صفحة جزء
[ ص: 44 ] فصل

في الفصل والوصل

اعلم أن الموصول في الوجود توصل كلماته في الخط ; كما توصل حروف الكلمة الواحدة ، والمفصول معنى في الوجود يفصل في الخط ، كما تفصل كلمة عن كلمة .

فمنه " إنما " بالكسر كله موصول إلا واحدا : إن ما توعدون لآت ( الأنعام : 134 ) ، لأن حرف " ما " هنا وقع على مفصل ; فمنه خير موعود به لأهل الخير ، ومنه شر موعود به لأهل الشر ; فمعنى " ما " مفصول في الوجود والعلم .

ومنه " أنما " بالفتح ، كله موصول إلا حرفان : وأن ما يدعون من دونه هو الباطل ( الحج : 62 ) ، وأن ما يدعون من دونه الباطل ( لقمان : 30 ) ، وقع الفصل عن حرف التوكيد ; إذ ليس لدعوى غير الله وصل في الوجود ; إنما وصلها في العدم والنفي ; بدليل قوله تعالى عن المؤمن : أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة ( غافر : 43 ) فوصل أنما في النفي ، وفصل في الإثبات ، لانفصاله عن دعوة الحق .

ومنه كلما موصول كله إلا ثلاثة : في النساء : " " قومهم كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها " " ( الآية : 91 ) فما ردوا إليه ليس شيئا واحدا في الوجود ، بل أنواع مختلفة في الوجود ، وصفة مردهم ليست واحدة بل متنوعة ، فانفصل " ما " لأنه لعموم شيء مفصل في الوجود .

وفي سورة إبراهيم : وآتاكم من كل ما سألتموه ( الآية : 34 ) فحرف " ما " واقع على أنواع مفصلة في الوجود .

وفى قد أفلح : كل ما جاء أمة رسولها كذبوه ( المؤمنون : 44 ) ، والأمم مختلفة في الوجود ، فحرف " ما " وقع على تفاصيل موجودة لتفصل .

وهذا بخلاف قوله : كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون ( المائدة : 70 ) فإن هؤلاء هم بنو إسرائيل أمة واحدة ; بدليل قوله : فلم تقتلون أنبياء الله ( البقرة : 91 ) [ ص: 45 ] والمخاطبون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتلوا الأنبياء ، إنما باشره آباؤهم ، لكن مذهبهم في ذلك واحد ، فحرف " ما " إنما يشمل تفاصيل الزمان ، وهو تفصيل لا مفصل له في الوجود إلا بالفرض والتوهم لا بالحس ، فوصلت " كل " لاتصال الأزمنة في الوجود ، وتلازم أفرادها المتوهمة .

وكذلك كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا ( البقرة : 25 ) ، هذا موصول لأن حرف " ما " جاء لتعميم الأزمنة ، فلا تفصيل فيها في الوجود ، وما رزقوا هو غير مختلف لقوله تعالى : وأتوا به متشابها ( البقرة : 25 ) .

ومنه " أينما " موصول إذا كانت " ما " غير مختلفة الأقسام في الفعل الذي بعدها ; مثل : أينما يوجهه ( النحل : 76 ) ، فأينما تولوا ( البقرة : 115 ) ، أينما ثقفوا أخذوا ( الأحزاب : 61 ) ، أينما تكونوا يدرككم الموت ( النساء : 78 ) ; فهذه كلها لم تخرج عن " الأين " الملكي ، وهو متصل حسا ولم يختلف فيه الفعل الذي مع " ما " .

وتفصل " أين " حيث تكون " ما " مختلفة الأقسام في الوصف الذي بعدها ، مثل : أين ما كنتم تعبدون ( الشعراء : 92 ) ، وهو معكم أين ما كنتم ( الحديد : 4 ) ، أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس ( آل عمران : 112 ) .

ومنه " بئسما " مفصول ، إلا ثلاثة أحرف : اثنان في البقرة : بئسما اشتروا به أنفسهم ( البقرة : 90 ) ، بئسما يأمركم به إيمانكم ( البقرة : 93 ) وفي الأعراف : بئسما خلفتموني ( الأعراف : 150 ) .

فحرف " ما " ليس فيه تفصيل ، لأنه بمعنى واحد في الوجود من جهة كونه باطلا مذموما ، على خلاف حال " ما " في المائدة : ترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون ( المائدة : 62 ) ، فحرف [ ص: 46 ] ما يشتمل على الأقسام الثلاثة التي ذكرت قبل . وكذلك : لبئس ما قدمت لهم أنفسهم ( المائدة : 80 ) حرف " ما " مفصول ; لأنه يشمل ما بعده من الأقسام .

ومنه : يوم هم على النار يفتنون ( الذاريات : 13 ) ، يوم هم بارزون ( غافر : 16 ) ، حرفان فصل الضمير منهما لأنه مبتدأ ، وأضيف " اليوم " إلى الجملة المنفصلة عنه . و يومهم الذي فيه يصعقون ( الطور : 45 ) و يومهم الذي يوعدون ( الزخرف : 83 ) وصل الضمير لأنه مفرد ; فهو جزء الكلمة المركبة من " اليوم " المضاف والضمير المضاف إليه .

‌‌‌‌ومنه " في ما " مفصول أحد عشر حرفا : في البقرة في ما فعلن في أنفسهن من معروف ( الآية : 240 ) ، وذلك لأن ما يقع على فرد واحد من أنواع ينفصل بها المعروف في الوجود [ و ] على البدلية أو الجمع ; يدل على ذلك تنكيره " المعروف " ودخول حرف التبعيض عليه ، فهو حسي يقسم ، وحرف " ما " وقع على كل واحد منهما على البدلية أو الجمع ، وأما قوله : فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف ( البقرة : 234 ) ، فهذا موصول لأن " ما " واقعة على شيء واحد غير مفصل ، يدلك عليه وصفه بالمعروف .

