فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين ( 20 ) هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون ( 21 ) احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون ( 22 ) من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم ( 23 ) وقفوهم إنهم مسئولون ( 24 ) ما لكم لا تناصرون ( 25 ) بل هم اليوم مستسلمون ( 26 ) وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ( 27 ) قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين ( 28 ) قالوا بل لم تكونوا مؤمنين ( 29 ) وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين ( 30 ) فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون ( 31 ) فأغويناكم إنا كنا غاوين ( 32 ) فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون ( 33 ) إنا كذلك نفعل بالمجرمين ( 34 ) إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ( 35 ) ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون ( 36 ) بل جاء بالحق وصدق المرسلين ( 37 ) إنكم لذائقو العذاب الأليم ( 38 ) وما تجزون إلا ما كنتم تعملون ( 39 ) إلا عباد الله المخلصين ( 40 ) أولئك لهم رزق معلوم ( 41 ) فواكه وهم مكرمون ( 42 ) في جنات النعيم ( 43 ) على سرر متقابلين ( 44 ) يطاف عليهم بكأس من معين ( 45 ) بيضاء لذة للشاربين ( 46 ) لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون ( 47 ) وعندهم قاصرات الطرف عين ( 48 ) كأنهن بيض مكنون ( 49 )

قوله : وقالوا يا ويلنا أي : قال أولئك المبعوثون لما عاينوا البعث الذي كانوا يكذبون به في الدنيا : يا ويلنا ، دعوا بالويل على أنفسهم .

قال الزجاج : الويل كلمة يقولها القائل وقت الهلكة ، وقال الفراء : إن أصله يا وي لنا ، ووي بمعنى الحزن كأنه قال : يا حزن لنا .

قال النحاس : ولو كان كما قال لكان منفصلا ، وهو في المصحف متصل ، ولا نعلم أحدا يكتبه إلا متصلا ، وجملة هذا يوم الدين تعليل لدعائهم بالويل على أنفسهم ، و " الدين " الجزاء ، فكأنهم قالوا : هذا اليوم الذي نجازى فيه بأعمالنا من الكفر والتكذيب للرسل فأجاب عليهم الملائكة بقولهم : هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون ، ويجوز أن يكون هذا من قول بعضهم لبعض ، والفصل الحكم والقضاء ; لأنه يفصل فيه بين المحسن والمسيء .

وقوله : احشروا الذين ظلموا وأزواجهم هو أمر من الله - سبحانه - للملائكة بأن يحشروا المشركين وأزواجهم ، وهم أشباههم في الشرك ، والمتابعون لهم في الكفر ، والمشايعون لهم في تكذيب الرسل ، كذا قال قتادة ، وأبو العالية .

وقال الحسن ومجاهد : المراد بأزواجهم نساؤهم المشركات الموافقات لهم على الكفر والظلم .

وقال الضحاك : أزواجهم قرناؤهم من الشياطين يحشر كل كافر مع شيطانه ، وبه قال مقاتل .

وما كانوا يعبدون من دون الله من الأصنام والشياطين ، وهذا العموم المستفاد من ما الموصولة ، فإنها عبارة عن المعبودين ، لا عن العابدين كما قيل : مخصوص ، لأن من طوائف الكفار من عبد المسيح ، ومنهم من عبد الملائكة فيخرجون بقوله : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون [ الأنبياء : 101 ] ووجه حشر الأصنام مع كونها جمادات لا تعقل هو زيادة التبكيت لعابديها وتخجيلهم وإظهار أنها لا تنفع ولا تضر فاهدوهم إلى صراط الجحيم أي : عرفوا هؤلاء [ ص: 1238 ] المحشورين طريق النار وسوقوهم إليها ، يقال : هديته الطريق وهديته إليها أي : دللته عليها ، وفي هذا تهكم بهم .

وقفوهم إنهم مسئولون أي : احبسوهم ، يقال : وقفت الدابة أقفها وقفا فوقفت هي وقوفا يتعدى ولا يتعدى ، وهذا الحبس لهم يكون قبل السوق إلى جهنم أي : وقفوهم للحساب ثم سوقوهم إلى النار بعد ذلك ، وجملة إنهم مسئولون تعليل للجملة الأولى .

قال الكلبي أي : مسئولون عن أعمالهم وأقوالهم وأفعالهم .

وقال الضحاك : عن خطاياهم ، وقيل : عن لا إله إلا الله ، وقيل : عن ظلم العباد ، وقيل : عن ظلم العباد .

وقيل : هذا السؤال هو المذكور بعد هذا بقوله : ما لكم لا تناصرون أي : أي شيء لكم لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا ، وهذا توبيخ لهم وتقريع وتهكم بهم ، وأصله تتناصرون فطرحت إحدى التاءين تخفيفا .

قرأ الجمهور إنهم مسئولون بكسر الهمزة ، وقرأ عيسى بن عمر بفتحها .

قال الكسائي أي : لأنهم أو بأنهم ، وقيل : الإشارة بقوله : ما لكم لا تناصرون إلى قول أبي جهل يوم بدر نحن جميع منتصر [ القمر : 44 ] .

ثم أضرب - سبحانه - عما تقدم إلى بيان الحالة التي هم عليها هنالك فقال : بل هم اليوم مستسلمون أي : منقادون لعجزهم عن الحيلة . قال قتادة : مستسلمون في عذاب الله . وقال الأخفش : ملقون بأيديهم ، يقال : استسلم للشيء : إذا انقاد له وخضع .

وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون أي : أقبل بعض الكفار على بعض يتساءلون .

قيل : هم الأتباع والرؤساء يسأل بعضهم بعضا سؤال توبيخ وتقريع ومخاصمة . وقال مجاهد : هو قول الكفار للشياطين . وقال قتادة : هو قول الإنس للجن . والأول أولى لقوله : قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين أي : كنتم تأتوننا في الدنيا عن اليمين أي : من جهة الحق والدين والطاعة وتصدونا عنها .

قال الزجاج : كنتم تأتوننا من قبل الدين ، فتروننا أن الدين والحق ما تضلوننا به ، واليمين عبارة عن الحق ، وهذا كقوله - تعالى - إخبارا عن إبليس ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم [ الأعراف : 17 ] قال الواحدي : قال أهل المعاني : إن الرؤساء كانوا قد حلفوا لهؤلاء الأتباع أن ما يدعونهم إليه هو الحق فوثقوا بأيمانهم ، فمعنى تأتوننا عن اليمين أي : من ناحية الأيمان التي كنتم تحلفونها فوثقنا بها . قال : والمفسرون على القول الأول .

وقيل : المعنى : تأتوننا عن اليمين التي نحبها ونتفاءل بها لتغرونا بذلك عن جهة النصح ، والعرب تتفاءل بما جاء عن اليمين وتسميه السانح .

وقيل : اليمين بمعنى القوة أي : تمنعوننا بقوة وغلبة وقهر كما في قوله : فراغ عليهم ضربا باليمين [ الصافات : 93 ] أي : بالقوة وهذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر .

وكذلك كجملة قالوا بل لم تكونوا مؤمنين فإنها مستأنفة جواب سؤال مقدر ، والمعنى : أنه قال الرؤساء أو الشياطين لهؤلاء القائلين : كنتم تأتوننا عن اليمين : بل لم تكونوا مؤمنين ولم نمنعكم من الإيمان .

والمعنى : إنكم لم تكونوا مؤمنين قط حتى ننقلكم عن الإيمان إلى الكفر بل كنتم من الأصل على الكفر فأقمتم عليه .

وما كان لنا عليكم من سلطان من تسلط بقهر وغلبة حتى ندخلكم في الإيمان ونخرجكم من الكفر بل كنتم قوما طاغين أي : متجاوزين الحد في الكفر والضلال .

وقوله : فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون من قول المتبوعين أي : وجب علينا وعليكم ولزمنا قول ربنا ، يعنون قوله - تعالى - : لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين [ ص : 85 ] ( إنا لذائقو العذاب ) أي : إنا جميعا لذائقو العذاب الذي ورد به الوعيد . قال الزجاج أي : إن المضل والضال في النار .

فأغويناكم أي : أضللناكم عن الهدى ، ودعوناكم إلى ما كنا فيه من الغي ، وزينا لكم ما كنتم عليه من الكفر إنا كنا غاوين فلا عتب علينا في تعرضنا لإغوائكم ، لأنا أردنا أن تكونوا أمثالنا في الغواية ، ومعنى الآية : أقدمنا على إغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغواية ، فأقروا هاهنا بأنهم تسببوا لإغوائهم ، لكن لا بطريق القهر والغلبة ، ونفوا عن أنفسهم فيما سبق أنهم قهروهم وغلبوهم ، فقالوا : وما كان لنا عليكم من سلطان .

ثم أخبر الله - سبحانه - عن الأتباع والمتبوعين بقوله : فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون كما كانوا مشتركين في الغواية .

إنا كذلك نفعل بالمجرمين أي : إنا نفعل مثل ذلك الفعل بالمجرمين أي : أهل الإجرام ، وهم المشركون .

كما يفيده قوله : إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون أي : إذا قيل : لهم قولوا لا إله إلا الله يستكبرون عن القبول ، ومحل ( يستكبرون ) النصب على أنه خبر كان ، أو الرفع على أنه خبر إن ، وكان ملغاة .

ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون يعنون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أي : لقول شاعر مجنون . فرد الله - سبحانه - عليهم بقوله : بل جاء بالحق يعني القرآن المشتمل على التوحيد والوعد والوعيد وصدق المرسلين أي : صدقهم فيما جاءوا به من التوحيد والوعيد وإثبات الدار الآخرة ولم يخالفهم ولا جاء بشيء لم تأت به الرسل قبله .

إنكم لذائقو العذاب الأليم أي : إنكم بسبب شرككم وتكذيبكم لذائقو العذاب الشديد الألم .

قرأ الجمهور لذائقو بحذف النون وخفض العذاب ، وقرأ أبان بن ثعلب عن عاصم وأبو السماك بحذفها ونصب العذاب ، وأنشد سيبويه في مثل هذه القراءة بالحذف للنون والنصب للعذاب قول الشاعر :


فألفيته غير مستعتب ولا ذاكر الله إلا قليلا



وأجاز سيبويه أيضا " والمقيمي الصلاة " [ الحج : 35 ] بنصب الصلاة على هذا التوجيه .

وقد قرئ بإثبات النون ونصب العذاب على الأصل .

ثم بين - سبحانه - أن ما ذاقوه من العذاب ليس إلا بسبب أعمالهم ، فقال : وما تجزون إلا ما كنتم تعملون أي : إلا جزاء ما كنتم تعملون من الكفر والمعاصي ، أو إلا بما كنتم تعملون .

ثم استثنى المؤمنين فقال : إلا عباد الله المخلصين قرأ أهل المدينة والكوفة [ ص: 1239 ] المخلصين بفتح اللام أي : الذين أخلصهم الله لطاعته وتوحيده .

وقرأ الباقون بكسرها أي : الذين أخلصوا لله العبادة والتوحيد ، والاستثناء إما متصل على تقدير تعميم الخطاب في ( تجزون ) لجميع المكلفين ، أو منقطع أي : لكن عباد الله المخلصين لا يذوقون العذاب .

والإشارة بقوله : أولئك إلى المخلصين ، وهو مبتدأ وخبره قوله : لهم رزق معلوم أي : لهؤلاء المخلصين رزق يرزقهم الله إياه معلوم في حسنه وطيبه وعدم انقطاعه .

قال قتادة : يعني الجنة ، وقيل : معلوم الوقت ، وهو أن يعطوا منه بكرة وعشية كما في قوله : ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا [ مريم : 62 ] وقيل : هو المذكور في قوله بعده .

فواكه فإنه بدل من ( رزق ) أو خبر مبتدأ محذوف أي : هو فواكه ، وهذا هو الظاهر .

والفواكه جمع الفاكهة وهي الثمار كلها رطبها ويابسها ، وخصص الفواكه بالذكر ; لأن أرزاق أهل الجنة كلها فواكه كذا قيل .

والأولى أن يقال : إن تخصيصها بالذكر لأنها أطيب ما يأكلونه وألذ ما تشتهيه أنفسهم .

وقيل : إن الفواكه من أتباع سائر الأطعمة ، فذكرها يغني عن ذكر غيرها ، وجملة وهم مكرمون في محل نصب على الحال أي : ولهم من الله - عز وجل - إكرام عظيم برفع درجاتهم عنده وسماع كلامه ولقائه في الجنة قرأ الجمهور مكرمون بتخفيف الراء . وقرأ أبو مقسم بتشديدها .

وقوله في جنات النعيم يجوز أن يتعلق بـ ( مكرمون ) وأن يكون خبرا ثانيا ، وأن يكون حالا .

وقوله : على سرر يحتمل أن يكون حالا ، وأن يكون خبرا ثالثا ، وانتصاب متقابلين على الحالية من الضمير في ( مكرمون ) ، أو من الضمير في متعلق : ( على سرر ) .

قال عكرمة ومجاهد : معنى التقابل أنه لا ينظر بعضهم في قفا بعض ، وقيل : إنها تدور بهم الأسرة كيف شاءوا فلا يرى بعضهم قفا بعض .

قرأ الجمهور ( سرر ) بضم الراء . وقرأ أبو السماك بفتحها ، وهي لغة بعض تميم .

ثم ذكر - سبحانه - صفة أخرى لهم فقال : يطاف عليهم بكأس من معين ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة جوابا عن سؤال مقدر ، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير ( متقابلين ) ، والكأس عند أهل اللغة اسم شامل لكل إناء فيه الشراب ، فإن كان فارغا فليس بكأس .

وقال الضحاك والسدي : كل كأس في القرآن فهي الخمر .

قال النحاس : وحكى من يوثق به من أهل اللغة أن العرب تقول للقدح إذا كان فيه خمر كأس ، فإذا لم يكن فيه خمر فهو قدح كما يقال : للخوان إذا كان عليه طعام مائدة ، فإذا لم يكن عليه طعام لم يقل له مائدة ، و ( من معين ) متعلق بمحذوف هو صفة ل ( كأس ) .

قال الزجاج : ( بكأس من معين ) أي : من خمر تجري كما تجري العيون على وجه الأرض ، والمعين الماء الجاري .

وقوله : بيضاء لذة للشاربين صفتان لكأس .

قال الزجاج أي : ذات لذة فحذف المضاف ، ويجوز أن يكون الوصف بالمصدر لقصد المبالغة في كونها لذة فلا يحتاج إلى تقدير المضاف .

قال الحسن : خمر الجنة أشد بياضا من اللبن له لذة لذيذة ، يقال : شراب لذ ولذيذ كما يقال : نبات غض وغضيض ، ومنه قول الشاعر :


بحديثها اللذ الذي لو كلمت     أسد الفلاة به أتين سراعا



واللذيذ : كل شيء مستطاب ، وقيل : البيضاء : هي التي لم يعتصرها الرجال .

ثم وصف هذه الكأس من الخمر بغير ما يتصف به خمر الدنيا ، فقال : لا فيها غول أي : لا تغتال عقولهم فتذهب بها ولا يصيبهم منها مرض ولا صداع ولا هم عنها ينزفون أي : يسكرون : يقال : نزف الشارب فهو منزوف ونزيف إذا سكر ، ومنه قول امرئ القيس :


وإذا هي تمشي كمشي النزي     ف يصرعه بالكثيب البهر



وقال أيضا :


نزيف إذا قامت لوجه تمايلت



ومنه قول الآخر :


فلثمت فاها آخذا بقرونها     شرب النزيف ببرد ماء الحشرج



قال الفراء : العرب تقول ليس فيها غيلة وغائلة وغول سواء .

وقال أبو عبيدة : الغول أن تغتال عقولهم ، وأنشد قول مطيع بن إياس :


وما زالت الكأس تغتالهم     وتذهب بالأول الأول



وقال الواحدي : الغول حقيقته الإهلاك ، يقال : غاله غولا واغتاله أي : أهلكه ، والغول كل ما اغتالك أي : أهلكك .

قرأ الجمهور ينزفون بضم الياء وفتح الزاي : مبنيا للمفعول .

وقرأ حمزة والكسائي بضم الياء وكسر الزاي : من أنزف الرجل : إذا ذهب عقله من السكر فهو نزيف ومنزوف ومنزف ، يقال : أحصد الزرع : إذا حان حصاده ، وأقطف الكرم : إذا حان قطافه .

قال الفراء : من كسر الزاي فله معنيان ، يقال : أنزف الرجل : إذا فنيت خمره ، وأنزف : إذا ذهب عقله من السكر ، وتحمل هذه القراءة على معنى لا ينفد شرابهم لزيادة الفائدة .

قال النحاس : والقراءة الأولى أبين وأصح في المعنى ، لأن معنى ( لا ينزفون ) عند جمهور المفسرين : لا تذهب عقولهم ، فنفى الله - عز وجل - عن خمر الجنة الآفات التي تلحق في الدنيا من خمرها من الصداع والسكر .

وقال الزجاج وأبو علي الفارسي معنى : " لا ينزفون " بكسر الزاي : لا يسكرون .

قال المهدوي : لا يكون معنى " ينزفون " يسكرون ، لأن قبله لا فيها غول أي : لا تغتال عقولهم فيكون تكريرا ، وهذا يقوي ما قاله قتادة : إن الغول وجع البطن وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد . وقال الحسن : إن الغول الصداع . وقال ابن كيسان : هو المغص ، فيكون معنى الآية : لا فيها نوع من أنواع الفساد المصاحبة لشرب الخمر في الدنيا من مغص أو وجع بطن أو صداع أو عربدة أو لغو أو تأثيم ولا هم يسكرون منها .

ويؤيد هذا أن أصل الغول الفساد الذي يلحق في خفاء ، يقال : اغتاله اغتيالا : إذا أفسد عليه أمره في خفية ، ومنه الغول والغيلة القتل خفية .

وقرأ ابن أبي إسحاق " ينزفون " بفتح الياء وكسر الزاي .

وقرأ طلحة بن مصرف بفتح الياء وضم الزاي .

ولما ذكر - سبحانه - صفة مشروبهم ذكر عقبه صفة منكوحهم فقال : [ ص: 1240 ] وعندهم قاصرات الطرف أي : نساء قصرن طرفهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم ، والقصر معناه الحبس ، ومنه قول امرئ القيس :


من القاصرات الطرف لو دب محول     من الذر فوق الإتب منها لأثرا



والمحول الصغير من الذر ، والإتب القميص ، وقيل : القاصرات : المحبوسات على أزواجهن ، والأول أولى لأنه قال : ( قاصرات الطرف ) ، ولم يقل " مقصورات " .

والعين عظام العيون جمع عيناء وهي الواسعة العين .

قال الزجاج : معنى عين كبار الأعين حسانها . وقال مجاهد : العين حسان العيون .

