صفحة جزء
وعلى الناظر في كتاب الله الكاشف عن أسراره النظر في هيئة الكلمة وصيغتها ومحلها ; ككونها مبتدأ أو خبرا أو فاعلة أو مفعولة ، أو في مبادئ الكلام أو في جواب ، إلى غير ذلك من تعريف أو تنكير أو جمع قلة أو كثرة إلى غير ذلك .

ويجب عليه مراعاة أمور :

أحدها - وهو أول واجب عليه - : أن يفهم معنى ما يريد أن يعربه مفردا كان أو مركبا قبل الإعراب ; فإنه فرع المعنى ، ولهذا لا يجوز إعراب فواتح السور إذا قلنا بأنها من المتشابه الذي استأثره الله بعلمه ; ولهذا قالوا في توجيه النصب في كلالة في قوله تعالى : وإن كان رجل يورث كلالة [ ص: 411 ] ( النساء : 12 ) أنه يتوقف على المراد بالكلالة ، هل هو اسم للميت أو للورثة أو للمال ، فإن كان اسما للميت فهي منصوبة على الحال ، وإن " كان " تامة لا خبر لها بمعنى وجد . ويجوز أن تكون ناقصة ، والكلالة خبرها ، وجاز أن يخبر عن النكرة ; لأنها قد وصفت بقوله : يورث ، والأول أوجه ، وإن كانت اسما للورثة فهي منصوبة على الحال من ضمير يورث لكن على حذف مضاف ، أي : ذا كلالة ، وعلى هذا فـ " كان " ناقصة ، ويورث خبر ، ويجوز أن تكون تامة ، فـ " يورث " صفة ، ويجوز أن يكون خبرا ، فتكون صفته ، وإن كانت اسما للمال فهي مفعول ثان لـ " يورث " كما تقول : ورثت زيدا مالا . وقيل : تمييز وليس بشيء ، ومن جعل الـ ( كلالة ) الوارثة فهي نعت لمصدر محذوف ; أي : وارثه كلالة ، أي : يورث بالوراثة التي يقال لها الكلالة ، هذا كله على قراءة يورث بفتح الراء ، فأما من قرأ يورث بكسرها مخففة أو مشددة ، فالكلالة هي الورثة أو المال .

ومن ذلك تقاة في قوله تعالى : إلا أن تتقوا منهم تقاة ( آل عمران : 28 ) في نصبها ثلاثة أوجه مبنية على تفسيرها ، فإن كانت بمعنى الاتقاء فهي مصدر كقوله تعالى : أنبتكم من الأرض نباتا ( نوح : 17 ) ، وإن كانت بمعنى المفعول أي : أمرا يجب اتقاؤه فهي نصب على المفعول به ، وإن كانت جمعا لـ " رام " و " رماة " فهي نصب على الحال .

ومن ذلك إعراب أحوى من قوله تعالى : غثاء أحوى ( الأعلى : 5 ) ، وفيه قولان متضادان : أحدهما : أنه الأسود من الجفاف واليبس ، والثاني : أنه الأسود من شدة الخضرة ، كما فسر : مدهامتان ( الرحمن : 64 ) فعلى الأول هو صفة لـ غثاء ، وعلى الثاني هو حال من المرعى ، وأخر لتناسب الفواصل .

ومنه قوله تعالى : ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء ‎وأمواتا ( المرسلات : 25 و 26 ) ، فإنه قيل : الكفات الأوعية ، ومفردها " كفت " ، والأحياء والأموات كناية عما نبت وما لا ينبت ، وقيل : الكفات مصدر كفته إذا ضمه وجمعه ، فعلى الأول أحياء وأمواتا صفة لكفاتا ، كأنه قيل : أوعية حية وميتة ، أو حالان ; وعلى الثاني فهما مفعولان لمحذوف ، ودل عليه " كفاتا " أي : يجمع " أحياء وأمواتا " .

[ ص: 412 ] ومنه قوله : سبعا من المثاني ( الحجر : 87 ) ، فإنه إن كان المراد به القرآن فـ " من " للتبعيض ، و ( القرآن ) حينئذ من عطف العام على الخاص ; وإن كانت الفاتحة فـ ( من ) لبيان الجنس ، أي : سبعا هي المثاني .

تنبيه

قد يقع في كلامهم : " هذا تفسير معنى " ، و " هذا تفسير إعراب " ، والفرق بينها أن تفسير الإعراب لا بد فيه من ملاحظة الصناعة النحوية ، وتفسير المعنى لا يضر مخالفة ذلك ، وقد قال سيبويه في قوله تعالى : ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق ( 171 ) " تقديره : مثلك يا محمد ، ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به " .

واختلف الشارحون في فهم كلام سيبويه ; فقيل : هو تفسير معنى ، وقيل : تفسير إعراب ، فيكون في الكلام حذفان : حذف من الأول ، وهو حذف داعيهم ، وقد أثبت نظيره في الثاني ، وحذف من الثاني ، وهو حذف المنعوق ، وقد أثبت نظيره في الأول ; فعلى هذا يجوز مثل ذلك في الكلام .

التالي السابق


الخدمات العلمية