صفحة جزء
تنبيه

ترتيب وضع السور في المصحف

لترتيب وضع السور في المصحف أسباب تطلع على أنه توقيفي صادر عن حكيم :

أحدها : بحسب الحروف ، كما في الحواميم ، وثانيها : لموافقة أول السورة لآخر ما قبلها ; كآخر " الحمد " في المعنى وأول " البقرة " ، وثالثها : للوزن في اللفظ كآخر " تبت " وأول " الإخلاص " ، ورابعها : لمشابهة جملة السورة لجمله الأخرى مثل : والضحى و ألم نشرح .

قال بعض الأئمة : وسورة الفاتحة تضمنت الإقرار بالربوبية ، والالتجاء إليه في دين الإسلام ، والصيانة عن دين اليهودية والنصرانية .

وسورة " البقرة " تضمنت قواعد الدين ، و " آل عمران " مكملة لمقصودها ; فالبقرة بمنزلة إقامة الدليل على الحكم ، و " آل عمران " بمنزلة الجواب عن شبهات الخصوم ، ولهذا قرن فيها ذكر المتشابه منها بظهور الحجة والبيان ، فإنه نزل أولها في آخر الأمر لما قدم وفد نجران النصارى ، وآخرها يتعلق بيوم أحد . والنصارى تمسكوا بالمتشابه ، فأجيبوا عن شبههم بالبيان ، [ ص: 359 ] ويوم أحد تمسك الكفار بالقتال فقوبلوا بالبيان ، وبه يعلم الجواب لمن تتبع المتشابه من القول والفعل ، وأوجب " الحج " في " آل عمران " ، وأما في " البقرة " فذكر أنه مشروع وأمر بتمامه بعد الشروع فيه ، ولهذا ذكر البيت والصفا والمروة ، وكان خطاب النصارى في " آل عمران " أكثر ، كما أن خطاب اليهود في " البقرة " أكثر ; لأن التوراة أصل والإنجيل فرع لها ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة دعا اليهود وجاهدهم ، وكان جهاده للنصارى في آخر الأمر ; كما كان دعاؤه لأهل الشرك قبل أهل الكتاب ; ولهذا كانت السور المكية فيها الدين الذي اتفق عليه الأنبياء ، فخوطب بها جميع الناس ، والسور المدنية فيها خطاب من أقر بالأنبياء من أهل الكتاب و " المؤمنين " ، فخوطبوا : يا أهل الكتاب ، يا بني إسرائيل .

وأما سورة " النساء " فتتضمن جميع أحكام الأسباب التي بين الناس ; وهي نوعان : مخلوقة لله تعالى ، ومقدورة لهم ; كالنسب والصهر ، ولهذا افتتحها الله بقوله : ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ( النساء : 1 ) ، ثم قال : واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام وبين الذين يتعاهدون ويتعاقدون فيما بينهم ، وما تعلق بذلك من أحكام الأموال والفروج والمواريث . ومنها العهود التي حصلت بالرسالة والمواثيق التي حصلت بالرسالة ، والتي أخذها الله على الرسل .

وأما " المائدة " فسورة العقود ، وبهن تمام الشرائع ; قالوا : وبها تم الدين فهي سورة التكميل ، بها ذكر الوسائل ، كما في " الأنعام " و " الأعراف " ذكر المقاصد ، كالتحليل والتحريم ، كتحريم الدماء والأموال وعقوبة المعتدين . وتحريم الخمر من تمام حفظ العقل والدين ، وتحريم الميتة والدم والمنخنقة ، وتحريم الصيد على المحرم من تمام الإحرام ، وإحلال الطيبات من تمام عبادة الله ، ولهذا ذكر فيها ما يختص بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - كالوضوء والحكم بالقرآن ، فقال تعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ( المائدة : 48 ) وذكر أنه من ارتد عوض الله بخير منه . ولا يزال هذا الدين كاملا ; ولهذا قيل : إنها آخر القرآن نزولا ، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها .

وهذا الترتيب بين هذه السور الأربع المدنيات : " البقرة " ، و " آل عمران " ، و " النساء " ، و " المائدة " من [ ص: 360 ] أحسن الترتيب ; وهو ترتيب المصحف العثماني ، وإن كان مصحف عبد الله بن مسعود قدمت فيه سورة " النساء " على " آل عمران " ; وترتيب بعضها بعد بعض ليس هو أمرا أوجبه الله ، بل أمر راجع إلى اجتهادهم واختيارهم ، ولهذا كان لكل مصحف ترتيب ، ولكن ترتيب المصحف العثماني أكمل ; وإنما لم يكتب في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مصحف لئلا يفضي إلى تغييره كل وقت ، فلهذا تأخرت كتابته إلى أن كمل نزول القرآن بموته - صلى الله عليه وسلم - فكتب أبو بكر والصحابة بعده ، ثم نسخ عثمان المصاحف التي بعث بها إلى الأمصار .

التالي السابق


الخدمات العلمية