وقال الحسن : هن الشديدات بياض العين الشديدات سوادها ، والأول أولى .

كأنهن بيض مكنون قال الحسن وأبو زيد : شبههن ببيض النعام تكمنها النعامة بالريش من الريح والغبار .

فلونه أبيض في صفرة ، وهو أحسن ألوان النساء .

وقال سعيد بن جبير والسدي : شبههن ببطن البيض قبل أن يقشر وتمسه الأيدي وبه قال ابن جرير ، ومنه قول امرئ القيس :


وبيضة خدر لا يرام خباؤها     تمتعت من لهو بها غير معجل



قال المبرد : وتقول العرب إذا وصفت الشيء بالحسن والنظافة كأنه بيض النعام المغطى بالريش .

وقيل : المكنون : المصون عن الكسر أي : إنهن عذارى ، وقيل : المراد بالبيض اللؤلؤ كما في قوله : وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون [ الواقعة : 22 ، 23 ] ومثله قول الشاعر :


وهي بيضاء مثل لؤلؤة الغوا     ص ميزت من جوهر مكنون



والأول أولى ، وإنما قال ( مكنون ) ولم يقل : مكنونات ، لأنه وصف البيض باعتبار اللفظ .

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : احشروا الذين ظلموا وأزواجهم قال : تقول الملائكة للزبانية هذا القول .

وأخرج ، عبد الرزاق ، والفريابي ، وابن أبي شيبة ، وابن منيع في مسنده ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث من طريق النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب في قوله : احشروا الذين ظلموا وأزواجهم قال : أمثالهم الذين هم مثلهم : يجيء أصحاب الربا مع أصحاب الربا ، وأصحاب الزنى مع أصحاب الزنى ، وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر ، أزواج في الجنة ، وأزواج في النار .

وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله : احشروا الذين ظلموا وأزواجهم قال : أشباههم ، وفي لفظ : نظراءهم .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : فاهدوهم إلى صراط الجحيم قال : وجهوهم وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية قال : دلوهم إلى صراط الجحيم قال : طريق النار .

وأخرج عنه أيضا في قوله : وقفوهم إنهم مسئولون قال : احبسوهم إنهم محاسبون .

وأخرج البخاري في تاريخه والدارمي ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ما من داع دعا إلى شيء إلا كان موقوفا معه يوم القيامة لازما به لا يفارقه وإن دعا رجل رجلا ، ثم قرأ وقفوهم إنهم مسئولون وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قال : ذلك إذا بعثوا في النفخة الثانية .

وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه في قوله : كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون قال : كانوا إذا لم يشرك بالله يستنكفون ، ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون لا يعقل ، قال : فحكى الله صدقه فقال : بل جاء بالحق وصدق المرسلين .

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله .

وأنزل الله في كتابه وذكر قوما استكبروا ، فقال : إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ، وقال : إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها [ الفتح : 26 ] وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله استكبر عنها المشركون يوم الحديبية يوم كاتبهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على قضية المدة .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله : يطاف عليهم بكأس من معين قال : الخمر لا فيها غول قال ليس فيها صداع ولا هم عنها ينزفون قال : لا تذهب عقولهم .

وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه قال في الخمر أربع خصال : السكر والصداع والقيء والبول ، فنزه الله خمر الجنة عنها ، فقال : لا فيها غول لا تغول عقولهم من السكر ولا هم عنها ينزفون قال : يقيئون عنها كما يقيء صاحب خمر الدنيا عنها .

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس لا فيها غول قال : هي الخمر ليس فيها وجع بطن .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث عنه أيضا في قوله : وعندهم قاصرات الطرف يقول : من غير أزواجهن كأنهن بيض مكنون قال : اللؤلؤ المكنون .

وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : كأنهن بيض مكنون قال : بياض البيضة ينزع عنها فوفها وغشاؤها .

التالي السابق


الخدمات العلمية