صفحة جزء
[ ص: 388 ] النوع الثامن عشر

معرفة غريبه

وهو معرفة المدلول ; وقد صنف فيه جماعة ; منهم : أبو عبيدة " كتاب . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . [ ص: 389 ] [ ص: 390 ] [ ص: 391 ] [ ص: 392 ] [ ص: 393 ] المجاز " ، وأبو عمر غلام ثعلب " ياقوتة الصراط " ، ومن أشهرها كتاب ابن عزيز ، و " الغريبين " للهروي ، ومن أحسنها كتاب " المفردات " للراغب .

[ ص: 394 ] وهو يتصيد المعاني من السياق ; لأن مدلولات الألفاظ خاصة . قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح : " وحيث رأيت في كتب التفسير : " قال أهل المعاني " ، فالمراد به مصنفو الكتب في معاني القرآن ; كالزجاج ومن قبله ، وفي بعض كلام الواحدي أكثر أهل المعاني : الفراء والزجاج وابن الأنباري ، قالوا : كذا " . انتهى .

ويحتاج الكاشف عن ذلك إلى معرفة علم اللغة : اسما وفعلا وحرفا ; فالحروف لقلتها تكلم النحاة على معانيها ; فيؤخذ ذلك من كتبهم .

وأما الأسماء والأفعال فيؤخذ ذلك من كتب اللغة ، وأكثر الموضوعات في علم اللغة كتاب ابن سيد ، فإن الحافظ أبا محمد علي بن أحمد الفارسي ذكر أنه في مائة سفر ; بدأ بالفلك وختم بالذرة . ومن الكتب المطولة كتاب الأزهري ، و " الموعب " لابن التياني [ ص: 395 ] و " المحكم " لابن سيده ، وكتاب " الجامع " للقزاز ، و " الصحاح " للجوهري ، و " البارع " لأبي علي القالي ، و " مجمع البحرين " للصاغاني .

ومن الموضوعات في الأفعال كتاب ابن القوطية ، وكتاب ابن طريف ، وكتاب [ ص: 396 ] السرقسطي المنبوز بالحمار ، ومن أجمعها كتاب ابن القطاع .

ومعرفة هذا الفن للمفسر ضروري ، وإلا فلا يحل له الإقدام على كتاب الله تعالى .

قال يحيى بن نضلة المديني : سمعت مالك بن أنس يقول : " لا أوتى برجل يفسر كتاب الله غير عالم بلغة العرب ; إلا جعلته نكالا " .

وقال مجاهد : لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالما بلغات العرب .

وروى عكرمة عن ابن عباس قال : إذا سألتموني عن غريب اللغة فالتمسوه في الشعر ; فإن الشعر ديوان العرب .

وعنه في قوله تعالى : والليل وما وسق ( الانشقاق : 17 ) قال : " ما جمع " ، وأنشد :


إن لنا قلائصا حقائقا مستوسقات لو يجدن سائقا

وقال : ما كنت أدري ما قوله تعالى : ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ( الأعراف : 89 ) حتى سمعت ابنة ذي يزن الحميري وهي تقول : أفاتحك ، يعني [ ص: 397 ] أقاضيك ، وفي سورة " السجدة " : متى هذا الفتح إن كنتم صادقين ( الآية : 28 ) يعني متى هذا القضاء ؟ وقوله : وهو الفتاح العليم ( سبأ : 26 ) ، وقوله : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ( الفتح : 1 ) أي : قضاء مبينا .

وقال أيضا : ما كنت أدري ما " فاطر السماوات والأرض " حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، يعني ابتدأتها .

وجاءه رجل من هذيل ، فقال له ابن عباس : ما فعل فلان ؟ قال : مات ، وترك أربعة من الولد ، وثلاثة من الوراء . فقال ابن عباس : فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ( هود : 71 ) قال : ولد الولد .

ومسائل نافع له عن مواضع من القرآن ، واستشهاد ابن عباس في كل جواب بيت ، ذكرها [ ابن ] الأنباري في كتاب " الوقف والابتداء " بإسناده ، وقال : فيه دلالة على بطلان قول من أنكر على النحويين احتجاجهم على القرآن بالشعر ، وأنهم جعلوا الشعر أصلا للقرآن ، وليس كذلك ، وإنما أراد النحويون أن يثبتوا الحرف الغريب من القرآن بالشعر ; لأن الله تعالى قال : إنا أنزلناه قرآنا عربيا ( يوسف : 2 ) ، وقال تعالى : بلسان عربي مبين ( الشعراء : 195 ) .

وقال ابن عباس : " الشعر ديوان العرب ; فإذا خفي عليهم الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغتهم رجعوا إلى ديوانهم فالتمسوا معرفة ذلك " .

ثم إن كان ما تضمنه ألفاظها يوجب العمل دون العلم كفى فيه الاستشهاد بالبيت والبيتين ، وإن كان ما يوجب العلم لم يكف ذلك ، بل لا بد من أن يستفيض ذلك اللفظ وتكثر شواهده من الشعر .

[ ص: 398 ] وينبغي العناية بتدبر الألفاظ كي لا يقع الخطأ ، كما وقع لجماعة من الكبار ، فروى الخطابي عن أبي العالية أنه سئل عن معنى قوله : الذين هم عن صلاتهم ساهون ( الماعون : 5 ) فقال : هو الذي ينصرف عن صلاته ولا يدري عن شفع أو وتر . قال الحسن : مه يا أبا العالية ، ليس هكذا ; بل الذين سهوا عن ميقاتهم حتى تفوتهم ، ألا ترى قوله : عن صلاتهم ؟ ! فلما لم يتدبر أبو العالية حرف " في " و " عن " تنبه له الحسن ، إذ لو كان المراد ما فهم أبو العالية لقال : " في صلاتهم " ، فلما قال : " عن صلاتهم " دل على أن المراد به الذهاب عن الوقت ، ولذلك قال ابن قتيبة في قوله تعالى : ومن يعش عن ذكر الرحمن ( الزخرف : 36 ) أنه من عشوت أعشو عشوا : إذا نظرت ، وغلطوه في ذلك ، وإنما معناه يعرض ، وإنما غلط ; لأنه لم يفرق بين عشوت إلى الشيء ، وعشوت عنه .

وقال أبو عبيدة في قوله تعالى : وأصبح فؤاد أم موسى فارغا ( القصص : 10 ) قال : فارغا من الحزن ; لعلمها أنه لم يغرق ، ومنه : " دم فراغ " ، أي : لا قود فيه ولا دية .

وقال بعض الأدباء : أخطأ أبو عبيدة في المعنى ; لو كان قلبها فارغا من الحزن عليه لما قال تعالى : لولا أن ربطنا على قلبها ( القصص : 10 ) ; لأنها كادت تبدي به .

وهذا الباب عظيم الخطر ; ومن هنا تهيب كثير من السلف تفسير القرآن ، وتركوا القول فيه ; حذرا أن يزلوا فيذهبوا عن المراد ، وإن كانوا علماء باللسان فقهاء في الدين ، وكان الأصمعي - وهو إمام اللغة - لا يفسر شيئا من غريب القرآن ، وحكي عنه أنه سئل عن قوله [ ص: 399 ] تعالى : شغفها حبا ( يوسف : 30 ) فسكت وقال : هذا في القرآن ، ثم ذكر قولا لبعض العرب في جارية لقوم أرادوا بيعها : أتبيعونها وهي لكم شغاف ؟ ولم يزد على هذا . ولهذا حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على تعلم إعراب القرآن ، وطلب معاني الغريب منه .

واعلم أنه ليس لغير العالم بحقائق اللغة وموضوعاتها تفسير شيء من كلام الله ، ولا يكفي في حقه تعلم اليسير منها ، فقد يكون اللفظ مشتركا وهو يعلم أحد المعنيين والمراد المعنى الآخر ، وهذا أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - من أفصح قريش ، سئل أبو بكر عن " الأب " ( عبس : 31 ) فقال أبو بكر : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كلام الله ما لا أعلم ؟

وقرأ عمر سورة " عبس " ، فلما بلغ الأب قال : الفاكهة قد عرفناها فما الأب ؟ ثم قال : لعمرك يا ابن الخطاب ، إن هذا لهو التكلف . وروي عنه أيضا أنه قال : آمنا به كل من عند ربنا ( آل عمران : 7 ) ، وفي رواية قال : فما الأب ؟ ثم قال : ما كلفنا ، أو ما أمرنا بهذا .

وما ذاك بجهل منهما لمعنى " الأب " ، وإنما يحتمل - والله أعلم - أن " الأب " من الألفاظ المشتركة في لغتهما ، أو في لغات ، فخشيا إن فسراه بمعنى من معانيه أن يكون المراد غيره ، ولهذا اختلف المفسرون في معنى الأب على سبعة أقوال : فقيل : ما ترعاه البهائم ، وأما ما يأكله الآدمي فالحصيد ، والثاني : التبن خاصة ، والثالث : كل ما نبت على وجه الأرض ، والرابع : ما سوى الفاكهة ، والخامس : الثمار الرطبة ، وفيه بعد ; لأن الفاكهة تدخل في [ ص: 400 ] الثمار الرطبة ، ولا يقال : أفردت للتفصيل ; إذ لو أريد ذلك لتأخر ذكرها نحو : فاكهة ونخل ورمان ( الرحمن : 68 ) ، والسادس أن رطب الثمار هو الفاكهة ، ويابسها هو الأب ، والسابع : أنه للأنعام كالفاكهة للناس .

ويحتمل قول عمر غير ما سبق وجهين :

أحدهما : أن يكون خفي عليه معناه وإن شهر ، كما خفي على ابن عباس معنى " فاطر السماوات " .

والثاني : أراد تخويف غيره من التعرض للتفسير بما لا يعلم ، كما كان يقول : أقلوا الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا شريككم . يريد الاحتراز ، فإن من احترز قلت روايته .

التالي السابق


الخدمات العلمية