فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
[ ص: 1266 ] واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب ( 41 ) اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ( 42 ) ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب ( 43 ) وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب ( 44 ) واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار ( 45 ) إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ( 46 ) وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ( 47 ) واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار ( 48 ) هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب ( 49 ) جنات عدن مفتحة لهم الأبواب ( 50 ) متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب ( 51 ) وعندهم قاصرات الطرف أتراب ( 52 ) هذا ما توعدون ليوم الحساب ( 53 ) إن هذا لرزقنا ما له من نفاد ( 54 )

قوله : واذكر عبدنا أيوب معطوف على قوله واذكر عبدنا داود [ ص : 17 ] وأيوب عطف بيان ، و إذ نادى ربه بدل اشتمال من ( عبدنا ) أني مسني الشيطان قرأ الجمهور بفتح الهمزة على أنه حكاية لكلامه الذي نادى ربه به ، ولو لم يحكه لقال : إنه مسه . وقرأ عيسى بن عمر بكسرها على إضمار القول .

وفي قصة أيوب إرشاد لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى الاقتداء به في الصبر على المكاره .

قرأ الجمهور بضم النون من قوله : بنصب وسكون الصاد ، فقيل : هو جمع نصب بفتحتين نحو أسد وأسد ، وقيل : هو لغة في النصب ، نحو رشد ورشد .

وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة وحفص ونافع في رواية عنه بضمتين ، ورويت هذه القراءة عن الحسن .

وقرأ أبو حيوة ويعقوب وحفص في رواية بفتح وسكون ، وهذه القراءات كلها بمعنى واحد ، وإنما اختلفت القراءات باختلاف اللغات .

وقال أبو عبيدة : إن النصب بفتحتين : التعب والإعياء ، وعلى بقية القراءات الشر والبلاء ، ومعنى قوله : وعذاب أي : ألم .قال قتادة ومقاتل : النصب في الجسد ، والعذاب في المال . قال النحاس وفيه بعد كذا قال . والأولى تفسير النصب بالمعنى اللغوي وهو التعب والإعياء ، وتفسير العذاب بما يصدق عليه مسمى العذاب وهو الألم ، وكلاهما راجع إلى البدن .

اركض برجلك هو بتقدير القول أي : قلنا له : اركض برجلك كذا قال الكسائي : والركض الدفع بالرجل ، يقال : ركض الدابة برجله : إذا ضربها بها .

وقال المبرد : الركض التحريك . قال الأصمعي : يقال : ركضت الدابة ، ولا يقال : ركضت هي ، لأن الركض إنما هو تحريك راكبها رجليه ، ولا فعل لها في ذلك ، وحكى سيبويه : ركضت الدابة فركضت ، مثل جبرت العظم فجبر هذا مغتسل بارد وشراب هذا أيضا من مقول القول المقدر : المغتسل هو الماء الذي يغتسل به ، والشراب الذي يشرب منه . وقيل : إن المغتسل هو المكان الذي يغتسل فيه . قال قتادة : هما عينان بأرض الشام في أرض يقال : لها الجابية فاغتسل من إحداهما فأذهب الله ظاهر دائه ، وشرب من الأخرى فأذهب الله باطن دائه ، وكذا قال الحسن .

وقال مقاتل نبعت عين جارية فاغتسل فيها فخرج صحيحا ، ثم نبعت عين أخرى فشرب منها ماء عذبا باردا .

وفي الكلام حذف ، والتقدير : فركض برجله فنبعت عين ، فقلنا له هذا مغتسل إلخ ، وأسند المس إلى الشيطان مع أن الله - سبحانه - هو الذي مسه بذلك : إما لكونه لما عمل بوسوسته عوقب على ذلك بذلك النصب والعذاب .

فقد قيل : إنه أعجب بكثرة ماله ، وقيل : استغاثه مظلوم فلم يغثه ، وقيل : إنه قال ذلك على طريقة الأدب ، وقيل : إنه قال ذلك لأن الشيطان وسوس إلى أتباعه ، فرفضوه وأخرجوه من ديارهم ، وقيل المراد به : ما كان يوسوسه الشيطان إليه حال مرضه وابتلائه من تحسين الجزع وعدم الصبر على المصيبة ، وقيل غير ذلك .

وقوله : ووهبنا له أهله معطوف على مقدر كأنه قيل : فاغتسل وشرب ، فكشفنا بذلك ما به من ضر ووهبنا له أهله .

قيل : أحياهم الله بعد أن أماتهم : وقيل : جمعهم بعد تفرقهم ، وقيل : غيرهم مثلهم ، ثم زاده مثلهم معهم ، وهو معنى قوله : ومثلهم معهم فكانوا مثلما كانوا من قبل ابتلائه ، وانتصاب قوله : رحمة منا وذكرى لأولي الألباب على أنه مفعول لأجله أي : وهبناهم له لأجل رحمتنا إياه ، وليتذكر بحاله أولو الألباب فيصبروا على الشدائد كما صبر ، وقد تقدم في سورة الأنبياء تفسير هذه الآية مستوفى فلا نعيده .

وخذ بيدك ضغثا معطوف على اركض ، أو على وهبنا ، أو التقدير وقلنا له و وخذ بيدك ضغثا والضغث : عثكال النخل بشماريخه ، وقيل : هو قبضة من حشيش مختلط رطبها بيابسها وقيل : الحزمة الكبيرة من القضبان وأصل المادة تدل على جمع المختلطات .

قال الواحدي : الضغث ملء الكف من الشجر والحشيش والشماريخ فاضرب به ولا تحنث أي : اضرب بذلك الضغث ولا تحنث في يمينك ، والحنث : الإثم ، ويطلق على فعل ما حلف على تركه ، وكان أيوب قد حلف في مرضه أن يضرب امرأته مائة جلدة .

واختلف في سبب ذلك ، فقال سعيد بن المسيب أنها جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه به من الخبز فخاف خيانتها فحلف ليضربنها . وقال يحيى بن سلام ، وغيره : إن الشيطان أغواها أن تحمل أيوب على أن يذبح سخلة تقربا إليه ، فإنه إذا فعل ذلك برئ ، فحلف ليضربنها إن عوفي مائة جلدة . وقيل : باعت ذؤابتها برغيفين إذ لم تجد شيئا وكان أيوب يتعلق بها إذا أراد القيام ، فلهذا حلف ليضربنها .

وقيل : جاءها إبليس في صورة طبيب فدعته لمداواة أيوب ، فقال أداويه على أنه إذا برئ قال : أنت شفيتني ، لا أريد جزاء سواه ، قالت : نعم ، فأشارت على أيوب بذلك فحلف ليضربنها .

وقد اختلف العلماء هل هذا خاص بأيوب أو عام للناس كلهم ؟ وأن من حلف خرج من يمينه بمثل ذلك .

قال الشافعي : إذا حلف ليضربن فلانا مائة جلدة أو ضربا ولم يقل ضربا شديدا ولم ينو بقلبه فيكفيه مثل هذا الضرب المذكور في الآية ، حكاه ابن المنذر عنه وعن أبي ثور وأصحاب الرأي .

وقال عطاء : هو خاص بأيوب ورواه ابن القاسم عن مالك .

ثم أثنى الله - سبحانه - على أيوب فقال : إنا وجدناه صابرا [ ص: 1267 ] أي : على البلاء الذي ابتليناه به ، فإنه ابتلي بالداء العظيم في جسده وذهاب ماله وأهله وولده فصبر نعم العبد أي : أيوب إنه أواب أي : رجاع إلى الله بالاستغفار والتوبة .

واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب قرأ الجمهور عبادنا بالجمع . وقرأ ابن عباس ومجاهد وحميد وابن محيصن وابن كثير " عبدنا " بالإفراد .

فعلى قراءة الجمهور يكون إبراهيم وإسحاق ويعقوب عطف بيان ، وعلى القراءة الأخرى يكون إبراهيم عطف بيان ، وما بعده عطف على " عبدنا " لا على إبراهيم .

وقد يقال : لما كان المراد بعبدنا الجنس جاز إبدال الجماعة منه .

وقيل : إن إبراهيم وما بعده بدل ، أو النصب بإضمار أعني وعطف البيان أظهر ، وقراءة الجمهور أبين وقد اختارها أبو عبيد وأبو حاتم أولي الأيدي والأبصار الأيدي ، جمع اليد التي بمعنى القوة والقدرة . قال قتادة : أعطوا قوة في العبادة ونصرا في الدين . قال الواحدي : وبه قال مجاهد وسعيد بن جبير والمفسرون . قال النحاس : أما الأبصار فمتفق على أنها البصائر في الدين والعلم . وأما الأيدي فمختلف في تأويلها ، فأهل التفسير يقولون إنها القوة في الدين ، وقوم يقولون : الأيدي جمع يد وهي النعمة أي : هم أصحاب النعم أي : الذين أنعم الله - عز وجل - عليهم ، وقيل : هم أصحاب النعم على الناس والإحسان إليهم ، لأنهم قد أحسنوا وقدموا خيرا ، واختار هذا ابن جرير .

قرأ الجمهور أولي الأيدي بإثبات الياء في الأيدي . وقرأ ابن مسعود ، والأعمش ، والحسن وعيسى الأيد بغير ياء ، فقيل : معناها معنى القراءة الأولى ، وإنما حذفت الياء لدلالة كسرة الدال عليها ، وقيل : الأيد : القوة .

وجملة إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار تعليل لما وصفوا به .

قرأ الجمهور بخالصة بالتنوين وعدم الإضافة على أنها مصدر بمعنى الإخلاص ، فيكون ( ذكرى ) منصوبا به ، أو بمعنى الخلوص فيكون ( ذكرى ) مرفوعا به ، أو يكون " خالصة " اسم فاعل على بابه ، و ( ذكرى ) بدل منها ، أو بيان لها ، أو بإضمار أعني ، أو مرفوعة بإضمار مبتدأ ، و ( الدار ) يجوز أن تكون مفعولا به ل ( ذكرى ) ، وأن تكون ظرفا : إما على الاتساع ، أو على إسقاط الخافض ، وعلى كل تقدير ف " خالصة " صفة لموصوف محذوف والباء للسببية أي : بسبب خصلة خالصة .

وقرأ نافع وشيبة وأبو جعفر وهشام عن ابن عامر بإضافة " خالصة " إلى ( ذكرى ) على أن الإضافة للبيان ، لأن الخالصة تكون ذكرى وغير ذكرى ، أو على أن " خالصة " مصدر مضاف إلى مفعوله والفاعل محذوف .

أي : بأن أخلصوا ذكرى الدار ، أو مصدر بمعنى الخلوص مضافا إلى فاعله .

قال مجاهد : معنى الآية استصفيناهم بذكر الآخرة فأخلصناهم بذكرها . وقال قتادة : كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله . وقال السدي : أخلصوا بخوف الآخرة .

قال الواحدي : فمن قرأ بالتنوين في خالصة كان المعنى : جعلناهم لنا خالصين بأن خلصت لهم ذكرى الدار ، والخالصة مصدر بمعنى الخلوص والذكرى بمعنى التذكر أي : خلص لهم تذكر الدار ، وهو أنهم يذكرون التأهب له ويزهدون في الدنيا ، وذلك من شأن الأنبياء .

وأما من أضاف فالمعنى : أخلصنا لهم بأن خلصت لهم ذكرى الدار ، والخالصة مصدر مضاف إلى الفاعل ، والذكرى على هذا المعنى الذكر .

وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار الاصطفاء : الاختيار ، والأخيار جمع خير بالتشديد والتخفيف كأموات في جمع ميت مشددا ومخففا ، والمعنى : إنهم عندنا لمن المختارين من أبناء جنسهم من الأخيار .

واذكر إسماعيل قيل : وجه إفراده بالذكر بعد ذكر أبيه وأخيه وابن أخيه للإشعار بأنه عريق في الصبر الذي هو المقصود بالتذكير هنا واليسع وذا الكفل قد تقدم ذكر اليسع ، والكلام فيه في الأنعام ، وتقدم ذكر ذي الكفل والكلام فيه في سورة الأنبياء ، والمراد من ذكر هؤلاء أنهم من جملة من صبر من الأنبياء وتحملوا الشدائد في دين الله .

أمر الله رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - بأن يذكرهم ليسلك مسلكهم في الصبر وكل من الأخيار يعني الذين اختارهم الله لنبوته واصطفاهم من خلقه .

هذا ذكر الإشارة إلى ما تقدم من ذكر أوصافهم أي : هذا ذكر جميل في الدنيا وشرف يذكرون به أبدا وإن للمتقين لحسن مآب أي : لهم مع هذا الذكر الجميل حسن مآب في الآخرة ، والمآب : المرجع ، والمعنى : أنهم يرجعون في الآخرة إلى مغفرة الله ورضوانه ونعيم جنته .

ثم بين حسن المرجع فقال : جنات عدن قرأ الجمهور جنات بالنصب بدلا من " حسن مآب " ، سواء كان ( جنات عدن ) معرفة أو نكرة لأن المعرفة تبدل من النكرة وبالعكس ، ويجوز أن يكون ( جنات ) عطف بيان إن كانت نكرة ، ولا يجوز ذلك فيها إن كانت معرفة على مذهب جمهور النحاة وقد جوزه بعضهم . ويجوز أن يكون نصب ( جنات ) بإضمار فعل . والعدن في الأصل الإقامة ، يقال : عدن بالمكان : إذا أقام فيه وقيل : هو اسم لقصر في الجنة ، وقرئ برفع ( جنات ) على أنها مبتدأ . وخبرها ( مفتحة ) أو على أنها خبر مبتدأ محذوف أي : هن جنات عدن ، وقوله : مفتحة لهم الأبواب حال من ( جنات ) ، والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل ، و ( الأبواب ) مرتفعة باسم المفعول : كقوله : وفتحت أبوابها [ الزمر : 73 ] والرابط بين الحال وصاحبها ضمير مقدر ، أي : منها ، أو الألف واللام لقيامه مقام الضمير ، إذ الأصل أبوابها .

وقيل : إن ارتفاع الأبواب على البدل من الضمير في " مفتحة " العائد على ( جنات ) ، وبه قال أبو علي الفارسي أي : مفتحة هي الأبواب .

قال الفراء : المعنى مفتحة أبوابها ، والعرب تجعل الألف واللام خلفا من الإضافة . وقال الزجاج : المعنى مفتحة لهم الأبواب منها . قال الحسن : إن الأبواب يقال لها : انفتحي فتنفتح انغلقي فتنغلق ، وقيل : تفتح لهم الملائكة الأبواب . وانتصاب متكئين فيها على الحال من ضمير ( لهم ) ، والعامل فيه ( مفتحة ) ، وقيل : هو حال من يدعون قدمت على العامل فيها أي : يدعون في الجنات حال كونهم متكئين فيها بفاكهة كثيرة أي : بألوان متعددة متكثرة [ ص: 1268 ] من الفواكه وشراب كثير فحذف " كثيرا " لدلالة الأول عليه ، وعلى جعل " متكئين " حالا من ضمير ( لهم ) ، والعامل فيه ( مفتحة ) ، فتكون جملة ( يدعون ) مستأنفة لبيان حالهم .

وقيل : إن ( يدعون ) في محل نصب على الحال من ضمير ( متكئين ) .

وعندهم قاصرات الطرف أتراب أي : قاصرات طرفهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم ، وقد مضى بيانه في سورة الصافات .

والأتراب : المتحدات في السن ، أو المتساويات في الحسن .

وقال مجاهد : معنى ( أتراب ) أنهن متواخيات لا يتباغضن ولا يتغايرن . وقيل : أترابا للأزواج . والأتراب جمع ترب ، واشتقاقه من التراب لأنه يمسهن في وقت واحد لاتحاد مولدهن . هذا ما توعدون ليوم الحساب أي : هذا الجزاء الذي وعدتم به لأجل يوم الحساب ، فإن الحساب علة للوصول إلى الجزاء ، أو المعنى في يوم الحساب .

وقرأ الجمهور ما توعدون بالفوقية على الخطاب . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن ويعقوب بالتحتية على الخبر ، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لقوله " وإن للمتقين " فإنه خبر .

إن هذا لرزقنا أي : إن هذا المذكور من النعم والكرامات لرزقنا الذي أنعمنا به عليكم ما له من نفاد أي : انقطاع ولا يفنى أبدا ، ومثله قوله : عطاء غير مجذوذ [ هود : 108 ] فنعم الجنة لا تنقطع عن أهلها .

وقد أخرج أحمد في الزهد ، وابن أبي حاتم ، وابن عساكر عن ابن عباس قال : إن الشيطان عرج إلى السماء ، فقال : يا رب سلطني على أيوب ، قال الله : لقد سلطتك على ماله وولده ولم أسلطك على جسده ، فنزل فجمع جنوده ، فقال لهم : قد سلطت على أيوب فأروني سلطانكم ، فصاروا نيرانا ثم صاروا ماء ، فبينما هم في المشرق إذا هم بالمغرب ، وبينما هم بالمغرب إذا هم بالمشرق .

فأرسل طائفة منهم إلى زرعه ، وطائفة إلى أهله ، وطائفة إلى بقره ، وطائفة إلى غنمه وقال : إنه لا يعتصم منكم إلا بالمعروف ، فأتوه بالمصائب بعضها على بعض ، فجاء صاحب الزرع فقال : يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل على زرعك نارا فأحرقته ؟ ثم جاء صاحب الإبل ، فقال ، يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل إلى إبلك عدوا فذهب بها ؟ ثم جاء صاحب البقر ، فقال ، يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل إلى بقرك عدوا فذهب بها ثم جاءه صاحب الغنم فقال : يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل على غنمك عدوا فذهب بها ؟ وتفرد هو لبنيه فجمعهم في بيت أكبرهم ، فبينما هم يأكلون ويشربون إذ هبت ريح فأخذت بأركان البيت فألقته عليهم ، فجاء الشيطان إلى أيوب بصورة غلام بأذنيه قرطان ، فقال : يا أيوب ألم تر إلى ربك جمع بنيك في بيت أكبرهم ، فبينما هم يأكلون ويشربون إذ هبت عليهم ريح فأخذت بأركان البيت فألقته عليهم ، فلو رأيتهم حين اختلطت دماؤهم ولحومهم بطعامهم وشرابهم ؟ فقال له أيوب : فأين كنت ؟ قال : كنت معهم ، قال : فكيف انفلت ؟ قال : انفلت ، قال أيوب : أنت الشيطان ، ثم قال أيوب : أنا اليوم كيوم ولدتني أمي ، فقام فحلق رأسه وقام يصلي ، فرن إبليس رنة سمعها أهل السماء وأهل الأرض ، ثم عرج إلى السماء فقال : أي رب إنه قد اعتصم ، فسلطني عليه فإني لا أستطيعه إلا بسلطانك ، قال : قد سلطتك على جسده ولم أسلطك على قلبه ، فنزل فنفخ تحت قدمه نفخة قرح ما بين قدميه إلى قرنه ، فصار قرحة واحدة ، وألقي على الرماد حتى بدا حجاب قلبه ، فكانت امرأته تسعى عليه ، حتى قالت له : ألا ترى ياأيوب قد نزل والله بي من الجهد والفاقة ما إن بعت قروني برغيف فأطعمتك فادع الله أن يشفيك ويريحك قال : ويحك كنا في النعيم سبعين عاما فاصبري حتى نكون في الضراء سبعين عاما ، فكان في البلاء سبع سنين ودعا فجاء جبريل يوما فدعا بيده ، ثم قال : قم ، فقام فنحاه عن مكانه وقال : اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فركض برجله فنبعت عين ، فقال : اغتسل ، فاغتسل منها ، ثم جاء أيضا فقال : اركض برجلك فنبعت عين أخرى فقال له : اشرب منها ، وهو قوله : اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب وألبسه الله حلة من الجنة ، فتنحى أيوب فجلس في ناحية وجاءت امرأته فلم تعرفه ، فقالت : يا عبد الله أين المبتلى الذي كان هاهنا ؟ لعل الكلاب قد ذهبت به أو الذئاب ، وجعلت تكلمه ساعة ، فقال : ويحك أنا أيوب قد رد الله علي جسدي ، ورد عليه ماله وولده عيانا ومثلهم معهم ، وأمطر عليه جرادا من ذهب ، فجعل يأخذ الجراد بيده ثم يجعله في ثوبه وينشر كساءه ويأخذه فيجعل فيه ، فأوحى الله إليه : يا أيوب أما شبعت ؟ قال : يا رب من ذا الذي يشبع من فضلك ورحمتك .

وفي هذا نكارة شديدة فإن الله - سبحانه - لا يمكن الشيطان من نبي من أنبيائه ويسلط عليه هذا التسليط العظيم .

وأخرج أحمد في الزهد ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، وابن عساكر عن ابن عباس قال : إن إبليس قعد على الطريق وأخذ تابوتا يداوي الناس ، فقالت امرأة أيوب : يا عبد الله إن هاهنا مبتلى من أمره كذا وكذا فهل لك أن تداويه قال : نعم بشرط إن أنا شفيته أن يقول : أنت شفيتني لا أريد منه أجرا غيره .

فأتت أيوب فذكرت له ذلك ، فقال : ويحك ذاك الشيطان ، لله علي إن شفاني الله أن أجلدك مائة جلدة ، فلما شفاه الله أمره أن يأخذ ضغثا فيضربها به ، فأخذ عذقا فيه مائة شمراخ فضربها ضربة واحدة .

وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عنه في قوله : وخذ بيدك ضغثا قال : هو الأسل . وأخرج ابن المنذر عنه أيضا قال : الضغث القبض من المرعى الرطب . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عنه أيضا قال : الضغث الحزمة .

وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير والطبراني وابن عساكر من طريق أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال : حملت وليدة في بني ساعدة من زنى ، فقيل لها : ممن حملك ؟ قالت : من فلان المقعد ، فسئل المقعد فقال : صدقت ، فرفع ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال : خذوا عثكولا فيه مائة شمراخ فاضربوه به [ ص: 1269 ] ضربة واحدة .

وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير والطبراني وابن عساكر نحوه من طريق أخرى عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن سعيد بن سعد بن عبادة . وأخرج الطبراني عن سهل بن سعد نحوه .

وأخرج ابن عساكر عن ابن مسعود قال : 1 أيوب رأس الصابرين يوم القيامة .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن مسعود في قوله : أولي الأيدي قال : القوة في العبادة والأبصار قال : الفقه في الدين .

وأخرج ابن أبي حاتم عنه : أولي الأيدي قال : النعمة .

وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار قال : أخلصوا بذكر دار الآخرة أن يعملوا لها .

التالي السابق


الخدمات العلمية