فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون .

قيل : الخطاب في قوله : ثم أفيضوا للحمس من [ ص: 132 ] قريش لأنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفات ، بل كانوا يقفون بالمزدلفة ، وهي من الحرم ، فأمروا بذلك ، وعلى هذا تكون " ثم " لعطف جملة على جملة لا للترتيب ، وقيل : الخطاب لجميع الأمة ، والمراد بالناس إبراهيم : أي ثم أفيضوا من حيث أفاض إبراهيم ، فيحتمل أن يكون أمرا لهم بالإفاضة من عرفة ، ويحتمل أن يكون إفاضة أخرى وهي التي من المزدلفة ، وعلى هذا تكون " ثم " على بابها أي للترتيب .

وقد رجح هذا الاحتمال الأخير ابن جرير الطبري ، وإنما أمروا بالاستغفار لأنهم في مساقط الرحمة ، ومواطن القبول ، ومظنات الإجابة ، وقيل : إن المعنى استغفروا للذي كان مخالفا لسنة إبراهيم ، وهو وقوفكم بالمزدلفة دون عرفة .

والمراد بالمناسك أعمال الحج ، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم : خذوا عني مناسككم أي فإذا فرغتم من أعمال الحج فاذكروا الله ، وقيل : المراد بالمناسك الذبائح ، وإنما قال سبحانه : كذكركم آباءكم لأن العرب كانوا إذا فرغوا من حجهم يقفون عند الجمرة فيذكرون مفاخر آبائهم ومناقب أسلافهم ، فأمرهم الله بذكره مكان ذلك الذكر ، ويجعلونه ذكرا مثل ذكرهم لآبائهم أو أشد من ذكرهم لآبائهم .

قال الزجاج : إن قوله : أو أشد في موضع خفض عطفا على " ذكركم " والمعنى : أو كأشد ذكرا ، ويجوز أن يكون في موضع نصب : أي اذكروه أشد ذكرا .

وقال في الكشاف : إنه عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله : كذكركم كما تقول كذكر قريش آباءهم أو قوم أشد منهم ذكرا .

قوله : فمن الناس من يقول الآية ، لما أرشد سبحانه عباده إلى ذكره ، وكان الدعاء نوعا من أنواع الذكر جعل من يدعوه منقسما إلى قسمين : أحدهما يطلب حظ الدنيا ولا يلتفت إلى حظ الآخرة ، والقسم الآخر يطلب الأمرين جميعا ، ومفعول الفعل ، أعني قوله : آتنا محذوف : أي ما نريد أو ما نطلب ، والواو في قوله : وما له واو الحال ، والجملة بعدها حالية .

والخلاق : النصيب : أي وما لهذا الداعي في الآخرة من نصيب ؛ لأن همه مقصور على الدنيا لا يريد غيرها ولا يطلب سواها .

وفي هذا الخبر معنى النهي عن الاقتصار على طلب الدنيا والذم لمن جعلها غاية رغبته ومعظم مقصوده .

وقد اختلف في تفسير الحسنتين المذكورتين في الآية ، فقيل : هما ما يطلبه الصالحون في الدنيا من العافية وما لا بد منه من الرزق ، وما يطلبونه في الآخرة من نعيم الجنة والرضا ، وقيل : المراد بحسنة الدنيا الزوجة الحسناء ، وحسنة الآخرة الحور العين ، وقيل : حسنة الدنيا العلم والعبادة ، وقيل غير ذلك .

قال القرطبي : والذي عليه أكثر أهل العلم أن المراد بالحسنتين نعيم الدنيا والآخرة .

قال : وهذا هو الصحيح ، فإن اللفظ يقتضي هذا كله ، فإن حسنة نكرة في سياق الدعاء فهو محتمل لكل حسنة من الحسنات على البدل ، وحسنة الآخرة : الجنة بإجماع . انتهى .

قوله : وقنا أصله أوقنا حذفت الواو كما حذفت في يقي لأنها بين ياء وكسرة مثل " يعد " هذا قول البصريين .

وقال الكوفيون : حذفت فرقا بين اللازم والمتعدي .

وقوله أولئك إشارة إلى الفريق الثاني لهم نصيب من جنس ما كسبوا من الأعمال : أي من ثوابها ، ومن جملة أعمالهم الدعاء ، فما أعطاهم الله بسببه من الخير فهو مما كسبوا ، وقيل : إن معنى قوله : مما كسبوا التعليل : أي من أجل ما كسبوا ، وهو بعيد ، وقيل : إن قوله : أولئك إشارة إلى الفريقين جميعا : أي للأولين نصيب من الدنيا ولا نصيب لهم في الآخرة ، وللآخرين نصيب مما كسبوا في الدنيا وفي الآخرة .

وسريع من سرع يسرع كعظم يعظم سرعا وسرعة ، والحساب مصدر كالمحاسبة ، وأصله العدد ، يقال : حسب يحسب حسابا ، وحسابة وحسبانا وحسبا .

