فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
وهي مكية في قول الجميع .

وأخرج ابن الضريس ، والنحاس ، وابن مردويه ، والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة عبس بمكة .

وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله .

بسم الله الرحمن الرحيم

عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره كلا لما يقض ما أمره فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم فإذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة

قوله : عبس وتولى أي كلح وجهه وأعرض .

وقرئ " عبس " بالتشديد .

أن جاءه الأعمى مفعول لأجله : أي لأن جاءه الأعمى ، والعامل فيه إما ( عبس ) أو تولى على الاختلاف بين البصريين والكوفيين في التنازع هل المختار إعمال الأول أو الثاني ؟ .

وقد أجمع المفسرون على أن سبب نزول الآية : أن قوما من أشراف قريش كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد طمع في إسلامهم ، فأقبل عبد الله بن أم مكتوم ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع عليه ابن أم مكتوم كلامه ، فأعرض عنه فنزلت ، وسيأتي في آخر البحث بيان هذا إن شاء الله .

وما يدريك لعله يزكى التفت سبحانه إلى خطاب نبيه صلى الله عليه وسلم ؛ لأن المشافهة أدخل في العتاب : أي أي شيء يجعلك داريا بحاله حتى تعرض عنه . وجملة لعله يزكى مستأنفة لبيان أن له شأنا ينافي الإعراض عنه : أي لعله يتطهر من الذنوب [ ص: 1586 ] بالعمل الصالح بسبب ما يتعلمه منك ، فالضمير في " لعله " راجع إلى الأعمى ، وقيل هو راجع إلى الكافر : أي وما يدريك أن ما طمعت فيه ممن اشتغلت بالكلام معه عن الأعمى أنه يزكى أو يذكر ، والأول أولى .

وكلمة الترجي باعتبار من وجه إليه الخطاب للتنبيه على أن الإعراض عنه مع كونه مرجو التزكي مما لا يجوز . قرأ الجمهور أن جاءه الأعمى على الخبر بدون استفهام ، ووجهه ما تقدم .

وقرأ الحسن أن جاءه بالمد على الاستفهام ، فهو على هذه القراءة متعلق بفعل محذوف دل عليه عبس وتولى والتقدير : أن جاءه الأعمى تولى وأعرض ، ومثل هذه الآية قوله في سورة الأنعام ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي [ الأنعام : 52 ] وكذلك قوله : في سورة الكهف ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا [ الكهف : 28 ] .

وقوله : أو يذكر عطف على يزكى داخل معه في حكم الترجي : أي أو يتذكر فيتعظ بما تعلمه من المواعظ فتنفعه الذكرى أي الموعظة .

قرأ الجمهور " فتنفعه " بالرفع ، وقرأ عاصم وابن أبي إسحاق ، وعيسى ، والسلمي ، وزر بن حبيش بالنصب على جواب الترجي .

أما من استغنى أي كان ذا ثروة وغنى ، أو استغنى عن الإيمان وعما عندك من العلم .

فأنت له تصدى أي تصغي لكلامه ، والتصدي الإصغاء .

قرأ الجمهور تصدى بالتخفيف على طرح إحدى التاءين تخفيفا ، وقرأ نافع ، وابن محيصن بالتشديد على الإدغام ، وفي هذا مزيد تنفير له صلى الله عليه وسلم عن الإقبال عليهم والإصغاء إلى كلامهم .

وما عليك ألا يزكى أي أي شيء عليك في أن لا يسلم ولا يهتدي ، فإنه ليس عليك إلا البلاغ ، فلا تهتم بأمر من كان هكذا من الكفار . ويجوز أن تكون " ما " نافية : أي ليس عليك بأس في أن لا يتزكى من تصديت له وأقبلت عليه ، وتكون الجملة في محل نصب على الحال من ضمير " تصدى " .

ثم زاد سبحانه في معاتبة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال : وأما من جاءك يسعى أي وصل إليك حال كونه مسرعا في المجيء إليك طالبا منك أن ترشده إلى الخير وتعظه بمواعظ الله .

وجملة وهو يخشى حال من فاعل ( يسعى ) على التداخل ، أو من فاعل ( جاءك ) على الترادف .

فأنت عنه تلهى أي تتشاغل عنه وتعرض عن الإقبال عليه عنه ، والتلهي : التشاغل والتغافل ، يقال لهيت عن الأمر ألهى : أي تشاغلت عنه ، وكذا تلهيت .

وقوله : كلا ردع له صلى الله عليه وسلم عما عوتب عليه : أي لا تفعل بعد هذا الواقع منك مثله من الإعراض عن الفقير ، والتصدي للغني والتشاغل به ، مع كونه ليس ممن يتزكى عن إرشاد ما جاءك من أهل التزكي والقبول للموعظة ، وهذا الواقع من النبي صلى الله عليه وسلم هو من باب ترك الأولى فأرشده الله سبحانه إلى ما هو الأولى به . إنها تذكرة أي أن هذه الآيات أو السورة موعظة حقها أن تتعظ بها وتقبلها وتعمل بموجبها ويعمل بها كل أمتك فمن شاء ذكره أي فمن رغب فيها اتعظ بها وحفظها وعمل بموجبها ، ومن رغب عنها كما فعله من استغنى فلا حاجة إلى الاهتمام بأمره .

قيل الضميران في ( إنها ) وفي ( ذكره ) : للقرآن ، وتأنيث الأول لتأنيث خبره .

وقيل الأول للسورة ، أو للآيات السابقة .

والثاني للتذكرة لأنها في معنى الذكر .

وقيل إن معنى فمن شاء ذكره فمن شاء الله ألهمه وفهمه القرآن حتى يذكره ويتعظ به ، والأول أولى .

ثم أخبر سبحانه عن عظم هذه التذكرة وجلالتها فقال : في صحف أي إنها تذكرة كائنة في صحف ، فالجار والمجرور صفة ل ( تذكرة ) ، وما بينهما اعتراض ، والصحف جمع صحيفة ، ومعنى مكرمة أنها مكرمة عند الله لما فيها من العلم والحكمة ، أو لأنها نازلة من اللوح المحفوظ ، وقيل المراد بالصحف كتب الأنبياء ، كما في قوله : إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى [ الأعلى : 19 ، 18 ] .

ومعنى مرفوعة أنها رفيعة القدر عند الله ، وقيل مرفوعة في السماء السابعة .

قال الواحدي : قال المفسرون : مكرمة يعني اللوح المحفوظ مرفوعة يعني في السماء السابعة .

قال ابن جرير : مرفوعة القدر والذكر ، وقيل مرفوعة عن الشبه والتناقض مطهرة أي منزهة لا يمسها إلا المطهرون .

قال الحسن : مطهرة من كل دنس .

قال السدي : مصانة عن الكفار لا ينالونها .

بأيدي سفرة السفرة جمع سافر ككتبة وكاتب ، والمعنى : أنها بأيدي كتبة من الملائكة ينسخون الكتب من اللوح المحفوظ .

قال الفراء : السفرة هنا الملائكة الذين يسفرون بالوحي بين الله ورسوله ، من السفارة وهو السعي بين القوم ، وأنشد :


فما أدع السفارة بين قومي ولا أمشي بغير أب نسيب

قال الزجاج : وإنما قيل للكتاب سفر بكسر السين ، والكتاب سافر ؛ لأن معناه أنه بين ، يقال أسفر الصبح : إذا أضاء ، وأسفرت المرأة : إذا كشفت النقاب عن وجهها ، ومنه سفرت بين القوم أسفر سفارة : أي أصلحت بينهم .

قال مجاهد : هم الملائكة الكرام الكاتبون لأعمال العباد .

وقال قتادة : السفرة هنا هم القراء لأنهم يقرءون الأسفار .

وقال وهب بن منبه : هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .

ثم أثنى سبحانه على السفرة فقال : كرام بررة أي كرام على ربهم كذا قال الكلبي .

وقال الحسن : كرام عن المعاصي ، فهم يرفعون أنفسهم عنها .

وقيل يتكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا بزوجته ، أو قضى حاجته .

وقيل يؤثرون منافع غيرهم على منافعهم .

وقيل يتكرمون على المؤمنين بالاستغفار لهم .

والبررة جمع بار مثل كفرة وكافر : أي أتقياء مطيعون لربهم صادقون في إيمانهم ، وقد تقدم تفسيره .

قتل الإنسان ما أكفره أي لعن الإنسان الكافر ما أشد كفره ، وقيل عذب ، قيل : والمراد به عتبة بن أبي لهب ، ومعنى ما أكفره التعجب من إفراط كفره .

قال الزجاج : معناه اعجبوا أنتم من كفره ، وقيل المراد بالإنسان من تقدم ذكره في قوله : أما من استغنى وقيل المراد به الجنس ، وهذا هو الأولى ، فيدخل تحته كل كافر شديد الكفر ، ويدخل تحته من كان سببا لنزول الآية دخولا أوليا .

ثم ذكر سبحانه ما كان ينبغي لهذا [ ص: 1587 ] الكافر أن ينظر فيه حتى ينزجر عن كفره ويكف عن طغيانه فقال : من أي شيء خلقه أي من أي شيء خلق الله هذا الكافر والاستفهام للتقرير .

ثم فسر ذلك فقال : من نطفة خلقه أي من ماء مهين ، وهذا تحقير له .

قال الحسن : كيف يتكبر من خرج من مخرج البول مرتين ، ومعنى فقدره أي فسواه وهيأه لمصالح نفسه ، وخلق له اليدين والرجلين والعينين وسائر الآلات والحواس ، وقيل قدره أطوارا من حال إلى حال ؛ نطفة ثم علقة إلى أن تم خلقه .

ثم السبيل يسره أي يسر له الطريق إلى الخير والشر .

وقال السدي ، ومقاتل ، وعطاء ، وقتادة .

يسره للخروج من بطن أمه ، والأول أولى .

ومثله قوله : وهديناه النجدين [ البلد : 10 ] وانتصاب السبيل بمضمر يدل عليه الفعل المذكور : أي يسر السبيل يسره .

ثم أماته فأقبره أي جعله بعد أن أماته ذا قبر يوارى فيه إكراما له ، ولم يجعله مما يلقى على وجه الأرض تأكله السباع والطير ، كذا قال الفراء : وقال أبو عبيدة : جعل له قبرا وأمر أن يقبر فيه .

ولم يقل قبره ؛ لأن القابر هو الدافن بيده ، ومنه قول الأعشى :


لو أسندت ميتا إلى صدرها     عاش ولم ينقل إلى قابر

ثم إذا شاء أنشره أي ثم إذا شاء إنشاره أنشره : أي أحياه بعد موته ، وعلق الإنشار بالمشيئة للدلالة على أن وقته غير متعين ، بل هو تابع للمشيئة ، قرأ الجمهور أنشره بالألف ، وروى أبو حيوة عن نافع ، وشعيب بن أبي حمزة ( نشره ) بغير ألف ، وهما لغتان فصيحتان .

كلا لما يقض ما أمره كلا ردع وزجر للإنسان الكافر : أي ليس الأمر كما يقول .

ومعنى : لما يقض ما أمره ، لم يقض ما أمره الله به من العمل بطاعته واجتناب معاصيه ، وقيل المراد الإنسان على العموم ، وأنه لم يفعل ما أمره الله به مع طول المدة لأنه لا يخلو من تقصير .

قال الحسن : أي حقا لم يعمل ما أمر به .

قال ابن فورك : أي كلا لما يقض لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان ، بل أمره بما لم يقض له .

قال ابن الأنباري : الوقف على ( كلا ) قبيح والوقف على ( أمره ) جيد ، و ( كلا ) على هذا بمعنى حقا .

وقيل المعنى : لما يقض جميع أفراد الإنسان ما أمره ، بل أخل به : بعضها بالكفر ، وبعضها بالعصيان ، وما قضى ما أمره الله إلا القليل .

ثم شرع سبحانه في تعداد نعمه على عباده ليشكروها ، وينزجروا عن كفرانها بعد ذكر النعم المتعلقة بحدوثه فقال : فلينظر الإنسان إلى طعامه أي ينظر كيف خلق الله طعامه الذي جعله سببا لحياته ؟ وكيف هيأ له أسباب المعاش يستعد بها للسعادة الأخروية ؟ قال مجاهد : معناه فلينظر الإنسان إلى طعامه : أي إلى مدخله ومخرجه ، والأول أولى .

ثم بين ذلك سبحانه فقال : أنا صببنا الماء صبا قرأ الجمهور " إنا " بالكسر على الاستئناف .

وقرأ الكوفيون ورويس عن يعقوب بالفتح على أنه بدل من طعامه بدل اشتمال لكون نزول المطر سببا لحصول الطعام ، فهو كالمشتمل عليه ، أو بتقدير لام العلة .

قال الزجاج : الكسر على الابتداء والاستئناف ، والفتح على معنى البدل من الطعام .

المعنى : فلينظر الإنسان إلى أنا صببنا الماء صبا ، وأراد بصب الماء المطر .

وقرأ الحسن بن علي بالفتح والإمالة .

ثم شققنا الأرض شقا أي شققناها بالنبات الخارج منها بسبب نزول المطر شقا بديعا بما يخرج منه في الصغر والكبر والشكل والهيئة .

ثم بين سبب هذا الشق وما وقع لأجله فقال فأنبتنا فيها حبا يعني الحبوب التي يتغذى بها ، والمعنى : أن النبات لا يزال ينمو ويتزايد إلى أن يصير حبا .

وقوله : وعنبا معطوف على حبا : أي وأنبتنا فيها عنبا ، قيل وليس من لوازم العطف أن يقيد المعطوف بجميع ما قيد به المعطوف عليه فلا ضير في خلو إنبات العنب عن شق الأرض . والقضب : هو القت الرطب الذي يقضب مرة بعد أخرى تعلف به الدواب ، ولهذا سمي قضبا على مصدر قضبه : أي قطعه كأنه لتكرر قطعها نفس القطع .

قال الخليل : القضب : الفصفصة الرطبة ، فإذا يبست فهي القت .

قال في الصحاح : والقضبة والقضب الرطبة ، قال : والموضع الذي ينبت فيه مقضبة .

قال القتيبي ، وثعلب : وأهل مكة يسمون العنب : القضب .

والزيتون هو ما يعصر منه الزيت ، وهو شجرة الزيتون المعروفة ، والنخل هو جمع نخلة .

وحدائق غلبا جمع حديقة ، وهي البستان ، والغلب العظام الغلاظ الرقاب .

وقال قتادة ، ومقاتل : الغلب الملتف بعضها ببعض ، يقال : رجل أغلب : إذا كان عظيم الرقبة ، ويقال للأسد أغلب لأنه مصمت العنق لا يلتفت إلا جميعا .

قال العجاج :


ما زلت يوم البين ألوي صلبي     والرأس حتى صرت مثل الأغلب

وجمع أغلب وغلباء غلب كما جمع أحمر وحمراء على حمر .

وقال قتادة ، وابن زيد : الغلب النخل الكرام .

وعن ابن زيد أيضا وعكرمة : هي غلاظ الأوساط والجذوع .

والفاكهة ما يأكله الإنسان من ثمار الأشجار كالعنب والتين والخوخ ونحوها .

والأب كل ما أنبتت الأرض مما لا يأكله الناس ولا يزرعونه من الكلأ وسائر أنواع الري ، ومنه قول الشاعر :


جدنا قيس ونجد دارنا     ولنا الأب بها والمكرع

قال الضحاك : الأب كل شيء ينبت على وجه الأرض .

وقال ابن أبي طلحة : هو الثمار الرطبة .

وروي عن الضحاك أيضا أنه قال : هو التين خاصة ، والأول أولى .

ثم شرع سبحانه في بيان أحوال المعاد فقال : فإذا جاءت الصاخة يعني صيحة يوم القيامة ، وسميت صاخة لشدة صوتها لأنها تصخ الآذان : أي تصمها فلا تسمع ، وقيل سميت صاخة لأنها يصيخ لها الأسماع ، من قولك أصاخ إلى كذا أي استمع إليه ، والأول أصح .

قال الخليل : الصاخة : صيحة تصخ الآذان حتى تصمها بشدة وقعها ، وأصل الكلمة في اللغة مأخوذة من الصك الشديد ، يقال صخه بالحجر : إذا صكه بها ، وجواب ( إذا ) محذوف يدل عليه قوله : لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه أي فإذا جاءت الصاخة اشتغل [ ص: 1588 ] كل أحد بنفسه .

والظرف في قوله : يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه إما بدل من إذا جاءت أو منصوب بمقدر : أي أعني ، ويكون تفسيرا للصاخة ، أو بدلا منها مبني على الفتح ، وخص هؤلاء بالذكر لأنهم أخص القرابة ، وأولادهم بالحنو والرأفة ، فالفرار منهم لا يكون إلا لهول عظيم ، وخطب فظيع .

لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه أي لكل إنسان يوم القيامة شأن يشغله عن الأقرباء ويصرفه عنهم .

وقيل إنما يفر عنهم حذرا من مطالبتهم إياه بما بينهم ، وقيل يفر عنهم لئلا يروا ما هو فيه من الشدة ، وقيل لعلمه أنهم لا ينفعونه ولا يغنوه عنه شيئا كما قال تعالى : يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا والجملة مستأنفة مسوقة لبيان سبب الفرار .

قال ابن قتيبة : يغنيه : أي يصرفه عن قرابته ، ومنه يقال أغن عني وجهك : أي اصرفه .

قرأ الجمهور يغنيه بالغين المعجمة .

وقرأ ابن محيصن بالعين المهملة مع فتح الياء : أي يهمه ، من عناه الأمر إذا أهمه .

وجوه يومئذ مسفرة وجوه مبتدأ وإن كان نكرة لأنه في مقام التفصيل ، وهو من مسوغات الابتداء بالنكرة ، و يومئذ متعلق به ، و مسفرة خبره ، ومعنى مسفرة : مشرقة مضيئة ، وهي وجوه المؤمنين لأنهم قد علموا إذا ذاك ما لهم من النعيم والكرامة ، يقال أسفر الصبح : إذا أضاء .

قال الضحاك : مسفرة من آثار الوضوء ، وقيل من قيام الليل .

ضاحكة مستبشرة أي فرحة بما نالته من الثواب الجزيل .

ثم لما فرغ من ذكر حال المؤمنين ذكر حال الكفار فقال : ووجوه يومئذ عليها غبرة أي غبار وكدورة لما تراه مما أعده الله لها من العذاب .

ترهقها قترة أي يغشاها ويعلوها سواد وكسوف ، وقيل ذلة ، وقيل شدة ، والقتر في كلام العرب الغبار ، كذا قال أبو عبيدة ، وأنشد قول الفرزدق :


متوج برداء الملك يتبعه     فوج ترى فوقه الرايات والقترا

ويدفع ما قاله أبو عبيدة تقدم ذكر الغبرة فإنها واحدة الغبار .

وقال زيد بن أسلم : القترة ما ارتفعت إلى السماء ، والغبرة ما انحطت إلى الأرض .

أولئك يعني أصحاب الوجوه هم الكفرة الفجرة أي الجامعون بين الكفر بالله والفجور ، يقال فجر : أي فسق ، وفجر : أي كذب ، وأصله الميل ، والفاجر المائل عن الحق .

وقد أخرج الترمذي وحسنه وابن المنذر ، وابن حبان ، والحاكم وصححه وابن مردويه عن عائشة قالت : أنزلت " عبس وتولى " في ابن أم مكتوم الأعمى ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول : يا رسول الله أرشدني . وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ويقبل على الآخر ويقول : أترى بما أقول بأسا ؟ فيقول لا ، ففي هذا أنزلت .

وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وأبو يعلى عن أنس قال : جاء عبد الله ابن أم مكتوم ، وهو يكلم أبي بن خلف ، فأعرض عنه ، فأنزل الله عبس وتولى أن جاءه الأعمى فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه .

وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يناجي عتبة بن ربيعة ، والعباس بن عبد المطلب ، وأبا جهل بن هشام وكان يتصدى لهم كثيرا ويحرص عليهم أن يؤمنوا ، فأقبل عليهم رجل أعمى يقال له عبد الله ابن أم مكتوم يمشي ، وهو يناجيهم ، فجعل عبد الله يستقرئ النبي صلى الله عليه وسلم آية من القرآن قال : يا رسول الله علمني مما علمك الله ، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبس في وجهه وتولى وكره كلامه وأقبل على الآخرين ، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم نجواه ، وأخذ ينقلب إلى أهله أمسك الله ببعض بصره ، ثم خفق برأسه ، ثم أنزل الله عبس وتولى الآية ، فلما نزل فيه ما نزل أكرمه نبي الله صلى الله عليه وسلم وكلمه وقال له : ما حاجتك ؟ هل تريد من شيء ؟ وإذا ذهب من عنده قال : هل لك حاجة في شيء ؟ قال ابن كثير : فيه غرابة ، وقد تكلم في إسناده .

وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس بأيدي سفرة قال : كتبة .

وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه بأيدي سفرة قال : هم بالنبطية القراء .

وأخرج ابن جرير عنه أيضا كرام بررة قال : الملائكة : وأخرج البخاري ، ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرؤه وهو عليه شاق له أجران .

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس ثم السبيل يسره قال : يعني بذلك خروجه من بطن أمه يسره له .

وأخرج ابن المنذر عن عبد الله بن الزبير في قوله : فلينظر الإنسان إلى طعامه قال : إلى مدخله ومخرجه .

وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن عباس فلينظر الإنسان إلى طعامه قال : إلى خرئه .

وأخرج ابن المنذر عنه أنا صببنا الماء صبا قال : المطر ثم شققنا الأرض شقا قال : عن النبات .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : وقضبا قال : الفصفصة يعني القت وحدائق غلبا قال : طوالا وفاكهة وأبا قال : الثمار الرطبة .

وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : الحدائق كل ملتف ، والغلب ما غلظ ، والأب ما أنبتت الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس .

وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عنه أيضا وحدائق غلبا قال : شجر في الجنة يستظل به لا يحمل شيئا .

وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : الأب : الكلأ والمرعى .

وأخرج أبو عبيد في فضائله وعبد بن حميد عن إبراهيم التيمي قال : سئل أبو بكر الصديق عن الأب ما هو ؟ فقال : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم ؟ .

وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن يزيد : أن رجلا سأل عمر عن قوله : وأبا فلما رآهم يقولون أقبل عليهم بالدرة .

وأخرج ابن سعد ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب والخطيب عن أنس أن عمر قرأ على المنبر فأنبتنا فيها حبا وعنبا إلى قوله : وأبا قال : كل هذا قد عرفناه ، فما الأب ؟ ثم رفض عصا كانت في يده [ ص: 1589 ] فقال : هذا لعمر الله هو التكلف ، فما عليك أن لا تدري ما الأب ، اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب فاعملوا عليه ، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس قال الصاخة من أسماء يوم القيامة .

وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : مسفرة قال : مشرقة ، وفي قوله : ترهقها قترة قال : تغشاها شدة وذلة .

وأخرج ابن أبي حاتم عنه قترة قال : سواد الوجه .

التالي السابق


الخدمات العلمية