وكذلك : في ما اشتهت أنفسهم خالدون ( الأنبياء : 102 ) ، وهو مفصول ; لأن شهوات الأنفس مختلفة أو مفصلة في الوجود كذلك ، فتدبره في سائرها .

ومنه : ( لكيلا ) موصول في ثلاثة مواضع ; وباقيها منفصل ; وإنما يوصل حيث يكون حرف النفي دخل على معنى كلي فيوصل ; لأن نفي الكلي نفي لجميع جزئياته ، فعلة نفيه هي علة نفي أجزائه ، وليس للكلي المنفي أفراد في الوجود ، وإنما ذلك فيه بالتوهم ، ويفصل حيث يكون حرف النفي دخل على جزئي فإن نفي الجزئي لا يلزم منه نفي الكلي فلا تكون علته علة نفي الجمع .

لكيلا يعلم من بعد علم شيئا في الحج ( الآية : 5 ) ، وفى الأحزاب : لكيلا يكون عليك حرج ( الآية : 50 ) ، وفى الحديد : لكيلا تأسوا على ما فاتكم ( الآية : 23 ) .

[ ص: 47 ] فهذه هي الموصولة وهي بخلاف : لكي لا يعلم بعد علم شيئا ( الآية : 70 ) في النحل ; لأن الظرف في هذا خاص الاعتبار ; وهو في الأول عام الاعتبار ; لدخول " من " عليه ، وهذا كقوله تعالى عن أهل الجنة : إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين ( الطور : 26 ) اختص المظروف بـ " قبل " في الدنيا ، ففيها كانوا مشفقين خاصة ، وقال تعالى : إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم ( الطور : 28 ) ، فهذا الظرف عام لدعائهم بذلك في الدنيا والآخرة ، فلم يختص المظروف بـ " قبل " بالدنيا .

وكذلك : لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا ( الأحزاب : 37 ) ، فهذا المنفي هو حرج مقيد بظرفين .

وكذلك : كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ( الحشر : 7 ) فهذا النفي هو كون : ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ( الحشر : 7 ) دولة بين الأغنياء من المؤمنين ، وهذه قيود كثيرة .

ومن ذلك " هم " ونحوه من الضمائر تدل على جملة المسمى من غير تفصيل ، والإضمار حال لا صفة وجود ، فلا يلزمها التقسيم الوجودي إلا الوهمي الشعري والخطأ بما يرسم على العلم الحق .

ومن ذلك " مال " أربعة أحرف مفصولة ; وذلك أن اللام وصلة إضافية ، فقطعت حيث تقطع الإضافة في الوجود .

فأولها في سورة النساء : فمال هؤلاء القوم ( النساء : 78 ) ، هذه الإشارة للفريق الذين نافقوا من القوم الذين قيل لهم : كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة ( النساء : 77 ) ، فقطعوا وصل السيئة بالحسنة في الإضافة إلى الله ففرقوا بينهما ، كما أخبر سبحانه ، والله قد وصل ذلك وأمر به في قوله : قل كل من عند الله ( النساء : 78 ) فقطعوا في الوجود ما أمر الله به أن يوصل ، فقطع لام وصلهم في الخط علامة لذلك ، وفيه تنبيه على أن الله يقطع وصلهم [ ص: 48 ] بالمؤمنين ; وذلك في [ يوم الفصل ] : يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم ( الحديد : 13 ) .

والثاني في سورة الكهف : ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ( الآية : 49 ) ، وهؤلاء قطعوا بزعمهم وصل جعل الموعد لهم بوصل إحصاء الكتاب ، وعدم مغادرته لشيء من أعمالهم في إضافتها إلى الله ، فلذلك ينكرون على الكتاب في الآخرة ، ودليل ذلك ظاهر من سياق خبرهم في تلك الآيات من الكهف .

والثالث في سورة الفرقان : وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ( الآية : 7 ) فقطعوا وصل الرسالة لأكل الطعام فأنكروا ، فقطعوا قولهم هذا ليزول عن اعتقادهم أنه رسول ، فقطع اللام علامة لذلك .

والرابع في المعارج : فمال الذين كفروا قبلك مهطعين ( الآية : 36 ) هؤلاء الكفار تفرقوا جماعات مختلفات كما يدل عليه : عن اليمين وعن الشمال عزين ( المعارج : 37 ) قطعوا وصلهم في قلوبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فقطع الله طمعهم في دخول الجنة ، ولذلك قطعت اللام علامة عليه .

ومن ذلك : ابن أم في الأعراف ( الآية : 150 ) في الأعراف مفصول على الأصل ، وفى طه : " " ابنؤم " " ( الآية : 94 ) موصول لسر لطيف ، وهو أنه لما أخذ موسى برأس أخيه اعتذر إليه فناداه من قرب على الأصل الظاهر في الوجود ، ولما تمادى ناداه بحرف النداء ينبهه لبعده عنه في الحال ، لا في المكان ، مؤكدا لوصلة الرحم بينهما بالربط ; فلذلك وصل في الخط ، ويدل عليه نصب الميم ليجمعهما الاسم بالتعميم .

ومن ذلك ستة أحرف لا توصل بما بعدها ، وهى : الألف ، والواو ، والدال ، والذال ، والراء ، والزاي ; لأنها علامات لانفصالات ونهايات ، وسائر الحروف توصل في الكلمة الواحدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية