صفحة جزء
[ ص: 149 ] النوع الثالث

معرفة الفواصل ورءوس الآي .

وهي كلمة آخر الآية ، كقافية الشعر وقرينة السجع . وقال الداني : " كلمة آخر الجملة " . قال الجعبري : " وهو خلاف المصطلح ، ولا دليل له في تمثيل سيبويه ( يوم يأت ) ( هود : 105 ) و ( ما كنا نبغ ) ( الكهف : 64 ) وليسا رأس آية ; لأن مراده الفواصل اللغوية لا الصناعية ، ويلزم أبا عمرو إمالة ( من أعطى ) ( الليل : 5 ) لأبي [ ص: 150 ] عمرو . وقال القاضي أبو بكر : " الفواصل حروف متشاكلة في المقاطع ، يقع بها إفهام المعاني " انتهى .

وفرق الإمام أبو عمرو الداني بين الفواصل ورءوس الآي ، قال : " أما الفاصلة فهي الكلام المنفصل مما بعده . والكلام المنفصل قد يكون رأس آية وغير رأس ، وكذلك الفواصل يكن رءوس آي وغيرها ، وكل رأس آية فاصلة ، وليس كل فاصلة رأس آية ، فالفاصلة تعم النوعين ، وتجمع الضربين ، ولأجل كون معنى الفاصلة هذا ذكر سيبويه في تمثيل القوافي ( يوم يأت ) ( هود : 105 ) و ( ما كنا نبغ ) ( الكهف : 64 ) - وهما غير رأس آيتين بإجماع - مع ( إذا يسر ) ( الفجر : 4 ) وهو رأس آية باتفاق " انتهى .

وتقع الفاصلة عند الاستراحة في الخطاب لتحسين الكلام بها ، وهي الطريقة التي يباين القرآن بها سائر الكلام وتسمى " فواصل " ; لأنه ينفصل عندها الكلامان ; وذلك أن آخر الآية فصل بينها وبين ما بعدها ، ولم يسموها " أسجاعا " .

فأما مناسبة " فواصل " ، فلقوله تعالى : ( كتاب فصلت آياته ) ( فصلت : 3 ) ، وأما تجنب " أسجاع " فلأن أصله من سجع الطير ، فشرف القرآن الكريم أن يستعار لشيء فيه لفظ هو أصل في صوت الطائر ، ولأجل تشريفه عن مشاركة غيره من الكلام الحادث في اسم [ ص: 151 ] السجع الواقع في كلام آحاد الناس ، ولأن القرآن من صفات الله - عز وجل - فلا يجوز وصفه بصفة لم يرد الإذن بها وإن صح المعنى .

ثم فرقوا بينهما فقالوا : " السجع هو الذي يقصد في نفسه ثم يحيل المعنى عليه ، والفواصل التي تتبع المعاني ، ولا تكون مقصودة في نفسها " . قاله الرماني في كتاب " إعجاز القرآن " وبنى عليه أن الفواصل بلاغة ، والسجع عيب .

وتبعه القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب " إعجاز القرآن " ، ونقل عن الأشعرية امتناع كون في القرآن سجع . قال : " ونص عليه الشيخ أبو الحسن الأشعري في غير موضع من كتبه " قال : " وذهب كثير من مخالفيهم إلى إثبات السجع في القرآن ، وزعموا أن ذلك مما تبين فيه فضل الكلام ، وأنه من الأجناس التي يقع بها التفاضل في البيان والفصاحة كالتجنيس والالتفاف ونحوها " . قال : " وأقوى ما استدلوا به الاتفاق على أن موسى أفضل من هارون - عليهما السلام - ولمكان السجع قيل في موضع : ( هارون وموسى ) ( طه : 70 ) ، ولما كانت الفواصل في موضع آخر بالواو والنون قيل : ( موسى وهارون ) ( الشعراء : 48 ) قالوا : وهذا يفارق أمر الشعر ؛ لأنه لا يجوز أن يقع في الخطاب إلا مقصودا إليه ، وإذا وقع غير مقصود إليه كان دون القدر الذي نسميه شعرا ، وذلك القدر يتفق [ ص: 152 ] وجوده من المفحم ، كما يتفق وجوده في الشعر ، وأما ما جاء في القرآن من السجع فهو كثير لا يصح أن يتفق كله غير مقصود إليه .

قال : " وبنوا الأمر في ذلك على تحديد معنى السجع ; قال أهل اللغة : هو موالاة الكلام على روي واحد . قال ابن دريد : " سجعت الحمامة : معناه رددت صوتها " .

قال القاضي : " وهذا الذي يزعمونه غير صحيح ، ولو كان القرآن سجعا لكان غير خارج عن أساليب كلامهم ، ولو كان داخلا فيها لم يقع بذلك إعجاز ، ولو جاز أن يقال هو سجع معجز لجاز لهم أن يقولوا : شعر معجز ، وكيف والسجع مما كانت كهان العرب تألفه ، ونفيه من القرآن أجدر بأن يكون حجة من نفي الشعر ; لأن الكهانة تخالف النبوات بخلاف الشعر " .

" وما توهموا من أنه سجع باطل ; لأن مجيئه على صورته لا يقتضي كونه هو ; لأن السجع من الكلام يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع ، وليس كذلك ما اتفق مما هو في معنى السجع من القرآن ; لأن اللفظ وقع فيه تابعا للمعنى ، وفرق بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه وبين أن يكون المعنى منتظما دون اللفظ ، ومتى ارتبط المعنى بالسجع كان إفادة السجع كإفادة غيره ، ومتى انتظم المعنى بنفسه دون السجع كان مستجلبا لتحسين الكلام دون تصحيح المعنى .

[ ص: 153 ] قال : " وما ذكروه في تقديم موسى على هارون في موضع وتأخيره عنه في موضع لأجل السجع ، وتساوي مقاطع الكلام فمردود ، بل الفائدة فيه إعادة القصة الواحدة بألفاظ مختلفة تؤدي معنى واحدا ، وذلك من الأمر الصعب الذي تظهر فيه الفصاحة وتقوى البلاغة ، ولهذا أعيدت كثير من القصص في مواضع كثيرة مختلفة على ترتيبات متفاوتة ; تنبيها بذلك على عجزهم عن الإتيان بمثله ، مبتدأ به ومتكررا .

ولو أمكنهم المعارضة لقصدوا تلك القصة وعبروا عنها بألفاظ لهم تؤدي إلى تلك المعاني ونحوها . فعلى هذا ، القصد بتقديم بعض الكلمات على بعض وتأخيرها إظهار الإعجاز دون السجع " إلى أن قال : " فبان بما قلنا أن الحروف الواقعة في الفواصل ، مناسبة موقع النظائر التي تقع في الأسجاع لا تخرجها عن حدها ، ولا تدخلها في باب السجع ، وقد بينا أنهم يذمون كل سجع خرج عن اعتدال الأجزاء ، فكان بعض مصاريعه كلمتين ، وبعضها أربع كلمات ، ولا يرون ذلك فصاحة ، بل يرونه عجزا ، فلو فهموا اشتمال القرآن على السجع لقالوا : نحن نعارضه بسجع معتدل ، فنزيد في الفصاحة على طريق القرآن " انتهى ما ذكره القاضي والرماني .

رد عليهما الخفاجي في كتاب " سر الفصاحة " فقال : " وأما قول الرماني : إن السجع [ ص: 154 ] عيب ، والفواصل بلاغة فغلط ، فإنه إن أراد بالسجع ما يتبع المعنى وكأنه غير مقصود ، فذلك بلاغة والفواصل مثله ، وإن أراد به ما تقع المعاني تابعة له وهو مقصود متكلف ، فذلك عيب ، والفواصل مثله " . قال : وأظن أن الذي دعاهم إلى تسمية كل ما في القرآن فواصل ولم يسموا ما تماثلت حروفه سجعا رغبتهم في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام المروي عن الكهنة وغيرهم وهذا غرض في التسمية قريب ، والحقيقة ما قلناه .

ثم قال : والتحرير أن الأسجاع حروف متماثلة في مقاطع الفواصل . فإن قيل إذا كان عندكم أن السجع محمود فهلا ورد القرآن كله مسجوعا ! وما الوجه في ورود بعضه مسجوعا وبعضه غير مسجوع ؟ قلنا : إن القرآن نزل بلغة العرب وعلى عرفهم وعادتهم ، وكان الفصيح منهم لا يكون كلامه كله مسجوعا لما فيه من أمارات التكلف والاستكراه والتصنع ، لا سيما فيما يطول من الكلام ، فلم يرد كله مسجوعا جريا منه على عرفهم في الطبقة العالية من كلامهم ، ولم يخل من السجع ؛ لأنه يحسن في بعض الكلام على الصفة السابقة ، فهذا هو السبب في ورود بعضه كذلك وبعضه بخلافه " .

وخصت فواصل الشعر باسم القوافي لأن الشاعر يقفوها ولا يتبعها في الشعر ، لا يخرج عنها ، وهي في الحقيقة فاصلة ؛ لأنها تفصل آخر الكلام ، فالقافية أخص في الاصطلاح ؛ إذ كل قافية فاصلة ولا عكس .

ويمتنع استعمال القافية في كلام الله تعالى ؛ لأن الشرع لما سلب عنه اسم الشعر وجب سلب القافية أيضا عنه ; لأنها منه ، وخاصة به في الاصطلاح ، وكما يمتنع استعمال القافية في القرآن لا تنطلق الفاصلة في الشعر ؛ لأنها صفة لكتاب الله فلا تتعداه .

قيل : وقد يقع في القرآن الإيطاء ، وهو ليس بقبيح فيه ؛ إنما يقبح في الشعر كقوله تعالى [ ص: 155 ] في سورة البقرة : ( كأنهم لا يعلمون ) ( الآية : 101 ) ، ثم قال في آخرين : ( لو كانوا يعلمون ) ( 102 - 103 ) ، ثلاث فواصل متوالية : ( يعلمون ) ، ( يعلمون ) ، فهذا لا يقبح في القرآن قولا واحدا .

قيل : ويقع فيه التضمين وليس بقبيح ، إنما يقبح في الشعر ، ومنه سورتان : الفيل وقريش ; فإن اللام في ( لإيلاف قريش ) ( قريش : 1 ) ، قيل إنها متعلقة بـ ( فجعلهم ) ( الفيل : 5 ) في آخر الفيل .

وحكى حازم في " منهاج البلغاء " خلافا غريبا فقال : وللناس في الكلام المنثور من جهة تقطيعه إلى مقادير بتفاوت في الكمية وتتناسب مقاطعها على ضرب منها أو بالنقلة من ضرب واقع في ضربين أو أكثر إلى ضرب آخر مزدوج ، في كل ضرب ضرب منها أو يزيد على الازدواج ، ومن جهة ما يكون غير مقطع إلى مقادير يقصد لمناسبة أطرافها ، وتقارب ما بينها في كمية الألفاظ والحروف ، ثلاثة مذاهب :

منهم من يكره تقطيع الكلام إلى مقادير متناسبة الأطراف غير متقاربة في الطول والقصر لما فيه من التكلف ، إلا ما يقع به الإلمام في النادر من الكلام .

والثاني أن التناسب الواقع بإفراغ الكلام في قوالب التقفية وتحليتها بمناسبات المقاطع أكيد جدا .

والثالث - وهو الوسط - أن السجع لما كان زينة للكلام ، فقد يدعو إلى التكلف ، فرئي ألا يستعمل في جملة الكلام ، وأن لا يخلى الكلام بالجملة منه أيضا ، ولكن يقبل من [ ص: 156 ] الخاطر فيه ما اجتلبه عفوا ، بخلاف التكلف ، وهذا إذا رأي أبي الفرج قدامة .

قال أبو الحسن : وكيف يعاب السجع على الإطلاق ! وإنما نزل القرآن على أساليب الفصيح من كلام العرب ، فوردت الفواصل فيه بإزاء ورود الأسجاع في كلام العرب ، وإنما لم يجئ على أسلوب واحد ; لأنه لا يحسن في الكلام جميعا أن يكون مستمرا على نمط واحد لما فيه من التكلف ، ولما في الطبع من الملل عليه ، ولأن الافتنان في ضروب الفصاحة أعلى من الاستمرار على ضرب واحد ، فلهذا وردت بعض آي القرآن متماثلة المقاطع ، وبعضها غير متماثل .

التالي السابق


الخدمات العلمية