فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين

لا خلاف بين أهل العلم أن القتال كان ممنوعا قبل الهجرة لقوله تعالى : فاعف عنهم واصفح وقوله : واهجرهم هجرا جميلا وقوله : لست عليهم بمصيطر وقوله : ادفع بالتي هي أحسن ونحو ذلك مما نزل بمكة ، فلما هاجر إلى المدينة أمره الله سبحانه بالقتال ، ونزلت هذه الآية ، وقيل : إن أول ما نزل قوله تعالى : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا فلما نزلت الآية كان صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتله ، ويكف عمن كف عنه حتى نزل قوله تعالى : فاقتلوا المشركين وقوله تعالى : وقاتلوا المشركين كافة .

وقال جماعة من السلف : إن المراد بقوله : الذين يقاتلونكم من عدا النساء والصبيان والرهبان ونحوهم ، وجعلوا هذه الآية محكمة غير منسوخة ، والمراد بالاعتداء عند أهل القول الأول هو مقاتلة من يقاتل من الطوائف الكفرية .

والمراد به على القول الثاني مجاوزة قتل من يستحق القتل إلى قتل من لا يستحقه ممن تقدم ذكره .

قوله : حيث ثقفتموهم يقال : ثقف يثقف ثقفا ، ورجل ثقيف : إذا كان محكما لما يتناوله من الأمور .

قال في الكشاف : والثقف وجود على وجه الأخذ والغلبة ، ومنه رجل ثقف : سريع الأخذ لأقرانه . انتهى .

ومنه قول حسان :


فإما يثقفن بني لؤي جذيمة إن قتلهم دواء

قوله : وأخرجوهم من حيث أخرجوكم أي مكة .

قال ابن جرير : الخطاب للمهاجرين ، والضمير لكفار قريش انتهى .

وقد امتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ربه ، فأخرج من مكة من لم يسلم عند أن فتحها الله عليه .

وقوله : والفتنة أشد من القتل أي الفتنة التي أرادوا أن يفتنوكم ، وهي رجوعكم إلى الكفر أشد من القتل ، وقيل : المراد بالفتنة المحنة التي تنزل بالإنسان في نفسه أو أهله أو ماله أو عرضه ، وقيل : إن المراد بالفتنة الشرك الذي عليه المشركون ، لأنهم كانوا يستعظمون القتل في الحرم ، فأخبرهم الله أن الشرك الذي هم عليه أشد مما يستعظمونه ، وقيل : المراد فتنتهم إياكم بصدكم عن المسجد الحرام أشد من قتلكم إياهم في الحرم أو من قتلهم إياكم إن قتلوكم .

والظاهر أن المراد الفتنة في الدين بأي سبب كان ، وعلى أي صورة اتفقت ، فإنها أشد من القتل .

قوله : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام الآية .

اختلف أهل العلم في ذلك ، فذهبت طائفة إلى أنها محكمة ، وأنه لا يجوز القتال في الحرم إلا بعد أن يتعدى بالقتال فيه فإنه يجوز دفعه بالمقاتلة له ، وهذا هو الحق .

وقالت طائفة : إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ويجاب عن هذا الاستدلال بأن الجمع ممكن ببناء العام على الخاص ، فيقتل المشرك حيث وجد إلا بالحرم ، ومما يؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : إنها لم تحل لأحد قبلي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار وهو في الصحيح .

وقد احتج القائلون بالنسخ بقتله صلى الله عليه وسلم لابن خطل ، وهو متعلق بأستار الكعبة ، ويجاب عنه بأنه وقع في تلك الساعة التي أحل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم .

قوله : فإن انتهوا أي [ ص: 124 ] عن قتالكم ودخلوا في الإسلام .

قوله : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة فيه الأمر بمقاتلة المشركين إلى غاية هي أن لا تكون فتنة وأن يكون الدين لله ، وهو الدخول في الإسلام ، والخروج عن سائر الأديان المخالفة له ، فمن دخل في الإسلام وأقلع عن الشرك لم يحل قتاله ، قيل : المراد بالفتنة هنا الشرك ، والظاهر أنها الفتنة في الدين على عمومها كما سلف .

قوله : فلا عدوان إلا على الظالمين أي لا تعتدوا إلا على من ظلم وهو من لم ينته عن الفتنة ، ولم يدخل في الإسلام ، وإنما سمي جزاء الظالمين عدوانا ؛ مشاكلة كقوله تعالى : وجزاء سيئة سيئة مثلها .

وقوله : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه .

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : وقاتلوا في سبيل الله الآية أنها أول آية نزلت في القتال بالمدينة ، فلما نزلت كان رسول الله يقاتل من قاتله ، ويكف عمن كف عنه ، حتى نزلت سورة ( براءة ) .

وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في هذه الآية قال : إن أصحاب محمد أمروا بقتال الكفار .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : ولا تعتدوا يقول : لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير ولا من ألقى السلم وكف يده ، فإن فعلتم فقد اعتديتم .

وأخرج ابن أبي شيبة عن عمر بن عبد العزيز أنه قال : إن هذه الآية في النساء والذرية ، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : والفتنة أشد من القتل يقول : الشرك أشد من القتل .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في الآية قال : ارتداد المؤمن إلى الوثن أشد عليه من أن يقتل محقا .

وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود في ناسخه وابن جرير عن قتادة في قوله : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه قال : حتى يبدءوا بالقتال ، ثم نسخ بعد ذلك فقال : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة .

وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داود في ناسخه عن قتادة أن قوله : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام وقوله : يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير فكان كذلك حتى نسخ هاتين الآيتين جميعا في ( براءة ) قوله : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة .

وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله : فإن انتهوا قال : فإن تابوا .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس في قوله : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة يقول : شرك بالله ويكون الدين ويخلص التوحيد لله .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في الآية ، قال : الشرك .

وقوله : فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين قال : لا تقاتلوا إلا من قاتلكم .

وأخرج ابن جرير عن الربيع في قوله : ويكون الدين لله يقول : حتى لا تعبدوا إلا الله .

وأخرج أيضا عن عكرمة في قوله : فلا عدوان إلا على الظالمين قال : هم من أبى أن يقول لا إله إلا الله .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية