فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير

قوله : ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم بفعل ما أمركم به وترك ما نهاكم عنه وأهليكم بأمرهم بطاعة الله ونهيهم عن معاصيه نارا وقودها الناس والحجارة أي : نارا عظيمة تتوقد بالناس وبالحجارة كما يتوقد غيرها بالحطب ، وقد تقدم بيان هذا في سورة البقرة .

قال مقاتل بن سليمان : المعنى قوا أنفسكم وأهليكم بالأدب الصالح - النار في الآخرة .

وقال قتادة ، ومجاهد : قوا أنفسكم بأفعالكم ، وقوا أهليكم بوصيتكم .

قال ابن جرير : فعلينا أن نعلم أولادنا الدين والخير وما لا يستغنى عنه من الأدب ، ومن هذا قوله : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها [ طه : 132 ] وقوله : وأنذر عشيرتك الأقربين [ الشعراء : 214 ] عليها ملائكة غلاظ شداد أي : على النار خزنة من الملائكة يلون أمرها وتعذيب أهلها ، غلاظ على أهل النار ، شداد عليهم لا يرحمونهم إذا استرحموهم ؛ لأن الله سبحانه خلقهم من غضبه وحبب إليهم تعذيب خلقه ، وقيل : المراد غلاظ القلوب شداد الأبدان ، وقيل : غلاظ الأقوال شداد الأفعال ، وقيل : الغلاظ ضخام الأجسام ، والشداد الأقوياء لا يعصون الله ما أمرهم أي : لا يخالفونه في أمره ، و " ما " في ما أمرهم يجوز أن تكون موصولة ، والعائد محذوف ، أي : لا يعصون الله الذي أمرهم به ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : لا يعصون الله أمره ، على أن يكون " ما أمرهم " بدل اشتمال من الاسم الشريف ، أو على تقدير نزع الخافض ، أي : لا يعصون الله في أمره ويفعلون ما يؤمرون أي : يؤدونه في وقته من غير تراخ لا يؤخرونه عنه ولا يقدمونه .

ياأيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم أي : يقال لهم هذا القول عند إدخالهم النار تأييسا لهم وقطعا لأطماعهم إنما تجزون ما كنتم تعملون من الأعمال في الدنيا ، ومثل هذا قوله : فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون [ الروم : 57 ] .

ياأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا أي : تنصح صاحبها بترك العود إلى ما تاب عنه ، وصفت بذلك على الإسناد المجازي ، وهو في الأصل وصف للتائبين أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم بالعزم على الترك للذنب وترك المعاودة له .

والتوبة فرض على الأعيان .

قال قتادة : التوبة النصوح : الصادقة ، وقيل : الخالصة .

وقال الحسن : التوبة النصوح : أن يبغض الذنب الذي أحبه ويستغفر منه إذا ذكره .

وقال الكلبي : التوبة النصوح الندم بالقلب ، والاستغفار باللسان ، والإقلاع [ ص: 1508 ] بالبدن ، والاطمئنان على أن لا يعود .

وقال سعيد بن جبير : هي التوبة المقبولة .

قرأ الجمهور نصوحا بفتح النون على الوصف للتوبة ، أي : توبة بالغة في النصح ، وقرأ الحسن وخارجة وأبو بكر عن عاصم بضمها ، أي : توبة نصوحا لأنفسكم ، ويجوز أن يكون جمع ناصح ، وأن يكون مصدرا : يقال نصح نصاحة ونصوحا .

قال المبرد : أراد توبة ذات نصح عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار بسبب تلك التوبة ، و " عسى " وإن كان أصلها للإطماع فهي من الله واجبة ؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، و " يدخلكم " معطوف على " يكفر " منصوب بناصبه ، وبالنصب قرأ الجمهور ، وقرئ بالجزم عطفا على محل عسى كأنه قال : توبوا يوجب تكفير سيئاتكم ويدخلكم يوم لا يخزي الله النبي الظرف متعلق بـ " يدخلكم " ، أي : يدخلكم يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه والموصول معطوف على النبي ، وقيل : الموصول مبتدأ وخبره نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم والأول أولى وتكون جملة نورهم يسعى في محل نصب على الحال أو مستأنفة لبيان حالهم ، وقد تقدم في سورة الحديد أن النور يكون معهم حال مشيهم على الصراط ، وجملة يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير في محل نصب على الحال أيضا ، وعلى الوجه الآخر تكون خبرا آخر ، وهذا دعاء المؤمنين حين أطفأ الله نور المنافقين كما تقدم بيانه وتفصيله .

وقد أخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه عن علي بن أبي طالب في قوله : قوا أنفسكم وأهليكم نارا قال : علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال : اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله وأمروا أهلكم بالذكر ينجكم الله من النار .

وأخرج عبد بن حميد عنه في الآية قال : أدبوا أهليكم .

وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن أبي عمران الجوني قال : بلغنا أن خزنة النار تسعة عشر ما بين منكب أحدهم مسيرة مائة خريف ، ليس في قلوبهم رحمة ، إنما خلقوا للعذاب ، يضرب الملك منهم الرجل من أهل النار الضربة فيتركه طحنا من لدن قرنه إلى قدمه .

وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة وهناد وابن منيع ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن النعمان بن بشير أن عمر بن الخطاب سئل عن التوبة النصوح ، قال : أن يتوب الرجل من العمل السيئ ثم لا يعود إليه أبدا .

وأخرج أحمد ، وابن مردويه ، والبيهقي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم التوبة من الذنب أن يتوب منه ثم لا يعود إليه أبدا وفي إسناده إبراهيم بن مسلم الهجري ، وهو ضعيف ، والصحيح الموقوف . كما أخرجه موقوفا عنه ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي .

وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : التوبة النصوح تكفر كل سيئة ، وهو في القرآن ، ثم قرأ هذه الآية .

وأخرج الحاكم ، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله : يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى الآية قال : ليس أحد من الموحدين لا يعطى نورا يوم القيامة ، فأما المنافق فيطفأ نوره ، والمؤمن مشفق مما رأى من إطفاء نور المنافق ، فهو يقول : ربنا أتمم لنا نورنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية