فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
تفسير سورة الزمر

وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وجابر بن زيد . وأخرج ابن الضريس ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : أنزلت سورة الزمر بمكة .

وأخرج النحاس في ناسخه عنه قال : نزلت بمكة سورة الزمر سوى ثلاثة آيات نزلن بالمدينة في وحشي قاتل حمزة ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم [ الزمر : 53 - 55 ] الثلاث الآيات .

وقال آخرون : إلى سبع آيات من قوله : قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم [ الزمر : 53 - 59 ] إلى آخر السبع .

وأخرج النسائي عن عائشة قالت " كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يصوم حتى نقول ما يريد أن يفطر ، ويفطر حتى نقول ما يريد أن يصوم ، وكان يقرأ في كل ليلة بني إسرائيل والزمر " .

وأخرجه الترمذي عنها بلفظ : " كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - [ ص: 1274 ] لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل " .

بسم الله الرحمن الرحيم

تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ( 1 ) إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ( 2 ) ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ( 3 ) لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار ( 4 ) خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار ( 5 ) خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون ( 6 )

قوله : تنزيل الكتاب ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف هو اسم إشارة أي : هذا تنزيل .

وقال أبو حيان إن المبتدأ المقدر لفظ " هو " ليعود على قوله : إن هو إلا ذكر للعالمين [ ص : 87 ] ، كأنه قيل : وهذا الذكر ما هو ؟ فقيل : هو تنزيل الكتاب ، وقيل : ارتفاعه على أنه مبتدأ وخبره الجار والمجرور بعده أي : تنزيل كائن من الله ، وإلى هذا ذهب الزجاج والفراء .

قال الفراء : ويجوز أن يكون مرفوعا بمعنى هذا تنزيل ، وأجاز الفراء والكسائي النصب على أنه مفعول به لفعل مقدر أي : اتبعوا أو اقرءوا تنزيل الكتاب .

وقال الفراء : يجوز نصبه على الإغراء أي : الزموا ، والكتاب هو القرآن ، وقوله : من الله العزيز الحكيم على الوجه الأول صلة للتنزيل ، أو خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو متعلق بمحذوف على أنه حال عمل فيه اسم الإشارة المقدر .

إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق الباء سببية متعلقة بالإنزال أي : أنزلناه بسبب الحق ، ويجوز أن تتعلق بمحذوف هو حال من الفاعل أي : متلبسين بالحق ، أو من المفعول أي : متلبسا بالحق ، والمراد كل ما فيه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وأنواع التكاليف .

قال مقاتل : يقول : لم ننزله باطلا لغير شيء .

فاعبد الله مخلصا له الدين الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، وانتصاب ( مخلصا ) على الحال من فاعل " اعبد " ، والإخلاص أن يقصد العبد بعمله وجه الله - سبحانه - ، والدين العبادة والطاعة ، ورأسها توحيد الله وأنه لا شريك له .

قرأ الجمهور " الدين " بالنصب على أنه مفعول ( مخلصا ) .

وقرأ ابن أبي عبلة برفعه على أن ( مخلصا ) مسند إلى ( الدين ) على طريقة المجاز .

قيل : وكان عليه أن يقرأ ( مخلصا ) بفتح اللام .

وفي الآية دليل على وجوب النية وإخلاصها عن الشوائب ; لأن الإخلاص من الأمور القلبية التي لا تكون إلا بأعمال القلب ، وقد جاءت السنة الصحيحة أن ملاك الأمر في الأقوال والأفعال النية ، كما في حديث إنما الأعمال بالنيات ، وحديث لا قول ولا عمل إلا بنية .

وجملة ألا لله الدين الخالص مستأنفة مقررة لما قبلها من الأمر بالإخلاص أي : إن الدين الخالص من شوائب الشرك وغيره هو لله ، وما سواه من الأديان فليس بدين الله الخالص الذي أمر به .

قال قتادة : الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله . والذين اتخذوا من دونه أولياء لما أمر - سبحانه - بعبادته على وجه الإخلاص وأن الدين الخالص له لا لغيره بين بطلان الشرك الذي هو مخالف للإخلاص والموصول عبارة عن المشركين ، ومحله الرفع على الابتداء ، وخبره قوله إن الله يحكم بينهم ، وجملة ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى في محل نصب على الحال بتقدير القول ، والاستثناء مفرغ من أعم العلل ، والمعنى : والذين لم يخلصوا العبادة لله ، بل شابوها بعبادة غيره قائلين : ما نعبدهم لشيء من الأشياء إلا ليقربونا إلى الله تقريبا والضمير في ( نعبدهم ) راجع إلى الأشياء التي كانوا يعبدونها من الملائكة وعيسى والأصنام ، وهم المرادون بالأولياء . والمراد بقولهم : إلا ليقربونا إلى الله زلفى الشفاعة ، كما حكاه الواحدي عن المفسرين .

قال قتادة : كانوا إذا قيل لهم : من ربكم وخالقكم ومن خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء ؟ قالوا : الله ، فيقال لهم : ما معنى عبادتكم للأصنام ؟ قالوا : ليقربونا إلى الله زلفى ويشفعوا لنا عنده .

قال الكلبي : جواب هذا الكلام قوله في سورة الأحقاف : فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة [ الأحقاف : 28 ] ، والزلفى اسم أقيم مقام المصدر ، كأنه قال : إلا ليقربونا إلى الله تقريبا .

وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس ومجاهد " قالوا ما نعبدهم " ومعنى إن الله يحكم بينهم أي : بين أهل الأديان يوم القيامة فيجازي كلا بما يستحقه ، وقيل : بين المخلصين للدين وبين الذين لم يخلصوا ، وحذف الأول لدلالة الحالة عليه ، ومعنى في ما هم فيه يختلفون في الذي اختلفوا فيه من الدين بالتوحيد والشرك ، فإن كل طائفة تدعي أن الحق معها إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار أي : لا يرشد لدينه ولا يوفق للاهتداء إلى الحق من هو كاذب في زعمه أن الآلهة تقربه إلى الله وكفر باتخاذها آلهة وجعلها شركاء لله ، والكفار صيغة مبالغة تدل على أن كفر هؤلاء قد بلغ إلى الغاية .

وقرأ الحسن والأعرج " كذاب " على صيغة المبالغة ككفار ، ورويت هذه القراءة عن أنس .

لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى هذا مقرر لما سبق من إبطال قول المشركين بأن الملائكة بنات الله لتضمنه استحالة الولد في حقه - سبحانه - على الإطلاق ، فلو أراد أن يتخذ ولدا لامتنع اتخاذ الولد حقيقة ولم يتأت ذلك إلا بأن يصطفي مما يخلق ما يشاء أي : يختار من جملة خلقه ما يشاء أن يصطفيه ، إذ لا موجود سواه إلا وهو مخلوق له ، ولا يصح أن يكون المخلوق ولدا للخالق لعدم المجانسة بينهما ، فلم يبق إلا أن يصطفيه عبدا كما يفيده التعبير بالاصطفاء مكان [ ص: 1275 ] الاتخاذ ، فمعنى الآية : لو أراد أن يتخذ ولدا لوقع منه شيء ليس هو من اتخاذ الولد ، بل إنما هو من الاصطفاء لبعض مخلوقاته ، ولهذا نزه - سبحانه - نفسه عن اتخاذ الولد على الإطلاق فقال : سبحانه أي : تنزيها له عن ذلك ، وجملة هو الله الواحد القهار مبينة لتنزهه بحسب الصفات بعد تنزهه بحسب الذات أي : هو المستجمع لصفات الكمال المتوحد في ذاته فلا مماثل له القهار لكل مخلوقاته ، ومن كان متصفا بهذه الصفات استحال وجود الولد في حقه . لأن الولد مماثل لوالده ولا مماثل له - سبحانه - ، ومثل هذه الآية قوله - سبحانه - لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا [ الأنبياء : 17 ] .

ثم لما ذكر - سبحانه - كونه منزها عن الولد بكونه إلها واحدا قهارا ذكر ما يدل على ذلك من صفاته فقال : خلق السماوات والأرض بالحق أي : لم يخلقهما باطلا لغير شيء ، ومن كان هذا الخلق العظيم خلقه استحال أن يكون له شريك أو صاحبة أو ولد .

ثم بين كيفية تصرفه في السماوات والأرض فقال يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل التكوير في اللغة طرح الشيء بعضه على بعض . يقال : كور المتاع : إذا ألقى بعضه على بعض ، ومنه كور العمامة ، فمعنى تكوير الليل على النهار تغشيته إياه حتى يذهب ضوءه ، ومعنى تكوير النهار على الليل : تغشيته إياه حتى تذهب ظلمته ، وهو معنى قوله - تعالى - : يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا [ الأعراف : 54 ] هكذا قال قتادة وغيره .

وقال الضحاك أي : يلقي هذا على هذا ، وهذا على هذا ، وهو مقارب للقول الأول .

وقيل : معنى الآية : أن ما نقص من الليل دخل في النهار ، وما نقص من النهار دخل في الليل ، وهو معنى قوله : يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل [ فاطر : 13 والحديد : 6 ] وقيل : المعنى : إن هذا يكر على هذا وهذا يكر على هذا كرورا متتابعا .

قال الراغب : تكوير الشيء إدارته وضم بعضه إلى بعض ك : كور العمامة اهـ .

والإشارة بهذا التكوير المذكور في الآية إلى جريان الشمس في مطالعها وانتقاص الليل والنهار وازديادهما .

قال الرازي : إن النور والظلمة عسكران عظيمان ، وفي كل يوم يغلب هذا ذاك ، وذاك هذا ، ثم ذكر تسخيره لسلطان النهار وسلطان الليل ، وهما الشمس والقمر فقال : وسخر الشمس والقمر أي : جعلهما منقادين لأمره بالطلوع والغروب لمنافع العباد ، ثم بين كيفية هذا التسخير فقال : كل يجري لأجل مسمى أي : يجري في فلكه إلى أن تنصرم الدنيا ، وذلك يوم القيامة وقد تقدم الكلام على الأجل المسمى لجريهما مستوفى في سورة يس ألا هو العزيز الغفار ألا حرف تنبيه ، والمعنى : تنبهوا أيها العباد ، فالله هو الغالب الساتر لذنوب خلقه بالمغفرة .

ثم بين - سبحانه - نوعا آخر من قدرته وبديع صنعه ، فقال : خلقكم من نفس واحدة وهي نفس آدم ثم جعل منها زوجها جاء بـ : ( ثم ) للدلالة على ترتيب خلق حواء على خلق آدم ، وتراخيه عنه ; لأنها خلقت منه ، والعطف : إما على مقدر هو صفة لنفس .

قال الفراء والزجاج التقدير : خلقكم من نفس خلقها واحدة ثم جعل منها زوجها .

ويجوز أن يكون العطف على معنى ( واحدة ) أي : من نفس انفردت ثم جعل إلخ ، والتعبير بالجعل دون الخلق مع العطف بـ : ( ثم ) للدلالة على أن خلق حواء من ضلع آدم أدخل في كونه آية باهرة دالة على كمال القدرة ، لأن خلق آدم هو على عادة الله المستمرة في خلقه ، وخلقها على الصفة المذكورة لم تجر به عادة لكونه لم يخلق - سبحانه - أنثى من ضلع رجل غيرها ، وقد تقدم تفسير هذه الآية مستوفى في سورة الأعراف .

ثم بين - سبحانه - نوعا آخر من قدرته الباهرة فقال : وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج وهو معطوف على ( خلقكم ) ، وعبر بالإنزال لما يروى أنه خلقها في الجنة ثم أنزلها ، فيكون الإنزال حقيقة ، ويحتمل أن يكون مجازا لأنها لم تعش إلا بالنبات ، والنبات إنما يعيش بالماء والماء منزل من السماء ، كانت الأنعام كأنها منزلة ؛ لأن سبب سببها منزل كما أطلق على السبب في قوله :


إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا



وقيل : إن ( أنزل ) بمعنى أنشأ وجعل ، أو بمعنى أعطى ، وقيل : جعل الخلق إنزالا ، لأن الخلق إنما يكون بأمر ينزل من السماء ، والثمانية الأزواج هي ما في قوله : من الضأن اثنين ومن المعز اثنين [ الأنعام : 143 ] ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين [ الأنعام : 144 ] ويعني بالاثنين في الأربعة المواضع الذكر والأنثى ، وقد تقدم تفسير الآية في سورة الأنعام .

ثم بين - سبحانه - نوعا آخر من قدرته البديعة فقال : يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق والجملة استئنافية لبيان ما تضمنته من الأطوار المختلفة في خلقهم ، و ( خلقا ) مصدر مؤكد للفعل المذكور ، و من بعد خلق صفة له أي : خلقا كائنا من بعد خلق .

قال قتادة والسدي : نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما ثم لحما .

وقال ابن زيد : خلقكم خلقا في بطون أمهاتكم من بعد خلقكم في ظهر آدم ، وقوله : في ظلمات ثلاث متعلق بقوله : ( يخلقكم ) وهذه الظلمات الثلاث هي : ظلمة البطن ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة قاله مجاهد وعكرمة ، وقتادة ، والضحاك .

وقال سعيد بن جبير : ظلمة المشيمة ، وظلمة الرحم ، وظلمة الليل . وقال أبو عبيدة : ظلمة صلب الرجل ، وظلمة بطن المرأة ، وظلمة الرحم ، والإشارة بقوله : ( ذلكم الله ) إليه - سبحانه - باعتبار أفعاله السابقة ، والاسم الشريف خبره ربكم خبر آخر له الملك الحقيقي في الدنيا والآخرة لا شركة لغير فيه ، وهو خبر ثالث ، وقوله : ( لا إله إلا هو ) خبر رابع . ( فأنى تصرفون ) أي : فكيف تنصرفون عن عبادته وتنقلبون عنها إلى عبادة غيره .

قرأ حمزة " إمهاتكم " بكسر الهمزة والميم . وقرأ الكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم . وقرأ الباقون بضم الهمزة وفتح الميم .

وقد أخرج ابن مردويه عن يزيد الرقاشي أن رجلا قال : يا رسول الله إنا نعطي أموالنا التماس الذكر فهل [ ص: 1276 ] لنا في ذلك من أجر ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : لا . قال : يا رسول الله إنما نعطي التماس الأجر والذكر فهل لنا أجر ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : إن الله لا يقبل إلا ما أخلص له ، ثم تلا هذه الآية ألا لله الدين الخالص .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : يكور الليل قال : يحمل الليل .

وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : خلقا من بعد خلق قال : علقة ثم مضغة ثم عظاما في ظلمات ثلاث البطن والرحم والمشيمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية