صفحة جزء
[ ص: 67 ] النوع الثامن والعشرون

هل في القرآن شيء أفضل من شيء ؟

وقد اختلف الناس في ذلك ، فذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري ، والقاضي أبو بكر ، [ ص: 68 ] وأبو حاتم بن حبان وغيرهم إلى أنه لا فضل لبعض على بعض ; لأن الكل كلام الله ، وكذلك أسماؤه تعالى لا تفاضل بينهما . وروي معناه عن مالك ; قال يحيى بن يحيى : تفضيل بعض القرآن على بعض خطأ ، وكذلك كره مالك أن تعاد سورة أو تردد دون غيرها ، احتجوا بأن الأفضل يشعر بنقص المفضول ، وكلام الله حقيقة واحدة لا نقص فيه .

قال ابن حبان في حديث أبي بن كعب رضي الله عنه : ما أنزل الله في التوراة ولا في [ ص: 69 ] الإنجيل مثل أم القرآن : إن الله لا يعطي لقارئ التوراة والإنجيل من الثواب مثل ما يعطي لقارئ أم القرآن إذ الله بفضله فضل هذه الأمة على غيرها من الأمم ، وأعطاها من الفضل على قراءة كلامه أكثر مما أعطى غيرها من الفضل على قراءة كلامه - قال - وقوله أعظم سورة أراد به في الأجر لا أن بعض القرآن أفضل من بعض .

وقال قوم بالتفضيل لظواهر الأحاديث ، ثم اختلفوا فقال بعضهم : الفضل راجع إلى عظم الأجر ومضاعفة الثواب ، بحسب انفعالات النفس وخشيتها وتدبرها وتفكرها عند ورود أوصاف العلا ، وقيل بل يرجع لذات اللفظ ، وأن ما تضمنه قوله تعالى : وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ( البقرة : 163 ) ، وآية الكرسي ، وآخر سورة الحشر ، وسورة الإخلاص من الدلالات على وحدانيته وصفاته ، ليس موجودا مثلا في : تبت يدا أبي لهب ( اللهب : 1 ) وما كان مثلها ; فالتفضيل إنما هو بالمعاني العجيبة وكثرتها ; لا من حيث الصفة ، وهذا هو الحق .

[ ص: 70 ] وممن قال بالتفضيل إسحاق بن راهويه وغيره من العلماء .

وتوسط الشيخ عز الدين ، فقال : كلام الله في الله أفضل من كلام الله في غيره ، ف قل هو الله أحد ( الإخلاص : 1 ) أفضل من تبت يدا أبي لهب ( اللهب : 1 ) ، وعلى ذلك بنى الغزالي كتابه المسمى بجواهر القرآن واختاره القاضي أبو بكر بن العربي ، لحديث أبي سعيد بن المعلى في صحيح البخاري : إني لأعلمك سورة هي أعظم السور في القرآن ، قال : الحمد لله رب العالمين ( الفاتحة : 2 ) .

ولحديث أبي بن كعب في الصحيحين قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي آية في كتاب الله أعظم ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : يا أبي ، أتدري أي آية في كتاب الله أعظم ؟ قال : قلت : الله لا إله إلا هو الحي القيوم ( البقرة : 255 ) قال : فضرب في صدري ، وقال : ليهنك العلم أبا المنذر .

[ ص: 71 ] وأخرج الحاكم في مستدركه بسند صحيح عن أبي هريرة : سيدة آي القرآن آية الكرسي .

وفي الترمذي غريبا عنه مرفوعا : لكل شيء سنام ، وإن سنام القرآن سورة البقرة فيها آية الكرسي .

وروى ابن عيينة في " جامعه " عن أبي صالح عنه : فيها آية الكرسي ، وهى سنام آي القرآن ، ولا تقرأ في دار فيها شيطان إلا خرج منها . وهذا لا يعارض ما قبله بأفضلية الفاتحة ; لأن تلك باعتبار السور ، وهذه باعتبار الآيات .

وقال القاضي شمس الدين الخويي : كلام الله كله أبلغ من كلام المخلوقين ، وهل يجوز أن يقال : بعض كلامه أبلغ من بعض ؟ جوزه بعضهم لقصور نظرهم . وينبغي أن يعلم أن معنى قول القائل : هذا الكلام أبلغ من هذا الكلام ، أن هذا في موضعه له حسن ولطف ، وذاك في موضعه له حسن ولطف ، وهذا الحسن في موضعه أكمل من ذاك في موضعه . فإن من قال : إن قل هو الله أحد ( الإخلاص : 1 ) أبلغ من تبت يدا أبي لهب ( اللهب : 1 ) يجعل المقابلة بين ذكر الله وذكر أبي لهب ، وبين التوحيد والدعاء على الكافرين ، وذلك غير صحيح ، بل ينبغي أن يقال : تبت يدا أبي لهب دعاء عليه بالخسران ، فهل توجد عبارة للدعاء بالخسران أحسن من هذه ؟ ! وكذلك في قل هو الله أحد لا توجد عبارة تدل على الوحدانية أبلغ منها ، فالعالم إذا نظر إلى تبت يدا أبي لهب وتب في باب الدعاء والخسران ونظر إلى قل هو الله أحد في باب التوحيد لا يمكنه أن يقول : أحدهما أبلغ من الآخر وهذا القيد يغفل عنه بعض من لا يكون عنده علم البيان .

[ ص: 72 ] قلت : ولعل الخلاف في هذه المسألة يلفت عن الخلاف المشهور : إن كلام الله شيء واحد أو لا ; عند الأشعري أنه لا يتنوع في ذاته إنما هو بحسب متعلقاته .

فإن قيل : فقد قال تعالى : منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ( آل عمران : 7 ) فجعله شيئين ، وأنتم تقولون بعدمه ، وأنه صفة واحدة .

قلنا : من حيث إنه كلام الله لا مزية لشيء منه على شيء ، ثم قولنا : " شيء منه " يوهم التبعيض ، وليس لكلام الله الذي هو صفته بعض ، ولكن بالتأويل والتفسير وفهم السامعين اشتمل على جميع أنواع المخاطبات ، ولولا تنزله في هذه المواقع لما وصلنا إلى فهم شيء منه .

وقال الحليمي : قد ذكرنا أخبارا تدل على جواز المفاضلة بين السور والآيات ، وقال الله تعالى : نأت بخير منها أو مثلها ( البقرة : 106 ) ومعنى ذلك يرجع إلى أشياء :

أحدها : أن تكون آيتا عمل ثابتتان في التلاوة ، إلا أن إحداهما منسوخة والأخرى ناسخة ، فنقول : إن الناسخ خير ، أي أن العمل بها أولى بالناس وأعود عليهم ، وعلى هذا فيقال : آيات الأمر والنهي والوعد والوعيد خير من آيات القصص ; لأن القصص إنما أريد بها تأكيد الأمر والنهي والتبشير ولا غنى بالناس عن هذه الأمور ، وقد يستغنون عن القصص ، فكل ما هو أعود عليهم وأنفع لهم مما يجري مجرى الأصول خير لهم مما يحصل تبعا لما لا بد منه .

والثاني أن يقال : إن الآيات التي تشتمل على تعديد أسماء الله تعالى وبيان صفاته والدلالة على عظمته وقدسيته أفضل أو خير ، بمعنى أن مخبراتها أسنى وأجل قدرا .

والثالث أن يقال : سورة خير من سورة أو آية خير من آية ، بمعنى أن القارئ يتعجل بقراءتها فائدة سوى الثواب الآجل ، ويتأدى منه بتلاوتها عبادة ، كقراءة آية الكرسي ، وسورة الإخلاص ، والمعوذتين ; فإن قارئها يتعجل بقراءتها الاحتراز مما يخشى ، والاعتصام [ ص: 73 ] بالله جل ثناؤه ، ويتأدى بتلاوتها منه لله تعالى عبادة ، لما فيها من ذكر اسم الله تعالى جده بالصفات العلا على سبيل الاعتقاد لها ، وسكون النفس إلى فضل الذكر وبركته ; فأما آيات الحكم فلا يقع بنفس تلاوتها إقامة حكم ، وإنما يقع بها علم وإذكار فقط ، فكان ما قدمناه قبلها أحق باسم الخير والأفضل .

قال : ثم لو قيل في الجملة : إن القرآن خير من التوراة والإنجيل والزبور ، بمعنى أن التعبد بالتلاوة والعمل واقع به دونها ، والثواب يحسب بقراءته لا بقراءتها ، أو أنه من حيث الإعجاز حجة النبي المبعوث ، وتلك الكتب لم تكن معجزة ، ولا كانت حجج أولئك الأنبياء بل كانت دعوتهم والحجج غيرها ; وكان ذلك أيضا نظير ما مضى .

وقد يقال : إن سورة أفضل من سورة ; لأن الله تعالى اعتد قراءتها كقراءة أضعافها مما سواها ، وأوجب بها من الثواب ما لم يوجب بغيرها ، وإن كان المعنى الذي لأجله بلغ بها هذا المقدار لا يظهر لنا ، كما يقال : إن يوما أفضل من يوم ، وشهرا أفضل من شهر ; بمعنى أن العبادة فيه تفضل على العبادة في غيره ، والذنب يكون أعظم من الذنب منه في غيره . وكما يقال : إن الحرم أفضل من الحل لأنه يتأدى فيه من المناسك ما لا يتأدى في غيره ، والصلاة فيه تكون كصلاة مضاعفة مما تقام في غيره . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية