1. الرئيسية
  2. فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية
  3. تفسير سورة البقرة
  4. تفسير قوله تعالى " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله "

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم

قوله : إن الذين يكتمون إلى آخر الآية ، فيه الإخبار بأن الذي يكتم ذلك ملعون ، واختلفوا من المراد بذلك ؟ فقيل : أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : كل من كتم الحق وترك بيان ما أوجب الله بيانه ، وهو الراجح لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول ، فعلى فرض أن سبب النزول ما وقع من اليهود والنصارى من الكتم فلا ينافي ذلك تناول هذه الآية كل من كتم الحق .

وفي هذه الآية من الوعيد الشديد ما لا يقادر قدره ، فإن من لعنه الله ولعنه كل من يتأتى منه اللعن من عباده قد بلغ من الشقاوة والخسران إلى الغاية التي لا تلحق ولا يدرك كنهها .

وفي قوله : من البينات والهدى دليل على أنه يجوز كتم غير ذلك كما قال أبو هريرة : " حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين : أما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم " أخرجه البخاري .

والضمير في قوله : من بعد ما بيناه راجع إلى ما أنزلنا ، والكتاب اسم جنس ، وتعريفه يفيد شموله لجميع الكتب ، وقيل : المراد به التوراة .

واللعن : الإبعاد والطرد .

والمراد بقوله : اللاعنون الملائكة والمؤمنون قاله الزجاج وغيره ، ورجحه ابن عطية ، وقيل : كل من يتأتى منه اللعن ، فيدخل في ذلك الجن ، وقيل : هم الحشرات والبهائم .

وقوله : إلا الذين تابوا إلخ ، فيه استثناء التائبين والمصلحين لما فسد من أعمالهم ، والمبينين للناس ما بينه الله في كتبه وعلى ألسن رسله .

قوله : وماتوا وهم كفار هذه الجملة حالية ، وقد استدل بذلك على أنه لا يجوز لعن كافر معين ، لأن حاله عند الوفاة لا يعلم ، ولا ينافي ذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من لعنه لقوم من الكفار بأعيانهم ، لأنه يعلم بالوحي ما لا نعلم ، وقيل : يجوز لعنه عملا بظاهر الحال كما يجوز قتاله .

قوله : أولئك عليهم لعنة الله إلخ ، استدل به على جواز لعن الكفار على العموم .

قال القرطبي : ولا خلاف في ذلك .

قال : وليس لعن الكافر بطريق الزجر له عن الكفر ، بل هو جزاء على الكفر وإظهار قبح كفره سواء كان الكافر عاقلا أو مجنونا .

وقال قوم من السلف : لا فائدة في لعن من جن أو مات منهم لا بطريق الجزاء ولا بطريق الزجر .

قال : ويدل على هذا القول أن الآية دالة على الإخبار عن الله والملائكة والناس بلعنهم [ ص: 106 ] لا على الأمر به .

قال ابن العربي : إن لعن العاصي المعين لا يجوز باتفاق ، لما روي : أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بشارب خمر مرارا ، فقال بعض من حضر : لعنه الله ما أكثر ما يشربه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تكونوا عونا للشيطان على أخيكم والحديث في الصحيحين .

وقوله : والناس أجمعين قيل : هذا يوم القيامة ، وأما في الدنيا ففي الناس المسلم والكافر ، ومن يعلم بالعاصي ومعصيته ومن لا يعلم ، فلا يتأتى اللعن له من جميع الناس ، وقيل : في الدنيا ، والمراد أنه يلعنه غالب الناس أو كل من علم بمعصيته منهم .

وقوله : خالدين فيها أي في النار ، وقيل : في اللعنة .

والإنظار : الإمهال ، وقيل : معنى لا ينظرون : لا ينظر الله إليهم فهو من النظر ، وقيل : هو من الانتظار ، أي لا ينتظرون ليعتذروا .

وقد تقدم تفسير الرحمن الرحيم .

وقوله : وإلهكم إله واحد فيه الإرشاد إلى التوحيد وقطع علائق الشرك ، والإشارة إلى أن أول ما يجب بيانه ويحرم كتمانه هو أمر التوحيد .

وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : سأل معاذ بن جبل أخو بني سلمة وسعد بن معاذ أخو بني الأشهل وخارجة بن زيد أخو بني الحارث بن الخزرج نفرا من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة ، فكتموهم إياه وأبوا أن يخبروهم ، فأنزل الله فيهم : إن الذين يكتمون ما أنزلنا الآية .

وقد روي عن جماعة من السلف أن الآية نزلت في أهل الكتاب لكتمهم نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم .

وأخرج ابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم عن البراء بن عازب قال : كنا في جنازة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه فتسمعه كل دابة غير الثقلين ، فتلعنه كل دابة سمعت صوته ، فذلك قول الله تعالى : ويلعنهم اللاعنون يعني دواب الأرض .

وأخرج عبد بن حميد عن عطاء قال : الجن والإنس وكل دابة .

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان قال في تفسير الآية : إن دواب الأرض والعقارب والخنافس يقولون : إنما منعنا القطر بذنوبهم فيلعنونهم .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة نحوه .

وأخرج عبد بن حميد عن أبي جعفر قال : يلعنهم كل شيء حتى الخنفساء .

وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن كتم العلم والوعيد لفاعله .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله : إلا الذين تابوا وأصلحوا قال : أصلحوا ما بينهم وبين الله ، وبينوا الذي جاءهم من الله ولم يكتموه ولم يجحدوه .

وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : أتوب عليهم يعني أتجاوز عنهم .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله ، ثم تلعنه الملائكة ، ثم يلعنه الناس أجمعون .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال : يعني بالناس أجمعين المؤمنين .

وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله : خالدين فيها يقول : خالدين في جهنم في اللعنة .

وقال في قوله : ولا هم ينظرون يقول : ألا ينظرون فيعتذرون .

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : ولا هم ينظرون قال : لا يؤخرون .

وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والدارمي والترمذي وصححه وابن ماجه عن أسماء بنت يزيد بن السكن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ، و الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم .

وأخرج الديلمي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ليس شيء أشد على مردة الجن من هؤلاء الآيات التي في سورة البقرة وإلهكم إله واحد الآيتين .

التالي السابق


الخدمات العلمية