صفحة جزء
[ ص: 382 ] النوع السابع عشر

المعرب في القرآن

ومعرفة ما فيه من غير لغة العرب

اعلم أن القرآن أنزله الله بلغة العرب ، فلا يجوز قراءته وتلاوته إلا بها ; لقوله تعالى : إنا أنزلناه قرآنا عربيا ( يوسف : 2 ) ، وقوله : ولو جعلناه قرآنا أعجميا الآية ( فصلت : 44 ) ، يدل على أنه ليس فيه غير العربي ; لأن الله تعالى جعله معجزة شاهدة لنبيه عليه الصلاة والسلام ، ودلالة قاطعة لصدقه ، وليتحدى العرب العرباء به ، ويحاضر البلغاء [ ص: 383 ] والفصحاء والشعراء بآياته ; فلو اشتمل على غير لغة العرب لم تكن له فائدة ; هذا مذهب الشافعي رضي الله عنه ، وهو قول جمهور العلماء ، منهم : أبو عبيدة ، ومحمد بن جرير الطبري ، والقاضي أبو بكر بن الطيب في كتاب " التقريب " ، وأبو الحسين بن فارس اللغوي ، وغيرهم .

وقال الشافعي في " الرسالة " في باب البيان الخامس ما نصه : وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه لكان الإمساك أولى به ، فقال قائل منهم : إن في القرآن عربيا وأعجميا ، والقرآن يدل على أنه ليس في كتاب الله شيء إلا بلسان العرب ، ووجدنا قائل هذا القول من قبل ذلك منه تقليدا له وتركا للمسألة له عن حجته ، ومسألة غيره ممن خالفه ، وبالتقليد أغفل من أغفل منهم ، والله يغفر لنا ولهم " هذا كلامه .

وقال أبو عبيدة فيما حكاه ابن فارس : إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين ، فمن زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول ، ومن زعم أن كذا بالنبطية فقد أكبر القول ، قال : ومعناه أتى بأمر عظيم ، وذلك أن القرآن لو كان فيه من غير لغة العرب شيء لتوهم متوهم أن العرب إنما عجزت عن الإتيان بمثله ; لأنه أتى بلغات لا يعرفونها ، وفي ذلك ما فيه ، وإن كان كذلك فلا وجه لقول من يجيز القراءة في الصلاة بالفارسية ; لأنها ترجمة غير معجزة ، وإذا جاز ذلك لجازت الصلاة بكتب التفسير ، وهذا لا يقول به أحد . انتهى .

وممن نقل عنه جواز القراءة بالفارسية أبو حنيفة ، لكن صح رجوعه عن ذلك ، ومذهب ابن عباس وعكرمة وغيرهما أنه وقع في القرآن ما ليس من لغتهم .

[ ص: 384 ] فمن ذلك الطور ( الطور : 1 ) جبل بالسريانية .

( وطفقا ) ( الأعراف : 22 ) أي : قصدا بالرومية .

و ( القسط ) ( الأنعام : 152 ) ، و ( القسطاس ) ( الإسراء : 35 ) ، العدل بالرومية .

( إنا هدنا إليك ) ( الأعراف : 156 ) تبنا بالعبرانية .

و ( السجل ) ( الأنبياء : 104 ) بالفارسية .

و ( الرقيم ) ( الكهف : 9 ) : اللوح بالرومية .

و ( المهل ) ( الكهف : 29 ) عكر الزيت بلسان أهل المغرب .

و ( السندس ) ( الكهف : 31 ) : الرقيق من الستر بالهندية .

والـ ( إستبرق ) ( الكهف : 31 ) : الغليظ بالفارسية ، بحذف القاف .

( السري ) ( مريم : 24 ) : النهر الصغير باليونانية .

( طه ) ( طه : 1 ) أي : طأ يا رجل بالعبرانية .

( يصهر ) ( الحج : 20 ) : أي ينضح بلسان أهل المغرب .

[ ص: 385 ] ( سينين ) ( التين : 2 ) : الحسن بالنبطية .

( المشكاة ) ( النور : 35 ) الكوة بالحبشية ، وقيل : الزجاجة تسرج .

الـ ( دري ) ( النور : 35 ) المضيء بالحبشية .

ال ( الأليم ) ( البقرة : 10 ) المؤلم بالعبرانية .

