فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
وهي مكية في قول الحسن ، وعكرمة ، وعطاء ، وجابر ، ومدنية في أحد قولي ابن عباس ، وقتادة ، وأخرج أحمد ، والبزار ، والطبراني ، وابن مردويه من طرق - قال السيوطي : صحيحة - عن ابن مسعود أنه كان يحك المعوذتين في المصحف يقول : لا تخلطوا القرآن بما ليس منه إنهما ليستا من كتاب الله ، إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ بهما ، وكان ابن مسعود لا يقرأ بهما .

قال البزار : لم يتابع ابن مسعود أحد من الصحابة ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بهما في الصلاة وأثبتتا في المصحف .

وأخرج أحمد ، والبخاري ، والنسائي وغيرهم عن زر بن حبيش قال أتيت المدينة فلقيت أبي بن كعب ، فقلت له : أبا المنذر إني رأيت ابن مسعود لا يكتب المعوذتين في مصحفه ، فقال : أما والذي بعث محمدا بالحق لقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما وما سألني عنهما أحد منذ سألته غيرك ، قال : قيل لي : قل ، فقلت فقولوا فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وأخرج الطبراني عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن هاتين السورتين ، فقال : قيل لي ، فقلت فقولوا كما قلت .

وأخرج مسلم ، والترمذي ، والنسائي وغيرهم عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنزلت علي الليلة آيات لم أر مثلهن قط قل أعوذ برب الفلق و قل أعوذ برب الناس وأخرج ابن الضريس ، وابن الأنباري ، والحاكم وصححه وابن مردويه في الشعب عن عقبة بن عامر قال قلت يا رسول الله : أقرئني سورة يوسف وسورة هود ، قال : يا عقبة اقرأ بقل أعوذ برب الفلق ، فإنك لن تقرأ سورة أحب إلى الله وأبلغ منها ، فإذا استطعت أن لا تفوتك فافعل .

وأخرج ابن سعد ، والنسائي ، والبغوي ، والبيهقي عن أبي حابس الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا أبا حابس أخبرك بأفضل ما تعوذ به المتعوذون ؟ قال بلى يا رسول الله ، قال : قل أعوذ برب الفلق و قل أعوذ برب الناس هما المعوذتان .

وأخرج الترمذي وحسنه وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي سعيد الخدري قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من عين الجان ومن عين الإنس ، فلما نزلت سورة المعوذتين أخذ بهما وترك ما سوى ذلك .

وأخرج أبو داود ، والنسائي ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره عشر خصال ، ومنها أنه كان يكره الرقى إلا بالمعوذتين .

وأخرج ابن مردويه عن أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أحب السور إلى الله قل أعوذ برب الفلق و قل أعوذ برب الناس .

وأخرج النسائي ، وابن الضريس ، وابن حبان في صحيحه وابن الأنباري ، وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : أخذ بمنكبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : اقرأ ، قلت : ما أقرأ بأبي أنت وأمي ؟ قال : قل أعوذ برب الفلق ثم قال : اقرأ ، قلت بأبي أنت وأمي ما أقرأ ؟ قال : قل أعوذ برب الناس ، ولم تقرأ بمثلهما .

وأخرج مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث ، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح بيده عليه رجاء بركتهما .

وأخرجه البخاري ، ومسلم في صحيحيهما من طريق مالك بالإسناد المذكور .

وأخرج عبد بن حميد في مسنده عن زيد بن أرقم قال سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود ، فاشتكى فأتاه جبريل ، فنزل عليه بالمعوذتين ، وقال : إن رجلا من اليهود سحرك ، والسحر في بئر فلان ، فأرسل عليا فجاء به فأمره أن يحل العقد ويقرأ آية ويحل حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال .

وأخرجه ابن مردويه ، والبيهقي من حديث عائشة مطولا ، وكذلك أخرجه ابن مردويه من حديث ابن عباس .

وقد ورد في فضل المعوذتين ، وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما في الصلاة وغيرهما أحاديث ، وفيما ذكرناه كفاية .

وأخرج الطبراني في الصغير عن علي بن أبي طالب قال لدغت النبي صلى الله عليه وسلم عقرب وهو يصلي ، فلما فرغ قال : لعن الله العقرب لا تدع مصليا ولا غيره ، ثم دعا بماء وملح وجعل يمسح عليها ويقرأ : قل يا أيها الكافرون ، وقل هو الله أحد ، وقل أعوذ برب الفلق ، وقل أعوذ برب الناس .

[ ص: 1670 ] بسم الله الرحمن الرحيم

قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد

الفلق الصبح ، يقال : هو أبين من فلق الصبح ، وسمي فلقا لأنه يفلق عنه الليل ، وهو فعل بمعنى مفعول : قال الزجاج : لأن الليل ينفلق عنه الصبح ، ويكون بمعنى مفعول ، يقال : هو أبين من فلق الصبح ، ومن فرق الصبح ، وهذا قول جمهور المفسرين ، ومنه قول ذي الرمة :


حتى إذا ما انجلى عن وجهه فلق هادئة في أخريات الليل منتصب



وقول الآخر :


يا ليلة لم أنمها بت مرتفقا     أرعى النجوم إلى أن نور الفلق



وقيل هو سجن في جهنم ، وقيل هو اسم من أسماء جهنم ، وقيل شجرة في النار ، وقيل هو الجبال والصخور ، لأنها تفلق بالمياه أي تشقق ، وقيل هو التفليق بين الجبال ؛ لأنها تنشق من خوف الله .

قال النحاس : يقال لكل ما اطمأن من الأرض فلق ، ومنه قول زهير :


ما زلت أرمقهم حتى إذا هبطت     أيدي الركاب بهم من راكس فلقا



والراكس : بطن الوادي

ومثله قول النابغة :


ودوني راكس فالضواجع



وقيل هو الرحم تنفلق بالحيوان ، وقيل هو كل ما انفلق عن جميع ما خلق الله من الحيوان والصبح والحب والنوى وكل شيء من نبات وغيره قاله الحسن ، والضحاك .

قال القرطبي : هذا القول يشهد له الانشقاق ، فإن الفلق الشق ، فلقت الشيء فلقا : شققته ، والتفليق مثله ، يقال فلقته فانفلق وتفلق ، فكل ما انفلق عن شيء من حيوان وصبح وحب ونوى وماء فهو فلق .

قال الله سبحانه فالق الإصباح [ الأنعام : 96 ] وقال فالق الحب والنوى [ الأنعام : 95 ] انتهى .

والقول الأول أولى لأن المعنى وإن كان أعم منه وأوسع مما تضمنه لكنه المتبادر عند الإطلاق .

وقد قيل في وجه تخصيص الفلق الإيماء إلى أن القادر على إزالة هذه الظلمات الشديدة عن كل هذا العالم يقدر أيضا أن يدفع عن العائذ كل ما يخافه ويخشاه ، وقيل طلوع الصبح كالمثال لمجيء الفرح ، فكما أن الإنسان في الليل يكون منتظرا لطلوع الصباح ، كذلك الخائف يكون مترقبا لطلوع صباح النجاح ، وقيل غير هذا مما هو مجرد بيان مناسبة ليس فيها كثير فائدة تتعلق بالتفسير .

من شر ما خلق متعلق بأعوذ : أي من شر كل ما خلقه سبحانه من جميع مخلوقاته فيعم جميع الشرور ، وقيل هو إبليس وذريته ، وقيل جهنم ، ولا وجه لهذا التخصيص كما أنه لا وجه لتخصيص من خصص هذا العموم بالمضار البدنية .

وقد حرف بعض المتعصبين هذه الآية مدافعة عن مذهبه وتقويما لباطله ، فقرؤوا بتنوين شر على أن ما نافية ، والمعنى : من شر لم يخلقه ومنهم عمرو بن عبيد ، وعمرو بن عائذ .

ومن شر غاسق إذا وقب الغاسق الليل ، والغسق الظلمة ، يقال غسق الليل يغسق إذا أظلم .

قال الفراء : يقال غسق الليل وأغسق إذا أظلم ، ومنه قول قيس بن الرقيات :


إن هذا الليل قد غسقا     واشتكيت الهم والأرقا



وقال الزجاج : قيل لليل غاسق لأنه أبرد من النهار ، والغاسق : البارد ، والغسق البرد ، ولأن في الليل تخرج السباع من آجامها والهوام من أماكنها وينبعث أهل الشر على العبث والفساد ، كذا قال ، وهو قول بارد ، فإن أهل اللغة على خلافه ، وكذا جمهور المفسرين .

ووقوبه : دخول ظلامه ، ومنه قول الشاعر :


وقب العذاب عليهم فكأنهم     لحقتهم نار السموم فأخمدوا



أي دخل العذاب عليهم ، ويقال وقبت الشمس : إذا غابت ، وقيل الغاسق الثريا ، وذلك أنها إذا سقطت كثرت الأسقام والطواعين ، وإذا طلعت ارتفع ذلك ، وبه قال ابن زيد .

وهذا محتاج إلى نقل عن العرب أنهم يصفون الثريا بالغسوق .

وقال الزهري : هو الشمس إذا غربت ، وكأنه لاحظ معنى الوقوب ولم يلاحظ معنى الغسوق ، وقيل هو القمر إذا خسف ، وقيل إذا غاب .

وبهذا قال قتادة وغيره ، واستدلوا بحديث أخرجه أحمد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن عائشة قالت نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما إلى القمر لما طلع فقال : يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا ، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب .

قال الترمذي بعد إخراجه : حسن صحيح ، وهذا لا ينافي قول الجمهور ؛ لأن القمر آية الليل ولا يوجد له سلطان إلا فيه ، وهكذا يقال في جواب من قال إنه الثريا .

قال ابن الأعرابي في تأويل هذا الحديث : وذلك أن أهل الريب يتحينون وجبة القمر .

وقيل الغاسق : الحية إذا لدغت .

وقيل الغاسق : كل هاجم يضر كائنا ما كان ، من قولهم غسقت القرحة : إذا جرى صديدها .

وقيل الغاسق هو السائل ، وقد عرفناك أن الراجح في تفسير هذه الآية هو ما قاله أهل القول الأول ، ووجه تخصيصه أن الشر فيه أكثر ، والتحرز من الشرور فيه أصعب ، ومنه قولهم : الليل أخفى للويل .

ومن شر النفاثات في العقد النفاثات هن السواحر : أي ومن شر النفوس النفاثات ، أو النساء النفاثات ، والنفث النفخ كما يفعل ذلك من يرقي ويسحر ، قيل مع ريق ، وقيل بدون ريق ، والعقد جمع عقدة ، وذلك أنهن كن ينفثن في عقد الخيوط حين يسحرن بها ، ومنه قول عنترة :


فإن يبرأ فلم أنفث عليه     وإن يفقد فحق له الفقود



وقول متمم بن نويرة :


نفث في الخيط شبيه الرقى     من خشية الجنة والحاسد

قال أبو عبيدة : النفاثات هن بنات لبيد بن الأعصم اليهودي ، سحرن النبي صلى الله عليه وسلم .

قرأ الجمهور النفاثات جمع نفاثة [ ص: 1671 ] على المبالغة .

وقرأ يعقوب ، وعبد الرحمن بن ساباط ، وعيسى بن عمر " النافثات " جمع نافثة .

وقرأ الحسن " النفاثات " بضم النون .

وقرأ أبو الربيع " النفثات " بدون ألف .

ومن شر حاسد إذا حسد الحسد : تمني زوال النعمة التي أنعم الله بها على المحسود ، ومعنى إذا حسد : إذا أظهر ما في نفسه من الحسد وعمل بمقتضاه وحمله الحسد على إيقاع الشر بالمحسود .

قال عمر بن عبد العزيز : لم أر ظالما أشبه بالمظلوم من حاسد ، وقد نظم الشاعر هذا المعنى فقال :


قل للحسود إذا تنفس طعنة     يا ظالما وكأنه مظلوم



ذكر الله سبحانه في هذه السورة إرشاد رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الاستعاذة من شر كل مخلوقاته على العموم ، ثم ذكر بعض الشرور على الخصوص مع اندراجه تحت العموم لزيادة شره ومزيد ضره ، وهو الغاسق والنفاثات والحاسد ، فكأن هؤلاء لما فيهم من مزيد الشر حقيقون بإفراد كل واحد منهم بالذكر .

وقد أخرج ابن مردويه عن عمرو بن عبسة قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ قل أعوذ برب الفلق فقال : يا ابن عبسة أتدري ما الفلق ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : بئر في جهنم .

وأخرجه ابن أبي حاتم من قول عمرو بن عبسة غير مرفوع .

وأخرج ابن مردويه عن عقبة بن عامر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقرأ قل أعوذ برب الفلق هل تدري ما الفلق ؟ باب في النار إذا فتحت سعرت جهنم وأخرج ابن مردويه ، والديلمي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل : قل أعوذ برب الفلق فقال : هو سجن في جهنم يحبس فيه الجبارون والمتكبرون ، وإن جهنم لتتعوذ بالله منه .

وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الفلق جب في جهنم .

وهذه الأحاديث لو كانت صحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان المصير إليها واجبا ، والقول بها متعينا .

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : الفلق سجن في جهنم .

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : الفلق الصبح .

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه قال : الفلق الخلق .

وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : ومن شر غاسق إذا وقب وقال : النجم هو الغاسق ، وهو الثريا .

وأخرجه ابن جرير ، وابن أبي حاتم من وجه آخر عنه غير مرفوع .

وقد قدمنا تأويل ما ورد أن الغاسق القمر .

وأخرج أبو الشيخ عنه أيضا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا ارتفعت النجوم رفعت كل عاهة عن كل بلد وهذا لو صح لم يكن فيه دليل على أن الغاسق هو النجم أو النجوم .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس ومن شر غاسق إذا وقب قال : الليل إذا أقبل .

وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس ومن شر النفاثات في العقد قال : الساحرات .

وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : هو ما خالط السحر من الرقى .

وأخرج النسائي وابن مردويه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ، ومن سحر فقد أشرك ، ومن تعلق شيئا وكل إليه .

وأخرج ابن سعد ، وابن ماجه ، والحاكم ، وابن مردويه عن أبي هريرة قال : جاء النبي صلى الله عليه وسلم يعودني فقال : ألا أرقيك برقية رقاني بها جبريل ؟ فقلت : بلى بأبي أنت وأمي ، قال : بسم الله أرقيك والله يشفيك من كل داء فيك من شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد فرقى بها ثلاث مرات .

وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : ومن شر حاسد إذا حسد قال : نفس ابن آدم وعينه اهـ .

التالي السابق


الخدمات العلمية