والمراد هنا المحسوب ، سمي حسابا تسمية للمفعول بالمصدر ، والمعنى : أن حسابه لعباده في يوم القيامة سريع مجيئه ، فبادروا ذلك بأعمال الخير ، أو أنه وصف نفسه بسرعة حساب الخلائق على كثرة عددهم ، وأنه لا يشغله شأن عن شأن فيحاسبهم في حالة واحدة كما قال تعالى : ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة [ لقمان : 28 ] .

قوله : في أيام معدودات قال القرطبي : لا خلاف بين العلماء أن الأيام المعدودات في هذه الآية هي أيام منى وهي أيام التشريق ، وهي أيام رمي الجمار .

وقال الثعلبي : قال إبراهيم : الأيام المعدودات أيام العشر ، والأيام المعلومات أيام النحر .

وكذا روي عن مكي والمهدوي .

قال القرطبي : ولا يصح لما ذكرناه من الإجماع على ما نقله أبو عمر بن عبد البر وغيره .

وروى الطحاوي عن أبي يوسف أن الأيام المعلومات أيام النحر ، قال : لقوله تعالى : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام [ الحج : 28 ] وحكى الكرخي عن محمد بن الحسن أن الأيام المعلومات أيام النحر الثلاثة : يوم الأضحى ، ويومان بعده .

قال إلكيا الطبري : فعلى قول أبي يوسف ومحمد لا فرق بين المعلومات والمعدودات ، لأن المعدودات المذكورة في القرآن أيام التشريق بلا خلاف .

وروي عن مالك أن الأيام المعدودات والأيام المعلومات يجمعها أربعة أيام ، يوم النحر ، وثلاثة أيام بعده ، فيوم النحر معلوم غير معدود ، واليومان بعده معلومان معدودان ، واليوم الرابع معدود لا معلوم ، وهو مروي عن ابن عمر .

وقال ابن زيد : الأيام المعلومات عشر ذي الحجة ، وأيام التشريق .

والمخاطب بهذا الخطاب المذكور في الآية ، أعني قوله تعالى : واذكروا الله في أيام معدودات هو الحاج وغيره كما ذهب إليه الجمهور ، وقيل : هو خاص بالحاج .

وقد اختلف أهل العلم في وقته ، فقيل : من صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق ، وقيل : من غداة عرفة إلى صلاة العصر من آخر النحر ، وبه قال أبو حنيفة ، وقيل : من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق ، وبه قال مالك والشافعي .

قوله : فمن تعجل الآية ، اليومان هما يوم ثاني النحر ويوم ثالثه .

وقال ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة والنخعي : من [ ص: 133 ] رمى في اليوم الثاني من الأيام المعدودات فلا حرج ، ومن تأخر إلى الثالث فلا حرج ، فمعنى الآية كل ذلك مباح ، وعبر عنه بهذا التقسيم اهتماما وتأكيدا ؛ لأن من العرب من كان يذم التعجل ، ومنهم من كان يذم التأخر ، فنزلت الآية رافعة للجناح في كل ذلك .

وقال علي وابن مسعود : معنى الآية : من تعجل فقد غفر له ، ومن تأخر فقد غفر له ، والآية قد دلت على أن التعجل والتأخر مباحان .

وقوله : لمن اتقى معناه أن التخيير ورفع الإثم ثابت لمن اتقى ؛ لأن صاحب التقوى يتحرز عن كل ما يريبه ، فكان أحق بتخصيصه بهذا الحكم .

قال الأخفش : التقدير ذلك لمن اتقى ، وقيل : لمن اتقى بعد انصرافه من الحج عن جميع المعاصي ، وقيل : لمن اتقى قتل الصيد ، وقيل : معناه السلامة لمن اتقى ، وقيل : هو متعلق بالذكر : أي الذكر لمن اتقى .

وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت : " كانت قريش ومن دان بدينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس ، وكان سائر العرب يقفون بعرفات ، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها ، فذلك قوله تعالى : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس " .

وأخرجا أيضا عنها موقوفا نحوه .

وقد ورد في هذا المعنى روايات عن الصحابة والتابعين .

وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال : إذا كان يوم عرفة هبط الله إلى سماء الدنيا في الملائكة ، فيقول لهم : عبادي آمنوا بوعدي وصدقوا برسلي ما جزاؤهم ؟ فيقال : أن تغفر لهم ، فذلك قوله : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم .

وقد وردت أحاديث كثيرة في المغفرة لأهل عرفة ، ونزول الرحمة عليهم ، وإجابة دعائهم .

وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في قوله تعالى : فإذا قضيتم مناسككم قال : حجكم .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله : فإذا قضيتم مناسككم قال : إهراق الدماء فاذكروا الله كذكركم آباءكم قال : تفاخر العرب بينها بفعال آبائها يوم النحر حين يفرغون ، فأمروا بذكر الله مكان ذلك .

وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس قال : كان المشركون يجلسون في الحج فيذكرون أيام آبائهم وما يعدون من أنسابهم يومهم أجمع ، فأنزل الله على رسوله : فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا .

وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن عبد الله بن الزبير نحوه .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد نحوه .

وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير وعكرمة نحوه أيضا .

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : كذكركم آباءكم يقول : كما يذكر الأبناء الآباء .

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أيضا أنه قيل له في قوله : كذكركم آباءكم إن الرجل ليأتي عليه اليوم وما يذكر أباه ، فقال : إنه ليس بذاك ، ولكن يقول : تغضب لله إذا عصي أشد من غضبك إذا ذكر والدك بسوء .

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون : اللهم اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن ، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئا ، فأنزل الله فيهم فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ويجيء بعدهم آخرون من المؤمنين فيقولون : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار فأنزل الله فيهم أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب .

وأخرج الطبراني عن عبد الله بن الزبير قال : كان الناس في الجاهلية إذا وقفوا عند المشعر الحرام دعوا فقال أحدهم : اللهم ارزقني إبلا ، وقال الآخر : اللهم ارزقني غنما ، فأنزل الله الآية .

وأخرج ابن جرير عن أنس أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة فيدعون : اللهم اسقنا المطر ، وأعطنا على عدونا الظفر ، وردنا صالحين إلى صالحين ، فنزلت الآية .

وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في قوله : أولئك لهم نصيب مما كسبوا قال : مما عملوا من الخير .

وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : سريع الحساب قال : سريع الإحصاء .

وأخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم عن علي قال : الأيام المعدودات ثلاثة أيام : يوم الأضحى ، ويومان بعده ، اذبح في أيها شئت ، وأفضلها أولها .

وأخرج الفريابي وابن أبي الدنيا وابن المنذر عن ابن عمر أنها أيام التشريق الثلاثة .

وفي لفظ : هذه الأيام الثلاثة بعد يوم النحر .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب والضياء في المختارة عن ابن عباس قال : الأيام المعلومات أيام العشر ، والأيام المعدودات أيام التشريق .

وأخرج الطبراني عن ابن الزبير قال في قوله : واذكروا الله في أيام معدودات قال : هن أيام التشريق ، يذكر فيهن بتسبيح وتهليل وتكبير وتحميد .

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الأيام المعدودات أربعة أيام : يوم النحر ، والثلاثة الأيام بعده .

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر أنه كان يكبر تلك الأيام بمنى ويقول : التكبير واجب ، ويتأول هذه الآية واذكروا الله في أيام معدودات .

وأخرج ابن جرير والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه كان يكبر يوم النحر ويتلو هذه الآية .

وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله : واذكروا الله في أيام معدودات قال : التكبير أيام التشريق ، يقول في دبر كل صلاة : الله أكبر الله أكبر الله أكبر .

وأخرج ابن المنذر عن ابن عمر أنه كان يكبر ثلاثا ثلاثا وراء الصلوات ويقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير .

وأخرج مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن عمر بن الخطاب خرج الغد من يوم النحر بمنى حين ارتفع النهار شيئا ، فكبر وكبر الناس بتكبيره ، ثم خرج الثانية في يومه ذلك بعد ارتفاع النهار ، فكبر وكبر الناس بتكبيره حتى بلغ تكبيرهم البيت ، ثم خرج الثالثة من يومه ذلك حين زاغت الشمس ، فكبر وكبر الناس بتكبيره .

وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان [ ص: 134 ] يرمي الجمار ويكبر مع كل حصاة " .

وقد روي نحو ذلك من حديث عائشة عند الحاكم وصححه .

وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه قال : في تعجيله ومن تأخر فلا إثم عليه قال : في تأخيره .

وأخرج ابن جرير عن ابن عمر قال : النفر في يومين لمن اتقى .

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه قال : من غابت له الشمس في اليوم الذي قال الله فيه : فمن تعجل في يومين وهو بمنى فلا ينفرن حتى يرمي الجمار من الغد .

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : لمن اتقى قال : لمن اتقى الصيد وهو محرم .

وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأهل السنن والحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول وهو واقف بعرفة ، وأتاه الناس من أهل مكة فقالوا : يا رسول الله كيف الحج ؟ قال : الحج عرفات ، فمن أدرك ليلة جمع قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك ، أيام منى ثلاثة أيام فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه قال : مغفور له ومن تأخر فلا إثم عليه قال : مغفور له .

وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله : لمن اتقى قال : لمن اتقى في حجه .

قال قتادة : وذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول : من اتقى في حجه غفر له ما تقدم من ذنبه .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبي العالية في قوله : فلا إثم عليه لمن اتقى قال : ذهب إثمه كله إن اتقى فيما بقي من عمره .

التالي السابق


الخدمات العلمية