فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
وهي مكية عند الجمهور .

وقال قتادة : هي مدنية .

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة العصر بمكة .

وأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب عن أبي مزينة الدارمي ، وكانت له صحبة قال : كان الرجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر ثم يسلم أحدهما على الآخر .

بسم الله الرحمن الرحيم

والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر

أقسم سبحانه بالعصر وهو الدهر ، لما فيه من العبر من جهة مرور الليل والنهار على تقدير الأدوار وتعاقب الظلام والضياء ، فإن في ذلك دلالة بينة على الصانع عز وجل وعلى توحيده ، ويقال لليل عصر وللنهار عصر ، ومنه قول حميد بن ثور :


ولم ينته العصران يوم وليلة إذا طلبا أن يدركا ما تمنيا

ويقال للغداة والعشي عصران ، ومنه قول الشاعر :


وأمطله العصرين حتى يملني     ويرضى بنصف الدين والأنف راغم

وقال قتادة ، والحسن : المراد به في الآية العشي ، وهو ما بين زوال الشمس وغروبها ، ومنه قول الشاعر :


يروح بنا عمرو وقد قصر العصر     وفي الروحة الأولى الغنيمة والأجر

وروي عن قتادة أيضا أنه آخر ساعة من ساعات النهار ، وقال مقاتل : إن المراد به صلاة العصر وهي الصلاة الوسطى التي أمر الله سبحانه بالمحافظة عليها ، وقيل هو قسم بعصر النبي صلى الله عليه وسلم .

قال الزجاج : قال بعضهم : معناه ورب العصر ، والأول أولى .

إن الإنسان لفي خسر هذا جواب القسم .

الخسر والخسران النقصان وذهاب رأس المال ، والمعنى : أن كل إنسان في المتاجر والمساعي وصرف الأعمار في أعمال الدنيا لفي نقص وضلال عن الحق حتى يموت .

وقيل المراد بالإنسان : الكافر ، وقيل جماعة من الكفار : وهم الوليد بن المغيرة ، ، والعاص بن وائل ، ، والأسود بن عبد المطلب بن أسد ، والأول أولى لما في لفظ الإنسان من العموم ولدلالة الاستثناء عليه .

قال الأخفش : في خسر في هلكة .

وقال الفراء : عقوبة .

وقال ابن زيد : لفي شر .

قرأ الجمهور والعصر بسكون الصاد .

وقرؤوا أيضا خسر بضم الخاء وسكون السين .

وقرأ يحيى بن سلام " والعصر " بكسر الصاد .

وقرأ الأعرج ، وطلحة ، وعيسى : " خسر " بضم الخاء والسين ، ورويت هذه القراءة عن عاصم .

إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي جمعوا بين الإيمان بالله والعمل الصالح ، فإنهم في ربح لا في خسر ، لأنهم عملوا للآخرة ولم تشغلهم أعمال الدنيا عنها ، والاستثناء متصل ومن قال : إن المراد بالإنسان الكافر فقط ، فيكون منقطعا ، ويدخل تحت هذا الاستثناء كل مؤمن ومؤمنة ، ولا وجه لما قيل من أن المراد الصحابة أو بعضهم ، فإن اللفظ عام لا يخرج عنه أحد ممن يتصف بالإيمان والعمل الصالح وتواصوا بالحق أي وصى بعضهم بعضا بالحق الذي يحق القيام به ، وهو الإيمان بالله والتوحيد ، والقيام بما شرعه الله ، واجتناب ما نهى عنه .

قال قتادة : بالحق : أي بالقرآن ، وقيل بالتوحيد ، والحمل على العموم أولى وتواصوا بالصبر أي بالصبر عن معاصي الله سبحانه والصبر على فرائضه .

وفي جعل التواصي بالصبر قرينا للتواصي بالحق دليل على عظيم قدره وفخامة شرفه ، ومزيد ثواب الصابرين على ما يحق الصبر عليه إن الله مع الصابرين [ البقرة : 153 ] وأيضا التواصي بالصبر مما يندرج تحت التواصي بالحق ، فإفراده بالذكر وتخصيصه بالنص عليه من أعظم الأدلة الدالة على إنافته على خصال الحق ، ومزيد شرفه عليها ، وارتفاع طبقته عنها .

وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : والعصر قال : الدهر .

وأخرج ابن جرير عنه قال : هو ساعة من ساعات النهار .

وأخرج ابن المنذر عنه أيضا قال : هو ما قبل مغيب الشمس من العشي .

وأخرج الفريابي ، وأبو عبيد في فضائله وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن الأنباري في المصاحف عن علي بن أبي طالب أنه كان يقرأ والعصر ، ونوائب الدهر ، إن الإنسان لفي خسر ، وإنه فيه إلى آخر الدهر .

وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود أنه كان يقرأ : والعصر إن الإنسان لفي خسر ، وإنه لفيه إلى آخر الدهر . اهـ .

التالي السابق


الخدمات العلمية