صفحة جزء
فصل

في مد التاء وقبضها

وذلك أن هذه الأسماء لما لازمت الفعل ، صار لها اعتباران : أحدهما من حيث [ ص: 40 ] هي أسماء وصفات ، وهذا تقبض منه التاء . والثاني من حيث أن يكون مقتضاها فعلا وأثرا ظاهرا في الوجود ، فهذا تمد فيه ، كما تمد في قالت ( البقرة : 113 ) و حقت ( يونس : 33 ) وجهة الفعل والأمر ملكية ظاهرة ، وجهة الاسم والصفة ملكوتية باطنة .

فمن ذلك الرحمة مدت في سبعة مواضع للعلة المذكورة : بدليل قوله في أحدها : " " إن رحمت الله قريب من المحسنين " " ( الأعراف : 56 ) فوضعها على التذكير ، فهو الفعل .

وكذلك : " " فانظر إلى آثار رحمت الله " " ( الروم : 50 ) والأثر هو الفعل ضرورة .

والثالث : " " أولئك يرجون رحمت الله " " ( البقرة : 218 ) .

والرابع في هود : " " رحمت الله وبركاته " " ( هود : 73 ) .

والخامس : " " ذكر رحمت ربك " " ( مريم : 2 ) .

والسادس : " " أهم يقسمون رحمت ربك " " ( الزخرف : 32 ) .

والسابع : " " ورحمت ربك خير مما يجمعون " " ( الزخرف : 32 ) .

ومنه ( النعمة ) بالهاء إلا في أحد عشر موضعا مدت بها : في البقرة " " واذكروا نعمت الله عليكم " " ( الآية : 231 ) ، في آل عمران ( الآية : 103 ) . والمائدة ( الآية : 11 ) . وفى إبراهيم موضعان ( الآيتان : 28 ، 34 ) ، والنحل ثلاثة مواضع ( الآيات : 72 و 83 و 114 ) وفي لقمان ( الآية : 31 ) . وفاطر ( الآية : 3 ) . والطور ( الآية : 29 ) .

والحكمة فيها ما ذكرنا أن الحاصلة بالفعل في الوجود تمد ، نحو قوله في إبراهيم : " " وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها " " ( الآية : 34 ) بدليل قوله : إن الإنسان لظلوم كفار ( إبراهيم : 34 ) ، فهذه نعمة متصلة بالظلوم الكفار في تنزيلهما . وهذا بخلاف التي في سورة النحل : وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها ( النحل : 18 ) كتبت مقبوضة لأنها بمعنى الاسم بدليل قوله : إن الله لغفور رحيم ( النحل : 18 ) ; فهذه نعمة وصلت من الرب ، فهي ملكوتية ختمها باسمه عز وجل ، وختم الأولى باسم الإنسان .

ومن ذلك ( الكلمة ) مقبوضة إلا في موضع في الأعراف : " " وتمت كلمت ربك الحسنى " " ( الأعراف : 137 ) [ ص: 41 ] هو ما تم لهم في الوجود الأخروي بالفعل الظاهر دليله في الملك ، وهو الاختلاف وتمامها أن لها نهاية تظهر في الوجود بالفعل فمدت التاء .

ومنها ( السنة ) مقبوضة ; إلا في خمسة مواضع حيث تكون بمعنى الإهلاك والانتقام الذي في الوجود : أحدها في الأنفال : " " فقد مضت سنت الأولين " " ( الأنفال : 38 ) ويدل على أنها في الانتقام قوله قبلها : إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ( الآية : 38 ) ، وقوله بعدها : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ( الآية : 39 ) . وفى فاطر : " " فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا " " ( الآية : 43 ) ويدلك على أنها بمعنى الانتقام قوله تعالى قبلها : ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ( الآية : 43 ) وسياق ما بعدها .

وفى المؤمن : فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله ( غافر : 85 ) أما إذا كانت السنة بمعنى الشريعة والطريقة ، فهي ملكوتية بمعنى الاسم تقبض تاؤها ، كما في الأحزاب : سنة الله في الذين خلوا من قبل ( الآيتان : 38 ، 39 ) أي حكم الله وشرعه ، سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ( الإسراء : 77 ) .

ومنه " " بقيت الله " " ( هود : 86 ) فرد ، مدت تاؤه ; لأنه بمعنى ما يبقى في أموالهم من الربح المحسوس ، لأن الخطاب إنما هو فيها من جهة الملك .

ومنه " " فطرت الله " " ( الروم : 30 ) فرد ، وصفها الله بأنها فطر الناس عليها ، فهي فصل خطاب في الوجود كما جاء : كل مولود يولد على الفطرة الحديث .

ومنه : " " قرت عين لي ولك " " ( القصص : 9 ) فرد ، مدت تاؤه لأنه بمعنى الفعل إذ هو [ ص: 42 ] خبر عن موسى ، وهو موجود حاضر في الملك ، وهذا بخلاف : قرة أعين ( الفرقان : 74 ) ، فإنه هنا بمعنى الاسم ، وهو ملكوتي إذ هو غير حاضر .

ومنه " " ومعصيت الرسول " " ( المجادلة : 8 ، 9 ) مدت في موضعين في سورة المجادلة ; لأن معناها الفعل ، والتقدير : ولا تتناجوا بأن تعصوا الرسول ، ونفس هذا النجو الواقع منهم في الوجود هو فعل معصية لوقوع النهي عنه .

ومنه ( اللعنة ) مدت في موضعين : في آية المباهلة ، وفى آية اللعان ، وكونهما بمعنى الفعل ظاهر .

ومنه ( الشجرة ) في موضع " " إن شجرت الزقوم " " ( الدخان : 43 ) ، لأنها بمعنى الفعل اللازم وهو تزقمها بالأكل ; بدليل قوله تعالى : في البطون ( الدخان : 45 ) فهذه صفة فعل كما في الواقعة : لآكلون من شجر من زقوم ( الآية : 52 ) ، وهذا بخلاف قوله : أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم ( الصافات : 62 ) ، فإن هذه وصفها بأنها : فتنة للظالمين ( الصافات : 63 ) ، إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم ( الصافات : 64 ) ، فهو حلية للاسم ; فلذلك قبضت تاؤها .

ومنه ( الجنة ) مدت في موضع واحد في الواقعة : " " وجنت نعيم " " ( الواقعة : 89 ) لكونها بمعنى فعل التنعم بالنعيم ، بدليل اقترانها بالروح والريحان وتأخرها عنهما وهما من الجنة ، فهذه جنة خاصة بالمنعم بها ، وأما من ورثة جنة النعيم ( الشعراء : 85 ) و أن يدخل جنة نعيم ( المعارج : 38 ) ، فإن هذا بمعنى الاسم الكلي .

ولم تمد : تصلية جحيم ( الواقعة : 94 ) لأنها اسم ما يفعل بالمكذب في الآخرة ، أخبرنا الله بذلك فالمؤمن يعلمه تصديقا ، ولا يحذف لفعل أبدا ، والضابط لذلك : أن ما كان بمعنى الاسم لم تمد تاؤه ، مثل : زهرة الحياة الدنيا ( طه : 131 ) و صبغة الله ( البقرة : 138 ) و زلزلة الساعة ( الحج : 1 ) و تحلة أيمانكم ( التحريم : 2 ) و رحلة الشتاء والصيف ( قريش : 2 ) و حمالة الحطب ( المسد : 4 ) .

[ ص: 43 ] ومنه ومريم ابنت عمران ( التحريم : 12 ) مدت التاء تنبيها على معنى الولادة والحدوث من النطفة المهينة ، ولم يضف في القرآن ولد إلى والد ووصف به اسم الولد إلا عيسى وأمه عليهما السلام ، لما اعتقد النصارى فيهما أنهما إلهان ، فنبه سبحانه بإضافتهما الولادية على جهة حدوثهما بعد عدمهما ، حتى أخبر تعالى في موطن بصفة الإضافة دون الموصوف ، وقال : وجعلنا ابن مريم وأمه آية ( المؤمنون : 50 ) لما غلوا في إلاهيته أكثر من أمه كما نبه تعالى على حاجتهما وتغير أحوالهما في الوجود ، يلحقهما ما يلحق البشر قال الله تعالى : كانا يأكلان الطعام ( المائدة : 75 ) .

ومنه ( امرأة ) هي في سبعة مواضع وهى : خمس من النساء : " " امرأت عمران " " ( آل عمران : 35 ) و " " امرأت فرعون " " ( القصص : 9 والتحريم : 11 ) و " " امرأت نوح " " ( التحريم : 10 ) و " " امرأت لوط " " ( التحريم : 10 ) و " " امرأت العزيز " " ( يوسف : 30 و 51 ) كلها ممدودة . تنبيها على فعل التبعل والصحبة وشدة المواصلة والمخالطة والائتلاف في الموجود والمحسوس ، وأربع منهن منفصلات في بواطن أمرهن عن بعولتهن بأعمالهن . وواحدة خاصة واصلت بعلها باطنا وظاهرا ، وهى امرأة عمران ، فجعل الله لها ذرية طيبة ، وأكرمها بذلك وفضلها على العالمين ، وواحدة من الأربع انفصلت بباطنها عن بعلها طاعة لله ، وتوكلا عليه وخوفا منه ، فنجاها وأكرمها ، وهى امرأة فرعون ، واثنتان منهن انفصلتا عن أزواجهما كفرا بالله فأهلكهما الله ودمرهما ، ولم ينتفعا بالوصلة الظاهرة ، مع أنها أقرب وصلة بأفضل أحباب الله . كما لم تضر امرأة فرعون وصلتها الظاهرة بأخبث عبيد الله ، وواحدة انفصلت عن بعلها بالباطن اتباعا للهوى وشهوة نفسها ، فلم تبلغ من ذلك مرادها مع تمكنها من الدنيا واستيلائها على ما مالت إليه بحبها وهو في بيتها وقبضتها ، فلم يغن ذلك عنها شيئا ، وقوتها وعزتها إنما كانا لها من بعلها " العزيز " ولم ينفعها ذلك في الوصول إلى إرادتها مع عظيم كيدها ، كما لم يضر يوسف ما امتحن به منها ، ونجاه الله من السجن ، ومكن له في الأرض ، وذلك بطاعته لربه ، ولا سعادة إلا بطاعة الله ، ولا شقاوة إلا بمعصيته ; فهذه كلها عبر وقعت بالفعل في الوجود ، في شأن كل امرأة منهن فلذلك مدت تاءاتهن .

التالي السابق


الخدمات العلمية