فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : أنزلت بمكة ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل .

بسم الله الرحمن الرحيم

ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول

الاستفهام في قوله : ألم تر لتقرير رؤيته صلى الله عليه وسلم بإنكار عدمها .

قال الفراء : المعنى ألم تخبر .

وقال الزجاج : ألم تعلم ، وهو تعجيب له صلى الله عليه وسلم بما فعله الله بأصحاب الفيل الذين قصدوا تخريب الكعبة من الحبشة ، وكيف منصوبة بالفعل الذي بعدها ، ومعلقة لفعل الرؤية والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويجوز أن يكون لكل من يصلح له .

والمعنى : قد علمت يا محمد ، أو علم الناس الموجودون في عصرك ومن بعدهم بما بلغكم من الأخبار المتواترة من قصة أصحاب الفيل وما فعل الله بهم فما لكم لا تؤمنون ؟ والفيل هو الحيوان المعروف ، وجمعه أفيال ، وفيول ، وفيلة .

قال ابن السكيت : ولا تقول أفيلة ، وصاحبه فيال ، وسيأتي ذكر قصة أصحاب الفيل إن شاء الله .

ألم يجعل كيدهم في تضليل أي ألم يجعل مكرهم وسعيهم في تخريب الكعبة واستباحة أهلها في تضليل عما قصدوا إليه حتى لم يصلوا إلى البيت ولا إلى ما أرادوه بكيدهم ، والهمزة للتقرير كأنه قيل : قد جعل كيدهم في تضليل ، والكيد : هو إرادة المضرة بالغير ، لأنهم أرادوا أن يكيدوا قريشا بالقتل والسبي ، ويكيدوا البيت الحرام بالتخريب .

وأرسل عليهم طيرا أبابيل أي أقاطيع يتبع بعضها بعضا كالإبل المؤبلة .

قال أبو عبيدة : " أبابيل " جماعات في تفرقة ، يقال جاءت الخيل أبابيل : أي جماعات من هاهنا وهاهنا .

قال النحاس : وحقيقته أنها جماعات عظام ، يقال فلان وبل على فلان : أي تعظم عليه وتكبر ، وهو مشتق من الإبل ، وهو من الجمع الذي لا واحد له .

وقال بعضهم : واحده أبول مثل عجول .

وقال بعضهم : أبيل .

قال الواحدي : ولم نر أحدا يجعل لها واحدا .

قال الفراء : لا واحد له من لفظه .

وزعم الرؤاسي وكان ثقة أنه سمع في واحدها : إبالة مشددا .

وحكى الفراء أيضا : أبالة بالتخفيف .

قال سعيد بن جبير : كانت طيرا من السماء لم ير قبلها ولا بعدها .

قال قتادة : هي طير سود جاءت من قبل البحر فوجا فوجا مع كل طائر ثلاثة أحجار : حجران في رجليه ، وحجر في منقاره لا يصيب شيئا إلا هشمه .

وقيل كانت طيرا خضرا خرجت من البحر لها رؤوس كرؤوس السباع .

وقيل كان لها خراطيم الطير وأكف كأكف الكلاب .

وقيل في صفتها غير ذلك ، والعرب تستعمل الأبابيل في الطير كما في قول الشاعر :


تراهم إلى الداعي سراعا كأنهم أبابيل طير تحت دجن مسجن

وتستعملها في غير الطير كقول الآخر :


كادت تهد من الأصوات راحلتي     أن سألت الأرض بالجرد الأبابيل

ترميهم بحجارة من سجيل الجملة في محل نصب صفة لطير .

قرأ الجمهور ترميهم بالفوقية .

وقرأ أبو حنيفة ، وأبو معمر ، وعيسى ، وطلحة بالتحتية ، واسم الجمع يذكر ويؤنث .

وقيل : الضمير في القراءة الثانية لله عز وجل .

قال الزجاج : من سجيل أي مما كتب عليهم العذاب به ، مشتقا من السجل .

قال في الصحاح قالوا : هي حجارة من طين طبخت بنار جهنم مكتوب فيها أسماء القوم .

قال عبد الرحمن بن أبزى : من سجيل من السماء ، وهي الحجارة التي نزلت على قوم لوط ، وقيل : من الجحيم التي هي سجين ، ثم أبدلت النون لاما ، ومنه قول ابن مقبل :


ضربا تواصت به الأبطال سجيلا

وإنما هو " سجينا " .

قال عكرمة : كانت ترميهم بحجارة معها ، فإذا أصاب أحدهم حجر منها خرج به الجدري ، وكان الحجر كالحمصة وفوق العدسة ، وقد قدمنا الكلام في سجيل في سورة هود .

فجعلهم كعصف مأكول أي جعل الله أصحاب الفيل كورق الزرع إذا أكلته الدواب [ ص: 1656 ] فرمت به من أسفل ، شبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزائه .

وقيل المعنى : أنهم صاروا كورق زرع قد أكلت منه الدواب وبقي منه بقايا ، أو أكلت حبه فبقي بدون حبه .

والعصف جمع عصفة وعصافة وعصيفة ، وقد قدمنا الكلام في العصف في سورة الرحمن فارجع إليه .

وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس قال : جاء أصحاب الفيل حتى نزلوا الصفاح فأتاهم عبد المطلب فقال : إن هذا بيت الله لم يسلط عليه أحدا ، قالوا : لا نرجع حتى نهدمه وكانوا لا يقدمون فيلهم إلا تأخر ، فدعا الله الطير الأبابيل ، فأعطاها حجارة سوداء عليها الطين ، فلما حاذتهم رمتهم فما بقي منهم أحد إلا أخذته الحكة ، فكان لا يحك الإنسان منهم جلده إلا تساقط لحمه .

وأخرج ابن المنذر ، والحاكم وأبو نعيم والبيهقي عنه قال : أقبل أصحاب الفيل حتى إذا دنوا من مكة استقبلهم عبد المطلب ، فقال لملكهم : ما جاء بك إلينا ؟ ألا بعثت فنأتيك بكل شيء ؟ فقال : أخبرت بهذا البيت الذي لا يدخله أحد إلا أمن ، فجئت أخيف أهله ، فقال : إنا نأتيك بكل شيء تريد فارجع ، فأبى إلا أن يدخله ، وانطلق يسير نحوه ، وتخلف عبد المطلب ، فقام على جبل فقال : لا أشهد مهلك هذا البيت وأهله ، فأقبلت مثل السحابة من نحو البحر حتى أظلتهم طير أبابيل التي قال الله : ترميهم بحجارة من سجيل فجعل الفيل يعج عجا فجعلهم كعصف مأكول وقصة أصحاب الفيل مبسوطة مطولة في كتب التاريخ والسير فلا نطول بذكرها .

وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس في قوله : ترميهم بحجارة من سجيل قال : حجارة مثل البندق وبها نضح حمرة مختمة مع كل طائر ثلاثة أحجار : حجران في رجليه ، وحجر في منقاره حلقت عليهم من السماء ثم أرسلت عليهم تلك الحجارة فلم تعد عسكرهم .

وأخرج أبو نعيم من طريق عطاء ، والضحاك عنه أن أبرهة الأشرم قدم من اليمن يريد هدم الكعبة ، فأرسل الله عليهم طيرا أبابيل - يريد مجتمعة - لها خراطيم تحمل حصاة في منقارها وحصاتين في رجليها ، ترسل واحدة على رأس الرجل فيسيل لحمه ودمه ويبقى عظاما خاوية لا لحم عليها ولا جلد ولا دم .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في الدلائل عنه أيضا فجعلهم كعصف مأكول يقول : كالتبن .

وأخرج ابن إسحاق في السيرة والواقدي ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي عن عائشة قالت : لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان .

وأخرج الواقدي نحوه عن أسماء بنت أبي بكر .

وأخرج أبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس قال : ولد النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل .

وأخرج ابن إسحاق ، وأبو نعيم ، والبيهقي عن قيس بن مخرمة قال : ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل .

التالي السابق


الخدمات العلمية