( ناظرين إناه ) ( الأحزاب : 53 ) أي : نضجه بلسان أهل المغرب .

( الملة الآخرة ) ( ص : 7 ) أي : الأولى بالقبطية ، والقبط يسمون الآخرة الأولى ، والأولى الآخرة .

( وراءهم ملك ) ( الكهف : 79 ) أي : أمامهم .

( اليم ) ( الأعراف : 136 ) البحر بالقبطية .

( بطائنها ) ( الرحمن : 54 ) : ظواهرها ، بالقبطية .

( الأب ) ( عبس : 31 ) : الحشيش بلغة أهل المغرب .

( إن ناشئة الليل ) ( المزمل : 6 ) قال ابن عباس : نشأ بلغة الحبشة : قام من الليل .

( كفلين من رحمته ) ( الحديد : 28 ) : قال أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - : ضعفين بلغة الحبشة .

[ ص: 386 ] ( القسورة ) ( المدثر : 51 ) : الأسد بلغة الحبشة .

واختار الزمخشري أن التوراة والإنجيل ( آل عمران : 3 ) أعجميان ، ورجح ذلك بقراءة " الأنجيل " بالفتح ، ثم اختلفوا فقال الطبري : هذه الأمثلة المنسوبة إلى سائر اللغات إنما اتفق فيها أن تتوارد اللغات ، فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة بلفظ واحد ، وحكاه ابن فارس عن أبي عبيد .

وقال ابن عطية : " بل كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلغتهم بعض مخالطة لسائر الألسنة بتجارات ، وبرحلتي قريش ، وكسفر مسافر بن أبي عمرو إلى الشام ، وسفر عمر بن الخطاب ، وكسفر عمرو بن العاص ، وعمارة بن الوليد إلى أرض الحبشة ، وكسفر الأعشى إلى الحيرة وصحبته مع كونه حجة في اللغة ، فعلقت العرب بهذا كله ألفاظا أعجمية غيرت بعضها بالنقص من حروفها وجرت في تخفيف ثقل العجمة ، واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها حتى جرت مجرى العربي الفصيح ، ووقع بها البيان ، وعلى هذا الحد نزل بها القرآن ، فإن جهلها عربي فكجهله الصريح بما في لغة غيره ، وكما لم يعرف ابن عباس معنى فاطر إلى غير ذلك .

قال : فحقيقة العبارة عن هذه الألفاظ أنها في الأصل أعجمية ، لكن استعملتها العرب وعربتها ، فهي عربية بهذا الوجه .

[ ص: 387 ] قال : وما ذهب إليه الطبري من أن اللغتين اتفقتا في لفظه فذلك بعيد ، بل إحداهما أصل والأخرى فرع في الأكثر ; لأنا لا ندفع أيضا جواز الاتفاقات إلا قليلا شاذا .

وقال القاضي أبو المعالي عزيزي بن عبد الملك : " إنما وجدت هذه في كلام العرب ; لأنها أوسع اللغات وأكثرها ألفاظا ، ويجوز أن يكون العرب قد سبقها غيرهم إلى هذه الألفاظ ، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مبعوث إلى كافة الخلق ، قال تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ( إبراهيم : 4 ) .

وحكى ابن فارس عن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه حكى الخلاف في ذلك ، ونسب القول بوقوعه إلى الفقهاء ، والمنع إلى أهل العربية ، ثم قال أبو عبيد : والصواب عندي مذهب فيه تصديق القولين جميعا ، وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء ، إلا أنها سقطت إلى العرب فعربتها بألسنتها ، وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربية ، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب ، فمن قال : إنها عربية فهو صادق ، ومن قال : أعجمية فصادق . قال : وإنما فسرنا هذا لئلا يقدم أحد على الفقهاء ، فينسبهم إلى الجهل ، ويتوهم عليهم أنهم أقدموا على كتاب الله بغير ما أراده ، فهم كانوا أعلم بالتأويل ، وأشد تعظيما للقرآن .

قال ابن فارس : وليس كل من خالف قائلا في مقالته ينسبه إلى الجهل ، فقد اختلف الصدر الأول في تأويل القرآن .

قال : فالقول إذن ما قاله أبو عبيد ، وإن كان قوم من الأوائل قد ذهبوا إلى غيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية