه لا يخلو من أتباع له من الملائكة . وقال قتادة : المراد كل من تلا ذكر الله وكتبه .

وقيل : المراد آيات القرآن ، ووصفها بالتلاوة وإن كانت متلوة كما في قوله : إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل [ النمل : 76 ] وقيل : لأن بعضهم يتلو بعضا ويتبعه .

وذكر الماوردي أن التاليات هم الأنبياء يتلون الذكر على أممهم ، وانتصاب " ذكرا " على أنه مفعول به ويجوز أن يكون مصدرا كما قبله من قوله " صفا ، وزجرا " .

قيل : وهذه الفاء في قوله " فالزاجرات ، فالتاليات " إما لترتيب الصفات أنفسها في الوجود أو لترتيب موصوفاتها في الفضل ، وفي الكل نظر .

وقوله : إن إلهكم لواحد جواب القسم أي : أقسم الله بهذه الأقسام إنه واحد ليس له شريك . وأجاز الكسائي فتح إن الواقعة في جواب القسم .

رب السماوات والأرض يجوز أن يكون خبرا ثانيا ، وأن يكون بدلا من " لواحد " وأن يكون خبر مبتدأ محذوف .

قال ابن الأنباري : الوقف على " لواحد " وقف حسن ، ثم يبتدئ " رب السماوات والأرض " على معنى هو رب السماوات والأرض .

قال النحاس : ويجوز أن يكون بدلا من " لواحد " .

والمعنى في الآية : أن وجود هذه المخلوقات على هذا الشكل البديع من أوضح الدلائل على وجود الصانع وقدرته ، وأنه رب ذلك كله أي : خالقه ومالكه .

والمراد بـ " ما بينهما " : ما بين السماوات والأرض من المخلوقات .

والمراد بـ المشارق مشارق الشمس . قيل : إن الله - سبحانه - خلق للشمس كل يوم مشرقا ومغربا بعدد أيام السنة ، تطلع كل يوم من واحد منها وتغرب من واحد ، كذا قال ابن الأنباري وابن عبد البر .

وأما في قوله في سورة الرحمن رب المشرقين ورب المغربين [ الرحمن : 17 ] فالمراد بالمشرقين : أقصى مطلع تطلع منه الشمس في الأيام الطوال ، وأقصر يوم في الأيام القصار ، وكذلك في المغربين .

وأما ذكر المشرق والمغرب بالإفراد فالمراد به الجهة التي تشرق منها الشمس ، والجهة التي تغرب منها ، ولعله قد تقدم لنا في هذا كلام أوسع من هذا .

إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب المراد بالسماء الدنيا التي تلي الأرض ، من الدنو وهو القرب ، فهي أقرب السماوات إلى الأرض .

قرأ الجمهور " بزينة الكواكب " بإضافة " زينة " إلى الكواكب . والمعنى : زيناها بتزيين الكواكب أي : بحسنها .

وقرأ مسروق ، والأعمش ، والنخعي ، وحمزة بتنوين " زينة " وخفض " الكواكب " على أنها بدل من الزينة على أن المراد بالزينة الاسم لا المصدر ، والتقدير بعد طرح المبدل منه : إنا زينا السماء بالكواكب ، فإن الكواكب في أنفسها زينة عظيمة ، فإنها في أعين الناظرين لها كالجواهر المتلألئة .

وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه بتنوين " زينة " ونصب " الكواكب " على أن الزينة مصدر وفاعله محذوف ، والتقدير : بأن الله زين الكواكب بكونها مضيئة حسنة في أنفسها ، أو تكون الكواكب منصوبة بإضمار أعني ، أو بدلا من السماء بدل اشتمال ، وانتصاب " حفظا " على المصدرية بإضمار فعل أي : حفظناها حفظا ، أو على أنها مفعول لأجله أي : زيناها بالكواكب للحفظ ، أو بالعطف على محل زينة كأنه قال : إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء .

وحفظا من كل شيطان مارد أي : متمرد خارج عن الطاعة يرمى بالكواكب ، كقوله : ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين [ الملك : 5 ] .

وجملة لا يسمعون إلى الملإ الأعلى مستأنفة لبيان حالهم بعد حفظ السماء منهم .

وقال أبو حاتم أي : لئلا يسمعوا ، ثم حذف إن فرفع الفعل ، وكذا قال الكلبي ، والملأ الأعلى : أهل السماء الدنيا فما فوقها ، وسمي الكل منهم أعلى بإضافته إلى ملأ الأرض ، والضمير في " يسمعون " إلى الشياطين .

وقيل : إن جملة " لا يسمعون " صفة لكل شيطان ، وقيل : جوابا عن سؤال مقدر كأنه قيل : فما كان حالهم بعد حفظ السماء عنهم ؟ فقال : لا يسمعون إلى الملإ الأعلى قرأ الجمهور " يسمعون " بسكون السين وتخفيف الميم . وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص عنه بتشديد الميم والسين ، والأصل " يتسمعون " فأدغم التاء في السين ، فالقراءة الأولى تدل على انتفاء سماعهم دون استماعهم ، والقراءة الثانية تدل على انتفائهما وفي معنى القراءة الأولى قوله - تعالى - : إنهم عن السمع لمعزولون [ الشعراء : 212 ] قال مجاهد : كانوا يتسمعون ولكن لا يسمعون .

واختار أبو عبيدة القراءة الثانية ، قال : لأن العرب لا تكاد تقول : سمعت إليه ، وتقول تسمعت إليه .

ويقذفون من كل جانب دحورا أي : يرمون من كل جانب من جوانب السماء بالشهب إذا أرادوا الصعود لاستراق السمع ، وانتصاب " دحورا " على أنه مفعول لأجله والدحور الطرد ، تقول دحرته دحرا ودحورا : طردته .

قرأ الجمهور دحورا بضم الدال ، وقرأ علي ، والسلمي ، ويعقوب الحضرمي ، وابن أبي عبلة بفتحها .

وروي عن أبي عمرو أنه قرأ " يقذفون " مبنيا للفاعل ، وهي قراءة غير مطابقة لما هو المراد من النظم القرآني ، وقيل : إن انتصاب " دحورا " على الحال : أي : مدحورين ، وقيل : هو جمع داحر نحو قاعد وقعود فيكون حالا أيضا . وقيل : إنه مصدر لمقدر أي : يدحرون دحورا .

وقال الفراء : إن المعنى يقذفون بما يدحرهم أي : بدحور ، ثم حذفت الباء فانتصب بنزع الخافض .

واختلف هل كان هذا الرمي لهم بالشهب قبل المبعث أو بعده ، فقال بالأول طائفة ، وبالآخر آخرون وقالت طائفة بالجمع بين القولين : إن الشياطين لم تكن ترمى قبل المبعث رميا يقطعها عن السمع ، ولكن كانت ترمى وقتا ولا ترمى وقتا آخر وترمى من جانب ولا ترمى من جانب آخر ، ثم بعد المبعث رميت في كل وقت ومن كل جانب حتى صارت لا تقدر على استراق شيء من السمع إلا من اختطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ، ومعنى ولهم عذاب واصب ولهم عذاب دائم لا ينقطع ، والمراد به العذاب في [ ص: 1236 ] الآخرة غير العذاب الذي لهم في الدنيا من الرمي بالشهب .

وقال مقاتل : يعني دائما إلى النفخة الأولى ، والأول أولى .

وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن الواصب الدائم .

وقال السدي وأبو صالح والكلبي : هو الموجع الذي يصل وجعه إلى القلب ، مأخوذ من الوصب وهو المرض ، وقيل : هو الشديد .

والاستثناء في قوله : إلا من خطف الخطفة هو من قوله لا يسمعون أو من قوله ويقذفون .

وقيل : الاستثناء راجع إلى غير الوحي لقوله : إنهم عن السمع لمعزولون [ الشعراء : 212 ] بل يخطف الواحد منهم خطفة مما يتفاوض فيه الملائكة ويدور بينهم مما سيكون في العالم قبل أن يعلمه أهل الأرض .

والخطف الاختلاس مسارقة وأخذ الشيء بسرعة .

قرأ الجمهور خطف بفتح الخاء وكسر الطاء مخففة ، وقرأ قتادة ، والحسن بكسرهما وتشديد الطاء ، وهي لغة تميم بن مر وبكر بن وائل . وقرأ عيسى بن عمر بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة . وقرأ ابن عباس بكسرهما مع تخفيف الطاء .

وقيل : إن الاستثناء منقطع فأتبعه شهاب ثاقب أي : لحقه وتبعه شهاب ثاقب : نجم مضيء فيحرقه ، وربما لا يحرقه فيلقي إلى إخوانه ما خطفه ، وليست الشهب التي يرجم بها هي من الكواكب الثوابت بل من غير الثوابت ، وأصل الثقوب الإضاءة .

قال الكسائي : ثقبت النار تثقب ثقابة وثقوبا : إذا اتقدت ، وهذه الآية هي كقوله : إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين [ الحجر : 18 ] .

فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا أي : اسأل الكفار المنكرين للبعث أهم أشد خلقا وأقوى أجساما وأعظم أعضاء ، أم من خلقنا من السماوات والأرض والملائكة ؟ قال الزجاج : المعنى : فاسألهم سؤال تقرير أهم أشد خلقا أي : أحكم صنعة أم من خلقنا قبلهم من الأمم السالفة ؟ يريد أنهم ليسوا بأحكم خلقا من غيرهم من الأمم وقد أهلكناهم بالتكذيب فما الذي يؤمنهم من العذاب ؟ ثم ذكر خلق الإنسان فقال : إنا خلقناهم من طين لازب أي : إنا خلقناهم في ضمن خلق أبيهم آدم من طين لازب أي : لاصق ، يقال : لزب يلزب لزوبا : إذا لصق . وقال قتادة وابن زيد : اللازب اللازق . وقال عكرمة : اللازب اللزج . وقال سعيد بن جبير : اللازب الجيد الذي يلصق باليد . وقال مجاهد : هو اللازم ، والعرب تقول : طين لازب ولازم تبدل الباء من الميم ، واللازم الثابت كما يقال : صار الشيء ضربة لازب ، ومنه قول النابغة :


لا تحسبون الخير لا شر بعده     ولا تحسبون الشر ضربة لازب



وحكى الفراء عن العرب : طين لاتب بمعنى لازم ، واللاتب الثابت . قال الأصمعي واللاتب اللاصق مثل اللازب .

والمعنى في الآية : أن هؤلاء كيف يستبعدون المعاد وهم مخلوقون من هذا الخلق الضعيف ولم ينكره من هو مخلوق خلقا أقوى منهم وأعظم وأكمل وأتم . وقيل : اللازب هو المنتن قاله مجاهد ، والضحاك .

قرأ الجمهور أم من خلقنا بتشديد الميم وهي أم المتصلة ، وقرأ الأعمش بالتخفيف ، وهو استفهام ثان على قراءته .

قيل : وقد قرئ " لازم ولاتب " ، ولا أدري من قرأ بذلك .

ثم أضرب - سبحانه - عن الكلام السابق فقال : بل عجبت يا محمد من قدرة الله - سبحانه - ويسخرون منك بسبب تعجبك ، أو ويسخرون منك بما تقوله من إثبات المعاد .

قرأ الجمهور بفتح التاء من عجبت على الخطاب للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - . وقرأ حمزة والكسائي بضمها ، ورويت هذه القراءة عن علي وابن مسعود وابن عباس ، واختارها أبو عبيد والفراء .

قال الفراء : قرأها الناس بنصب التاء ورفعها ، والرفع أحب إلي لأنها عن علي وعبد الله وابن عباس .

قال : والعجب أن أسند إلى الله فليس معناه من الله كمعناه من العباد .

قال الهروي : وقال بعض الأئمة : معنى قوله : بل عجبت بل جازيتهم على عجبهم ، لأن الله أخبر عنهم في غير موضع بالتعجب من الخلق كما قال : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم [ ص : 4 ] وقالوا : إن هذا لشيء عجاب [ ص : 5 ] أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم [ يونس : 2 ] وقال علي بن سليمان : معنى القراءتين واحد ، والتقدير : قل يا محمد بل عجبت ; لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مخاطب بالقرآن .

قال النحاس : وهذا قول حسن وإضمار القول كثير .

وقيل : إن معنى الإخبار من الله - سبحانه - عن نفسه بالعجب أنه ظهر من أمره وسخطه على من كفر به ما يقوم مقام العجب من المخلوقين .

قال الهروي : ويقال : معنى عجب ربكم أي : رضي ربكم وأثاب ، فسماه عجبا ، وليس بعجب في الحقيقة ، فيكون معنى " عجبت " هنا عظم فعلهم عندي . وحكى النقاش أن معنى " بل عجبت " : بل أنكرت . قال الحسن بن الفضل : التعجب من الله إنكار الشيء وتعظيمه ، وهو لغة العرب ، وقيل : معناه : أنه بلغ في كمال قدرته وكثرة مخلوقاته إلى حيث عجب منها ، وهؤلاء لجهلهم يسخرون منها ، والواو في " ويسخرون " للحال أي : بل عجبت والحال أنهم يسخرون ، ويجوز أن تكون للاستئناف .

وإذا ذكروا لا يذكرون أي : وإذا وعظوا بموعظة من مواعظ الله أو مواعظ رسوله لا يذكرون أي : لا يتعظون بها ولا ينتفعون بما فيها .

قال سعيد بن المسيب أي : إذا ذكر لهم ما حل بالمكذبين ممن كان قبلهم أعرضوا عنه ولم يتدبروا .

وإذا رأوا آية أي : معجزة من معجزات رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يستسخرون أي : يبالغون في السخرية .

قال قتادة : يسخرون ويقولون إنها سخرية ، يقال : سخر واستسخر بمعنى ، مثل قر واستقر ، وعجب واستعجب . والأول أولى ، لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى .

وقيل : معنى " يستسخرون " : يستدعون السخرى من غيرهم . وقال مجاهد : يستهزئون .

وقالوا إن هذا إلا سحر مبين أي : ما هذا الذي تأتينا به إلا سحر واضح ظاهر .

أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما الاستفهام للإنكار أي : أنبعث إذا متنا ؟ فالعامل في إذا هو ما دل عليه أئنا لمبعوثون وهو أنبعث ، لأنفس مبعوثون لتوسط ما يمنع من عمله فيه ، وهذا الإنكار للبعث منهم هو السبب الذي لأجله كذبوا الرسل وما نزل عليهم واستهزءوا بما جاءوا به من المعجزات ، وقد تقدم [ ص: 1237 ] تفسير معنى هذه الآية في مواضع .

أوآباؤنا الأولون هو مبتدأ وخبره محذوف أي : أوآباؤنا الأولون مبعوثون ، وقيل : معطوف على محل إن واسمها ، وقيل : على الضمير في مبعوثون لوقوع الفصل بينهما والهمزة للإنكار داخلة على حرف العطف ، ولهذا قرأ الجمهور بفتح الواو ، وقرأ ابن عامر ، وقالون بسكونها على أن أو هي العاطفة ، وليست الهمزة للاستفهام .

ثم أمر الله - سبحانه - رسوله بأن يجيب عنهم تبكيتا لهم ، فقال : قل نعم وأنتم داخرون أي : نعم تبعثون وأنتم صاغرون ذليلون .

قال الواحدي : والدخور أشد الصغار ، وجملة " وأنتم داخرون " في محل نصب على الحال .

ثم ذكر - سبحانه - أن بعثهم يقع بزجرة واحدة فقال : فإنما هي زجرة واحدة الضمير للقصة أو البعثة المفهومة مما قبلها أي : إنما قصة البعث أو البعثة زجرة واحدة أي : صيحة واحدة من إسرافيل بنفخه في الصور عند البعث فإذا هم ينظرون أي : يبصرون ما يفعل الله بهم من العذاب .

وقال الحسن : هي النفخة الثانية ، وسميت الصيحة زجرة ، لأن المقصود منها الزجر ، وقيل : معنى ينظرون : ينتظرون ما يفعل بهم ، والأول أولى .

وقد أخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه من طرق عن ابن مسعود والصافات صفا قال : الملائكة فالزاجرات زجرا قال : الملائكة فالتاليات ذكرا قال : الملائكة .

وأخرج ، عبد بن حميد عن مجاهد وعكرمة مثله . وأخرج ابن المنذر ، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس مثله .

وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه أنه كان يقرأ " لا يسمعون إلى الملأ الأعلى " مخففة ، وقال : إنهم كانوا يتسمعون ولكن لا يسمعون .

وأخرج ابن جرير عنه أيضا في قوله : عذاب واصب قال : دائم .

وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة عنه أيضا فأتبعه شهاب ثاقب .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه أيضا فأتبعه شهاب ثاقب قال : لا يقتلون بالشهاب ولا يموتون . ولكنها تحرق وتخبل وتجرح في غير قتل .

وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : من طين لازب قال : ملتصق .

وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عنه أيضا من طين لازب قال : اللزج الجيد .

وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال : اللازب والحمأ والطين واحد : كان أوله ترابا ثم صار حمأ منتنا ، ثم صار طينا لازبا ، فخلق الله منه آدم .

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : اللازب الذي يلصق بعضه إلى بعض .

وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه كان يقرأ " بل عجبت ويسخرون " بالرفع للتاء من عجبت .

التالي السابق


الخدمات العلمية